مملكة بني عامر، حقيقة أم افتراء؟ (١-٢)

إبراهيم جيلاني*

شارك الخبر

مواصلة لما بدأنا، فإن مناقشة التاريخ وتفسيرات النصوص وإعادة قراءة الكتابات التاريخية دون فهم يستند على المعرفة والبحث المنهجي، يؤدي إلى تشويه وتحوير تلك الحقائق التاريخية، وذلك يعمل على نشر معلومات خاطئة وتزييف للتاريخ، وبواسطة تلك التفسيرات أو القراءات المشوهة يتم تجييش الناس واستغلال هذه القراءات للتضليل، ومثال لذلك الجدل القائم منذ سنوات حول “مملكة بني عامر” التي امتد نفوذها ضمن حدود دولتي السودان وإرتريا الحاليتين وكانت تخضع لسلطنة سنار ١٦٠٠م، أي قبل ظهور وتكوين دولتي السودان وإرتريا، وهو جدلٌ ولغ فيه المدعو فيصل عوض حسن بجهل أو سوء نية، وكلاهما أمر ماحق.
يقول فيصل في مقاله المنشور في موقع الراكوبة في ٢٢ مارس ٢٠٢٢ ما يلي؛ (أنَّ (البني عامر) ليسوا إِثنِيَّة/ قومِيَّة من أساسه، حتَّى تندرج تحتها (قبائل/ مُكوِّنات) فرعِيَّة تمتد لدولتين، وفق مزاعم (الإريتريين المُجنَّسين)، كالمملكة المزعومة بشرق السُّودان وغيرها من المزاعم والأكاذيب، التي لم نقرأها في كُتُب التاريخ (قبل الكيزان)، ولم تَرِد في المراجع العلمِيَّة الدَوْلِيَّة/الإقليميَّة الموثوقة.) وسأبدأ بالنقطة الأخيرة المتعلقة بموضوع “مملكة بني عامر” وما إذا كانت حقيقة أم مزاعم كما يدعي، وهل وردت في المراجع التاريخية ذات الصلة أم أن إدارة المناهج اخترعتها وحشرتها في المنهج الدراسي حشراً، ثم أعرج سريعاً على النقطة الأولى المتعلقة بحقيقة قبائل بني عامر في الاقتباس السابق، وما تبقى من ترهاته التي زحم بها مواقع المقالات والأخبار لمقالات أخرى قادمة تفضح أكاذيبه وافتراءاته التي لا حدود لها، ولا وازع أخلاقي شريف يلجمها.
من الواضح أن المدعو فيصل، الذي يحمل شهادة علمية رفيعة لا يقرأ مطلقًا قبل أن يكتب، وليس أدل على ذلك من أحكامه الجزافية التي فيها من الجهل حمل بعير، ومن حججه الهتافية التي يجمعها من مواقع التواصل الاجتماعي كيفما اتفق دون تمحيص أو إخضاع للبحث والمساءلة، ولو أنه كلف نفسه قليلًا من العناء وقرأ كتاباً واحداً عن تاريخ السلطنة السنارية لوجد من المعلومات ما يكفيه كل هذا العنت والتخبط، وهذه أيضاً مناسبة لكي نرد على كل المتشككين والعنصريين الذين زحموا الفضاء العام بالتدليس، وشنوا حرب كراهية غير مبررة على قبائل بني عامر وشككوا في وجود هذه المملكة التاريخية وأقاموا الندوات لكي يشعلوا حرباً عنصرية في إقليم شرق السودان.
نقول باختصار: مملكة بني عامر التي كانت تخضع لسنار رأساً، حقيقة تاريخية مثبتة لا يمكن إخفاؤها أو إنكارها لمجرد الرغبة في الإنكار، فقد ارتبط شيوخ بني عامر بعلاقة تاريخية مع السلطنة الزرقاء، وكانت المملكة تتبع سنار رأساً، وليس كبقية مشيخات السودان الشمالي التى كانت تتبع لسلطان سنار بواسطة ملوك وشيوخ العبدلاب، وسأثبت هذا من خلال العديد من المصادر التاريخية.
