(الديمقراطية غير المكتملة في السودان).. قراءة في أول كتاب أجنبي يوثق للثورة السودانية

صدر حديثا أول كتاب تناول أحداث الثورة السودانية، تكوينها، أهدافها، العثرات والتحديات التي تتعرض لها، جاء الكتاب بعنوان: (الديمقراطية غير المكتملة في السودان: الوعد وخيانة الثورة)
 
اعداد: سحر احمد

ثورة مستمرة:
مؤلفي الكتاب هم نشطاء وصحفيون وأكاديميون لديهم معرفة بالسياسة السودانية، من بينهم أليكس دي وال، وهو باحث بريطاني في سياسة النخبة الإفريقية، يشغل موقع المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس. وويلو بريدج أستاذة التاريخ بجامعة نيو كاسل، وهي مهتمة بالشأن السياسي في السودان وقد ألفت كتابا بعنوان (الانتفاضات المدنية في السودان الحديث)، لديها العديد من المؤلفات في الشأن السوداني، من بينها “حسن الترابي وسياسات الإسلاميين”. إضافة إلى جوستين لينش وهو كاتب وباحث مهتم بالشأن السياسي السوداني.

يتناول الكتاب قصة الثورة السودانية لعام 2019. كيف نجحت في إسقاط حكم الرئيس عمر البشير الذي طال أمده؛ ومتطرقا إلى الحكومة الانتقالية المضطربة بقيادة المدنيين التي حلت مكانه. ويشخص الكتاب بدقة الانتفاضة السلمية في سياقها التاريخي، ويوضح كيف استند المتظاهرون إلى سوابق الثورات المدنية السابقة وتكييف ممارساتهم مع تحديات نظام البشير.

يستكشف الكتاب أيضًا كيف جثا هذا النظام على ركبتيه، في إشارة على عدم قدرته على إدارة الأزمات الاقتصادية والسياسية المتقاطعة الناجمة عن انفصال جنوب السودان وفقدان عائدات النفط، إلى جانب التوسع غير المنضبط لجهاز أمني مترامي الأطراف.
ويشير الكتاب إلى أن الثورة السودانية بدأت في نهاية ديسمبر 2018 بسبب أزمة تكاليف المعيشة والمشاكل الاقتصادية المتزايدة التي أدت إلى اندلاع احتجاجات في الشوارع تطورت إلى مطالب بتنحي الرئيس عمر البشير. وشهدت الثورة العديد من التقلبات منذ ذلك الحين، بما في ذلك القمع والعنف من قبل النظام العسكري الذي تدخل بعد سقوط البشير في عام 2019.

واتسمت الثورة باحتجاجات وإضرابات جماهيرية ، وبشكل ملحوظ، نمو الهيئات التنظيمية الثورية الديمقراطية. – المعروفة بلجان المقاومة – التي أخذت على عاتقها مهمة تنظيم الحراك، والعملية الثورية، وبحسب النقاد الذين استعرضو الكتاب، فإن الثورة لم تنته بعد – خاصة وإن الأسابيع الأخيرة شهدت عودة  الاحتجاجات الجماهيرية – وتوقع النقاد في عرضهم للكتاب أن تصبح الثورة السودانية حدثًا ثوريًا هامًا للطبقة العاملة في القرن الحادي والعشرين.

حكومة بلا نفوذ:
دعا المتظاهرون المدنيون – وفقًا للكتاب- إلى تحول شامل في السياسة السودانية، متطلعين إلى حكم ديمقراطي، لكنهم وجدوا أنفسهم في صراع مع مجموعة من الجنرالات لا تزال مهيمنة، بفضل داعمين إقليميين أقوياء وقبضة قوية على مفاصل الاقتصاد. في وقت، وجدت فيه الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك نفسها، منقسمة داخليًا، وتواجه أزمة اقتصادية عميقة، اضافة إلى أنها في موقع السلطة، ولكن دون اي سلطة حقيقية، وغير قادرة على تغيير سلوك العمل السياسي كالمعتاد.

