السياسة والعلاقات الإنسانية: أحاديث وقصص عن الميرغني والحاج مضوي والخليفة عبد المجيد في بيت الأزهري

كتب: د. فخر الدين عوض حسن عبد العال

أثناء الونسة، قاطعني صديقي قائلاً: “إنّ السياسة في السودان تصنع الضغائن والكراهية بين الناس، والساسة عندنا يكرهون بعضهم”.. وأنا استمع إلى فرقعة صوت رصاص حروفه، دارت بخلدي العلاقات الطيبة التي خرجت بها من نشاطي السياسي في السودان الذي يفوق الأربعة عقود.. وكنت في نفس اليوم قد قرأت نعياً للفنانة الشاملة المخضرمة نعمات حماد.. فانقبض قلبي وبكيت على نعمات رحمة الله عليها ورضوانه، وكان أول لقاء جمعنا بلندن قبل نحو ربع قرن من الزمان، حيث طلب مني معلمي الراحل الأستاذ علي محمود حسنين أن أسلم نفسي عندما أصل لندن إلى زعيم الاتحاديين هنالك أستاذنا ربيع حسنين.. طيب الله ثراهما.. وحينها وجدت الاتحادي حزبين، أحدهما على رأسه الشريف زين العابدين الهندي طيب الله ثراه ويرأسه في لندن أستاذ ربيع حسنين، والآخر يرأسه الميرغني ويقوده في لندن عادل سيد أحمد عبد الهادي. واحتفظت بعلاقة ممتازة مع الجميع.. وأطلق علي أستاذنا ربيع لقب: فخر البلاد.. عبر مجلة الصباح الجديد.

وفي هذه البيئة الاتحادية وفي وسطها، قابلت نعمات حماد.. وتحديداً في أول مؤتمر للحزب، حيث أقبلت علي هاشة باشة واحتضنتني وقالت أمام الجميع: أنا مرشحي هو فخر الدين، وصوتي له.

قالتها بمرح وهي تردف: لأنه صريح وواضح في كل شئ، مش مثل ناس ديل..

وضحكنا جميعاً بحميمية..

وكانت هذه بداية علاقتي بها.

وفي تلك اللحظة تذكّرت علاقتي بصديقي النبيل محمد عصمت المبشر، فقد كنت وهو؛ كما يصفنا أحد الأصدقاء (زي الشحم والنار)، ودوماً معارك وخلافات.. ولكن عند الخوة والمحبة فهو صديقي الأثير والنبيل.. فقد علمتنا الحركة الوطنية الاتحادية التي ترعرعنا في حوشها الأخضر ذوي الألوان المختلفة والزاهية والجميلة أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

وعندما رفعت رأسي في المقابر في لحظة وفاة أبي وجدت الجميع حولي بكل محبة ومحنة وأحضان.. وعندما ذهبت للمؤتمر السوداني، ظللت وسوف أظل وفياً لعائلتي الاتحادية. فهي أسرتي الكبرى التي علمتني وربتني وأدبتني.. دخلت كل بيوتها وأكلت ملحها وملاحها وتعرفت على كل أسرة فيها.. وواجهنا الطاغوت معاً.. وبنيت أجمل بيوت عمري الزاهية والنضرة في علاقاتي مع أشقائي وشقيقاتي الوطنيين الاتحاديين.. وحتى في خضم خلافاتي مع السيد محمد عثمان الميرغني، كنت التفت في كل مناسبة في بيتي لأجد خلفاء الختمية إلى جواري بكل محبة.. رحمك الله حبيبنا الخليفة ميرغني بركات.

 

لقد كانت مسيرتي في الاتحادي مُكرّسة للمؤسسية والديمقراطية، وضد الطائفية، ولذلك كنت معارضاً شرساً للسيد محمد عثمان الميرغني متعه الله بالصحة والعافية.. وفي أوج تلك الخلافات زارني في بيتي في مانشستر بكل محبة، وعندها احتار الجميع، فأبلغتهم بأن الميرغني في بيتي بمثابة والدي وأيضاً تربطنا اللحمة الصوفية والعلاقة الوطيدة بين الأدارسة والختمية، وميدان السياسة شأنٌ آخر.. وفي بيتي، فإني أقبِّل رأسه محبة.. وأيضاً كانوا يستغربوا لعلاقتي الوطيدة مع السيد أحمد الميرغني طيّب الله ثراه.