ولا أعرف على وجه الدقة ما الذي يقصده المدعو فيصل بقوله: (لم نقرأها في كُتُب التاريخ (قبل الكيزان)، ولم تَرِد في المراجع العلمِيَّة الدَوْلِيَّة/الإقليميَّة الموثوقة) أولاً، هذا النوع من الإقرارات المطلقة، التي تأخذ صفة الجمع، لم نقرأ. لم نفعل. لم نجد. ينم عن الجهل والادعاء الفارغ. أي كتاب تاريخ قرأ؟ أو قرأ أولئك الذين يتحدث باسمهم؟ ومن هم؟ وكيف عرف أنهم لم يقرأوا؟ وما الذي يقصده بالمراجع الدولية والإقليمية الموثوقة؟ وثانيًا، هذه ليست لغة علمية أو بحثية، فالمصادر والمراجع العلمية إنما هي مراجع علمية وحسب، وتخضع لكل ما تخضع له مصادر العلوم من تحقيق وتدقيق وإحالات واقتباسات ومتاحة لمن سعى وأراد. على أي حال سأرد هنا على هراء هذا الرجل وأرجو أن يضع مستقبلًا كل المصادر التي أحيل إليها في هذا المقال في خانة (المراجع العلمِيَّة الدَوْلِيَّة/الإقليميَّة الموثوقة) كما يصنفها حتى يفيد قارئيه ويستفيد هو أيضًا.
لنبدأ أولًا بحدود هذه المملكة التي حكمت -وفق المصادر التاريخية- الصحراء الشرقية للسودان الحالي، من حدود سواكن وامتدت على ضفتي خور بركة شرقًا وغربًا والذي ينتهي بالدلتا الشهيرة في طوكر ثم امتدت جنوبًا إلى العقيق بطول الحدود ثم داخل العمق الإرتري حتى حدود الهضبة الحبشية، ولن أدعي شيئًا هنا وإنما سأترك المجال للمصادر التاريخية لكي تقول كلمتها. يقول نعوم شقير في كتابه “جغرافية وتاريخ السودان” وهو أحد المصادر التي تعتمد عليها إدارة المناهج في تدريس التاريخ السوداني بالمراحل المختلفة، وفي الفصل الثالث – الممالك والمشيخات التي خضعت رأسا لسنار، صفحة ( ١٣٤-١٣٥ ) يقول شقير: (مملكة بني عامر: قامت في الصحراء الشرقية بين البحر الأحمر و خور بركة شرقاً وغرباً وبين العقيق والبحر الاحمر وبلاد الحبشة شمالا وجنوبا وكانت تتألف من أربع قبائل هي البجة والخاس والبني عامر والنابتاب). انتهى. عليه، فإن جزءاً معتبرًا من حدود هذه المملكة كان يقع داخل جغرافية السودان الحالي، فضلًا عن أن الحدود التي ذكرها شقير (داخل إرتريا الحالية) تعتبر تاريخيًا أيضًا ضمن الأراضي البجاوية التي حكمتها الممالك البجاوية القديمة مثل مملكة الدجن وبقلين وجارين وبازين وقطعة كما ذكرها اليعقوبي، ومن ثم جاءت مملكة بني عامر أواخر القرن السادس عشر ضمن سلطنة سنار، ومن بعد ذلك الأتراك والإنجليز الذين كانوا يطلقون عليها (إقليم السودان الشرقي) وكان يدار من سواكن وكسلا ومصوع عبر مفتشين (يمكن مراجعة “السودان في وثائق ومدونات” للمفتشين البريطانيين) ويعرّفها جميع المؤرخين ضمن هذا الإطار وليس أي إطار آخر.