القت ثلاثة عقود من حكم البشير بظلالها على السياسات السودانية الأخيرة. سيما وأن حكم البشير اورث أزمات سياسية عديدة بما في ذلك أزمة دارفور، وانفصال جنوب السودان، ويعتبر النقاد ان قوة الكتاب تتمثل في إرشاد القارئ عبر عدد لا يحصى من المصالح السياسية والفردية المتداخلة التي تشكل خلفية عهد البشير. يساعد هذا أيضًا في فهم بعض القوات والمنظمات العسكرية وشبه العسكرية التي تواصل تشكيل السياسة السودانية. معتبرين أنه من المفيد أن يقوم المؤلفون بتجذير هذا التاريخ الحديث في السياق الأوسع للحكم الاستعماري.
مشيرين إلى أن القوة الأخرى للكتاب هي استكشافه لخلفية المنظمات التي شكلت العمود الفقري للحركة الثورية. وينبغي أخذ هذا الجانب وفقا للكتاب بحذر، حيث تتمتع مجموعات مثل تجمع المهنيين السودانيين  بجذور عميقة في السياسة السودانية، على الرغم من أن دورها في إطلاق الثورة كان ضئيلاً. لكن النشطاء والمجموعات داخل تجمع المهنيين السودانيين لعبوا دورًا مهمًا في إبقاء الاحتجاجات المناهضة للحكومة حية، حتى لو كان دورهم المباشر في ثورة ديسمبر 2018 ضئيلا.

ويجادل المؤلفون بأن تجمع المهنيين السودانيين هو تجمع معقد ، لكنه كان مفتاحًا لتطوير المزيد من الجماعات الثورية وخاصة لجان المقاومة. ويقول المؤلفون أن “الروابط الشخصية ساعدتهم على العمل، فقد تم استخدام العلاقات الشخصية للأفراد لتجمييع المتظاهرين في الشوارع عن طريق الاتصال بهم. 

كان تجمع المهنيين سريًا بدافع الضرورة . ويجادل المؤلفون في هذا الجانب، بأن الأمر جعل من عدم الكشف عن هوية التجمع وافتقاره للقادة فضيلة، “منظمة مجهولة الهوية”. لكن هذا تسبب في مشاكل. عندما أطاحت الثورة بالبشير، تم استدعاء تجمع المهنيين السودانيين للتفاوض مع الحكومة، لكن لم تكن لديه سياسة واضحة ولا قيادة واضحة يمكن للجيش أن يتفاوض معها. كان الافتقار إلى القيادة وغياب السياسة الواضحة يعني أن الجيش كان قادرًا على مناورة تجمع المهنيين السودانيين، و”كلما طالت المحادثات، أصبح المدنيون أضعف”.

اعتصام القيادة:

اعتبر المؤلفون أن اعتصام القيادة شكل اللحظة الحاسمة في الثورة، وهي إقامة اعتصام احتجاجي شعبي منظم ذاتيًا خارج مقر قيادة الجيش السوداني. شارك فيه مئات الآلاف ومن المرجح أن يفوق في مشاركته الديمقراطية وتنظيمه الذاتي إنجازات ميدان التحرير خلال الثورة المصرية.
ويعتبر الاعتصام بمثابة محك للمؤلفين الذين لا يرون فيه مجرد حركة احتجاجية ثورية ولكن نموذجًا بديلًا للمجتمع السوداني. 

