السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب: يا حبيبنا ود الحاوي.. شعب السودان بريد(ك)

… في البواخر العابرة والقطارات التي أنهك سيرها تباعُد الأحِبّة، وعلى امتداد القُرى والمدائن، ظلّ مكتب البريد ووكيل البوستة محروساً بقلوب المُحبين وآهات المشتاقين قبل أن تحرسه فرق الحراسة، ولم يكن وكيل البوستة إلا حاملاً لأختام البشارات قبل أن يكون موظفاً في إدارات ووزارات البريد، ولم يؤدِ تطور التقانة في كل أنحاء الدنيا إلا للمزيد من الفاعلية في إيصال رسائل نكتبها بدم الشريان.. وانطلاقاً من قواعد فقه العواطف التي أرست مبدأ “حبيبي أكتب لي.. وأنا أكتب ليك” ظل البريد بطوابعه وأختامه ساحة ثرّة لإبداعات الشعراء والمغنين الذين تغنوا لحمام الزاجل “أنا عندي ليك رسائل.. أنا عندي ليك” وتابعوا مسار الطير المهاجر الذي وإن تعب منه جناح زاد في سرعته بلوغاً لحبيبة “تشتغل منديل حرير لحبيب بعيد”.

في كل ذلك شكل البريد قطعة “مميزة” في دواخلنا على لغة إدارات الأراضي.. وكانت طوابع البريد في كل ذلك تسجل تاريخنا وأسماء عظمائنا وصور مشاريعنا القومية، وظلت معرضاً عالمياً تنقله يومياً إلى أركان الدنيا المختلفة الطائرات العملاقة ووسائل النقل الأخرى، كما ظلت الدول تتبارى في تخليد أيقوناتها عن طريق تخصيص طوابع بريد تحمل صورهم وسمتهم.. في أغانينا وأشعارنا شهدنا كل ذلك.. غنينا “للبريدو.. مالو اتأخر بريدو” وأحزننا ان “مافي حتى رسالة واحدة.. بيها اتصبر شوية.. والوعد بيناتنا انك.. كل يوم تكتب اليا” وهمسنا في أذن ساعي البريد مرددين “بالله يا ساعي البريد.. سلم على الزول البعيد.. قوليهو غيرك ما بريد”.

وللعشاق “ميثاق” استخدم أحدهم “الفصل السابع” العقابي فيه حيث طلب من حبيبه “انتا.. رجع لي رسائلي.. والرسائل العندي شيلا.. شيلا.. والصور لو درتا برضو… وكل ذكرة ريد جميلة.. شيلا…”.

طافت هذه الخواطر بذهني وأنا أطالع ما أوردته الوسائط الإعلامية من خبر استثنائي وغير مسبوق وهو إصدار دولة قطر لطابع بريد يحمل صورة الموسيقار الكبير عبد اللطيف خضر ود الحاوي، فيا له من تكريم.. ويا له من مكرم، بل هو تكريم للموسيقى والإبداع السوداني قاطبة… ظل ود الحاوي طوال العقود الماضية يزين الساحة الفنية بروائع ألحانه قبل أن يصطاد القطريون أجمل لآلينا فيذهب عبد اللطيف للعمل هناك في عدة مواقع موسيقية مهمة ويتوهّج إبداعه.

كان الملايين يتابعونه عبر الإذاعة السودانية وشاشات التلفزة ممسكاً بآلة الأكورديون أو الجيتار، وهو يضفي ألقاً وجمالاً وتماسكاً وحيويةً لأغانينا.. نبعت أجمل الألحان من صدر ود الحاوي وخرجت من أنامله كذلك أحلى صولات الأغاني والمقطوعات.. ظلّ بابتسامة صبوحة لا تفارق محياه وبقامة مديدة أغلى كنوزنا، كما ظل في تعاملاته مع أطياف الفنانين المختلفة نموذجاً للصدق والتميُّز والخُلُق الرفيع.. وقد شكّل ود الحاوي ببصمته الإبداعية مدرسة سيخلدها تاريخ الأغنية السودانية وكانت ألحانه تصنع الفرق؛ من بين سائر ألحان الفنانين الأخرى مسنوداً بموهبة لحنية نادرة وبدراسته بسلاح الموسيقى بالسودان ومعهد الموسيقى العربية بمصر، كما عمل أستاذاً لها.

بأكثر من ثلاثمائة من الأعمال المسجلة داخلياً وبإذاعات خارجية تعاون ود الحاوي مع العديد من الفنانين، وإن كان لإبراهيم عوض قدحها المعلى فلحن له على سبيل المثال لا الحصر “غاية الآمال” و”المصير” و”يا زمن” و”ابقى ظالم” و”وسيم الطلعة” و”قلبك حجر” و”ما بقدر أقول”.. ولحن لحمد الريح “بين اليقظة والأحلام” و”شالو الكلام” ولصلاح ابن البادية “سال من شعرها الذهب” وعثمان حسين “تسابيح” ولعثمان مصطفى “ما بعاتبك ما بلومك” و”راح الميعاد”.. وللأمين عبد الغفار “اشيل الريد” و”ما سلامك” لمجذوب أونسة.. ولحن لعبد العزيز المبارك “أحلى جارة”.. و”سحروك ولا أدوك عين” لنجم الدين الفاضل.. ولحن لخوجلي عثمان “اسمعنا مرة”.

وقدم روائعه اللحنية كذلك لزيدان إبراهيم وعبد العزيز داؤود ومحمد الأمين وكمال ترباس وثنائي العاصمة وثنائي الجزيرة وأحمد الجابري وإسماعيل حسب الدائم ومحمود عبد العزيز وطه سليمان وعز الدين عبد الماجد وعماد أحمد الطيب وهشام درماس وعلي العمرابي وإبراهيم موسى أبا ومعتز صباحي وعبد التواب عبد الله وعاصم البنا وغيرهم.

وقد كرّمه نميري والبشير، كما منح وسام الإمبراطور (هيلا سيلاسي) من الدرجة الأولى عام 1970.. ود الحاوي قصة نجاح نفخر بها.

فيا حبيبنا عبد اللطيف… أكرمك الله وزادك من فضله… ومنحك دوام الصحة والعافية والتوفيق.. ونأمل أن تحمل صورتك طوابع البريد في السودان أيضاً، وأن لا ينطبق عليها قول أغنية ترباس “أنا عندي ظن.. ساعي البريد شم العبير عجبو الكلام نايم عمل.. زعلانة ولا شنو الحصل”…
ويا أستاذ عبد اللطيف خضر.. شعب السودان بريد (ك)…

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.