ويقول البروفيسور محمد ابراهيم أبوسليم في كتابه (علماء وأدباء و مؤرخون في تاريخ السودان) ص (٢٣٦- ٢٣٧) معلقًا على مصادر شقير بخصوص سلطنة الفونج “وفي الباب الرابع يأتي دور سلطنة الفونج والحلف بينهم وبين العبدلاب والظروف التي أدت إلى قيام سلطنة الفونج ومشيخة العبدلاب، ثم يتناول من بعد تاريخ السلطنة بترتيب السلاطين، وبعده يتناول تاريخ المشيخة على ترتيب المشائخ. ثم يذكر المشيخات الخاضعة للفونج مباشرة والممالك الخاضعة للعبدلاب ثم كشاف السودان، وقد اعتمد هنا على مخطوطي إبراهيم عبد الدافع والزبير ود ضوة، وأصل هذين المخطوطين ما وضعه أحمد بن الحاج أبو علي المشهور بكاتب الشونة عن سلطنة الفونج وأول العهد التركي” ويواصل أبوسليم “وقد اعتمد كذلك على رحلات بوكهارت وكايو ومؤلفات صموئيل بيكر وشيون فيرث وجونكر وستنالي بيكر.
أما كروفورد مؤلف كتاب THE Fung kingdom of sennar– مملكة الفونج السنارية – فيؤكد في صفحة ١٦١ أن أجزاء واسعة من هذه المملكة كانت جزءًا من حدود السودان الحالي، في الصحراء الشرقية المتاخمة للبحر الأحمر كما ذهب سلفه نعوم شقير ومؤرخون كثر. يقول كروفورد (اهتم الفونج بصورة أساسية بأولئك الرحل الذين احتلوا المنطقة التي تقع غرب سواكن وسيطروا علي شريان تجارتها بين ميناء سواكن وبربر. لكن كانت هناك قبيلة واحدة، وهي البني عامر، التي من المؤكد دخلت في حلف مع الفونج ولبس زعيمها الطاقية أم قرينات). ويقول أيضاً في نفس المرجع ص 589 متحدثاً عن الرمز الملكي السناري الطاقية أم قرينات (بالإضافة إلى حكام المحافظات النيلية، فقد لبسها عدد معين من آخرين ولم تزل القضارف مقراً لعمدة الفونج، إبراهبم ود فضيل (ربما ابن أو حفيد عدو بروس القديم فضيل) الذي لم يزل متمسكاً بامتيازه القديم، النقارة والطاقية أم قرينات. فقد لبسها شيخ بني عامر، وشيخ الحمدة الذي كان مقره في دبركي والمقدمون عند اليعقوباب وشيوخ العبدلاب عندما يقلدهم ملك سنار المناصب، وبواسطة حسن ود حسونة الذي مات 1664م وكان يلبسها شيخ الرشاد في جبال النوبة حتي عام 1927 وهي مدونة خارج بلاد الفونج حتي دارفور) عليه، فإن كروفورد يؤكد ما ذهب إليه شقير في النقطتين السابقتين (وجود المملكة كحقيقة بالإشارة إلى الطاقية أم قرينات رمز السلطة- ووجودها داخل حدود السودان التاريخي والسودان الحالي على حد سواء).