على هذا النحو، يجادل المؤلفون بأن الاعتصام شكّل تهديدًا هائلاً للحكم العسكري. ويقولون إن ديمقراطيته كانت تحديا مباشرا لثلاثين عاما من الحكم السوداني. ومع مرور الوقت، أخر العسكر المفاوضات مما أدى إلى تآكل الاعتصام، وساعد على تقويض القوة الأساسية للثورة. وفي نهاية المطاف، كان عليهم أن يطلقوا العنان للقوة الوحشية ضده، وفضوا الاحتجاج بالقتل. لا شك في أن الاعتصام كان مهمًا وتحديًا هائلاً للإطار السياسي للعسكر، ولا يمكن التسامح معه بعد الأشهر الأولى من الثورة.
ويأتي فض الاعتصام بعد إضراب عام دعا إليه تجمع المهنيين السودانيين في محاولة لدفع المفاوضات إلى الأمام (كان الشعار من أجل “النصر الكامل” للثورة). ايضا كان رد فعل عسكري ليس فقط على الاعتصام، ولكن أيضًا على القوة المتنامية للثورة كما عبرت عنها الإضرابات الجماهيرية. كانت هذه محاولة من العسكر لكسر الجمود، مثلما كان العصيان المدني محاولة من تجمع المهنيين السودانيين. وسرعان ما أُلغي الإضراب مع دخول العسكر المفاوضات ووقع تجمع المهنيين السودانيين اتفاقية لتقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في أغسطس 2019. اعتبرها المؤلفون كارثة وانها مهدت الطريق للانقلاب العسكري الذي أعقب ذلك.

وبحسب النقاد فإن 
تم وصف كل هذه التقلبات والمنعطفات بشكل جيد من قبل المؤلفين ويجب على القراء الذين يحاولون الالمام بسياسات الثورة السودانية دراستها. لكن النقاد يرون أن الإطار الذي استخدمه المؤلفون غير كافٍ. خاصة أنه يبدو أن هناك التقليل من أهمية الإضرابات العمالية في مسار الثورة. وهذا يعني أن المؤلفين لا يرون قوة بديلة للجيش داخل الثورة. بالنسبة لهم، الثورة هي الاعتصام.

وبحسب النقاد فقد رفض المؤلفون مرارًا وتكرارًا السياسات الاشتراكية الثورية، على الرغم من أنهم يميلون إلى ربط ذلك بسياسات الحزب الشيوعي. على هذا النحو يري النقاد أنهم يفتقدون الرؤى التي قد تقدمها الثورة الروسية.

هناك، على سبيل المثال، كانت قوة المجالس العمالية خلال فترة السلطة المزدوجة عام 1917 كافية لكسر رتب الجنود وفصلهم من الجنرالات. وكان يُنظر إلى ديناميكية مماثلة على أنها بداية الثورة السودانية، لكن الفشل في تطوير هذه القوة البديلة داخل المجتمع يعني أن الجيش يمكن أن يعيد تجميع صفوفه. 

أمضى العسكر فترة ما بعد سقوط البشير في ترسيخ سلطته على الدولة السودانية. يؤكد مؤلفو كتاب الديمقراطية غير المكتملة في السودان على قوة” السلمية” واللاعنف في إسقاط الديكتاتور، لكنهم لم يقدموا خارطة طريق للمضي قدمًا في ذلك. سيما وأن الاستراتيجية التي يدافعون عنها لا يمكن أن تتحدى سلطة الدولة. وأوضح الناقد ان إهمال الكتاب للنضالات العمالية بشكل خاص يعني أن المؤلفين لا يستطيعون تصور هذه القوة تتطور ، ومن هنا جاءت الاستنتاجات المتشائمة المذكورة أعلاه. ويبرز السؤال المطروح على الثوار في السودان اليوم ليس فقط كيف يمكنهم الانتصار؟، ولكن إلى أين تتجه الثورة؟!. هل تحاول ببساطة تحقيق نوع الديمقراطية المؤيدة للسوق التي تريدها القوى الغربية؟! أم أنها تسير في اتجاه إعادة تشكيل أكثر جذرية للمجتمع من الألف إلى الياء.

ويشير النقاد إلى أن الثورة السودانية لم تنته بعد، رغم أن اتجاهها التالي لم يتضح بعد. لكن هناك شيء واحد يمكن قوله هو أن السنوات الثلاث الماضية كانت شاهدا على شجاعة هائلة من جانب الفرد السوداني العادي. ورغم كل النقد الذي وجه للكتاب، إلا إن مؤلفي كتاب الديمقراطية غير المكتملة في السودان يتفهمون هذا ويحتفون به بالتأكيد. وهذا هو سبب كونه كتاباً يمكن أن يساعد الجميع على فهم ما يحدث في هذه الثورة غير المكتملة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.