إذن فإن اتصال مملكة بني عامر وارتباطها العضوي بسلطنة الفونج لم يكن زعمًا في أي وقت، إذ ارتبط زعماء جميع الممالك والمشيخات التي خضعت لهذه السلطنة بالرموز السلطانية التي كانت تمنحها سنار لجميع الملوك والمكوك والمشائخ الذين خضعوا لها (الككر والطاقية أم قرينات) وما تزال هذه الرموز موجودة إلى وقتنا الحاضر لدى دقلل بني عامر لتشير إلى ذلك الرباط الذي تجاوز عمره ٥٠٠ عام، وكان قد زار السودان فرديناند ويرن في حدود العام ١٨٤٠ م وهو رحالة ومستكشف ألماني، وكتب كتابًا مهمًا اسمه African Wanderings;) or, An Expedition From Sennaar to Taka, Basa, and Beni-Amer, With a Particular Glance at the Races of Bellad Sudan )
(رحلات إفريقية: رحلة استكشافية من سنار إلى التاكا وبني عامر، مع نظرة خاصة على أعراق بلاد السودان) يقول فرديناند ويرن في صفحة ١٥٩ من هذا الكتاب (It is well known who are entitled to wear these horned head-dresses, and among these are the Ruler of Faszogl, the Sheik of Beni-Amer, Sheik Edris Wood Agib of llalfaia, and Sheik Isimr)
الترجمة: (ومن المعروف من هم الذين كان لهم الحق في ارتداء الطاقية “غطاء الرأس ذات القرون ” ومن هؤلاء حاكم فازوغلي، وشيخ بني عامر، والشيخ إدريس وود عجيب من الحلفايا، والشيخ إسيمر). انتهى.
المصادر السابقة جميعها تؤكد حقيقة وجود مملكة بني عامر بصورة لا لبس فيها، وارتباطها الصميم بالدولة السنارية على مدى قرون، فمن المؤكد أن شيوخ بني عامر، من الرؤساء القلائل في السودان الحالي، الذين لبسوا الطاقية أم قرينات الرمز الملكي في العهد السناري، ففي مصادر روايات من تراث العبدلاب أنفسهم ورد أيضاً تنصيب (عامر نابت) الزعيم الأول لبني عامر كحاكم على هذه المملكة، وقد جمع هذه الروايات A. E. D. Penn وعنونها ب (TRADITIONAL STORIES OF THE ABDULLAB TRIBE) ففي صفحة ٦٣ من هذا الأثر المهم يقول:
‏( Sheikh ‘Agïb appointed Nabit, the founder of Nabtab clan, ruler in their country after it had been subdued and bade him act justly, follow the ordinances of the true religion and build mosques over a province bordered by Suakin, Massawa and Korosko towards the Red )
الترجمة: (عين الشيخ عجيب المانجلك “نابت” الفقيه علي نابت، مؤسس عشيرة النابتاب حاكماً لبلادهم بعد أن تم إخضاعها وأمره بالعدل واتباع أحكام الدين الصحيح وبناء المساجد على مقاطعة تحدها سواكن ومصوع وكوروسكو باتجاه الأحمر). وكما نرى يؤكد هذا المصدر مرة أخرى حدود هذه المملكة داخل الجغرافيا السودانية وامتدادها حتى سواكن التي تقع في منتصف الساحل السوداني على البحر الأحمر.
وفي كتاب “تاريخ كسلا” لمؤلفه محمد الأمين شريف صفحة ( ١٣٩ ) يقول “بیت الزعامة الأرستقراطي لعموم قبیلة البني عامر وھو البیت الذي یعرف ب”النابتاب “ وھم أصلاً من الجعلیِّین الشعديناب (، ھاجر جدھم الكبــیر، علي أبو القاسم منذ عھد بعیــد إلى مناطق البجة وتزوج فیھم ؛ ومن ذريته ظھر زعماء البني عامر التقلیدیون طیلة العھود الماضیة، وكان لشیخھم في عھد سلطنة الفُوْنج مشیخة تابعة لسنار مقرھا الدقا (تقع حاليًا داخل إرتريا) تعرف بمشیخة البني عامر، ویجلس شيخهم على الككر التقلیدي للسلطنة الزرقاء ویلبس الطاقیة أم قرین وقد ظل ھذا البیت قابًضا بدهائه وحنكته وفروسیته على أزمّة الحكم ورئاسة القبیلة حتى العھد الحاضر.)
نواصل..
* كاتب وباحث

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.