 

أريد أن أتوقّف هنا عند قصة لن أنساها أبداً.. فقد طلب السيد أحمد الميرغني عند عودته للسودان، من الشقيقة جلاء الأزهري أن يزورهم في البيت زيارة أسرية، وفي معيتة العم ميرغني عبد الرحمن والخلفاء عبد المجيد وميرغني بركات.. فاتصلت بي الشقيقة جلاء الأزهري وطلبت مني أن أكون حاضراً وأن اتصل بالعم حاج مضوي ليكون حاضراً.. وأيضاً اتصلت بالأشقاء عصام عبد الماجد أبو حسبو ومكي حسن محمد خير (رده الله سالماً) واتصلت بعمها السفير بكري الأزهري وعمها صلاح الأزهري لنكون جميعاً في استقبال السيد أحمد الميرغني، لأننا أهلها وأسرتها.

وبالفعل جمعنا بيت الزعيم وشهدت البداية مواجهة شديدة اللهجة من جانب عمنا حاج مضوي، حيث قال مخاطباً أحمد الميرغني: أخوك ده عايز يختمن الحزب الاتحادي وشغال فرق تسد وتخريب وما عنده علاقة بالديمقراطية وأخلاق وميراث الاتحاديين.

وسار حديثه على هذا المنوال والسيد أحمد صابراً هادئاً مؤدباً في حضرة الحاج مضوي.. ونعلم أن بينهما محبة عظيمة.. عندها تدخل الخليفة عبد المجيد رافضاً حديث حاج مضوي ومؤمناً على رئاسة محمد عثمان الميرغني للحزب، وتحدث بقسوة تجاه حاج مضوي، عندها تدخلت وقلت له: نعم أنت ضيفنا وأكبر مني سناً وأنا احترم ذلك.. ولكن يا ريت تحترم كبيرنا وصاحب هذه الدار وتتحدّث معه بشكل أفضل، فأومأت جلاء الأزهري رأسه مؤمنة على حديثي.. وساد صمتٌ رهيبٍ.. قطعته تنهيدة الخليفة عبد المجيد عبد الرحيم وقوله: عارفين حاج مضوي القاعد قدامي ده، هو سبب سترتي وسبب كل جميل في حياتي.. لقد كنت أنا والن…ى (وذكر اسم أحد عمالقة المال والأعمال في السودان) شركاء في عمل وعندنا لوري نذهب به إلى إثيوبيا.. فجأةً عدمنا كل ما نملكه.. وعدنا في اللوري حقنا مساعدية وكنا أصحابه!!؟ عدمنا القرش والتعريفة.. وأصبح حق الأكل ما عندنا.

الذي مد لنا يد العون وأعطانا رأسمالا لنبدأ به من جديد هذا الرجل.. وأشار إلى حاج مضوي، الذي بدوره طَأْطَأَ رَأْسَهَ فِي اسْتِحْيَاءٍ عظيم.. وهو ينظر إلى الأرض وقال بهدوءٍ وحياءٍ أكبر: بالله عليك أسكت ولا تواصل في هذا الأمر.

رد الخليفة عبد المجيد: سوف أسكت احتراماً، ولكنك أعظم من عرفت من الرجال شهامة وكرماً وأخلاقاً، وأنت تعلم أن محمد عثمان الميرغني هو سيدنا وتاج رأسنا وزعيمنا.. أقبل منك أي كلام في نفسي، ولا أقبله في السيد.

رد حاج مضوي بطريقته المعهودة: سيدك براك.. نحن سيدنا الله.

وضحك الجميل أحمد الميرغني طيب الله ثراه.. وضحكنا جميعاً.

 

في محطاتي السياسة كثير من الثراء الباذخ والجمال والعلاقات الإنسانية النبيلة والجميلة والتي تجعل للحياة طعماً ولوناً.. ووفاءً.. لقد قابلت شخصيات تركت محبة في النفس وإلفة تعدّت حدود السياسة مثل عاشق الوطن إبراهيم الشيخ وأسرته، والحكيم الجميل عبد القيوم عوض السيد وأسرته ومحبتنا المشتركة للزرع والحيوان والدكتور الجميل الفاتح مسعود الذي احتضنني وكافة مصابي الثورة.. والأديب الأريب الباشمهندس عمر الدقير وتربطني به أيضاً محبة الأدب وعمق جذور الصوفية، وعندما أتحدث إلى الباشمهندس خالد عمر فهو يستمع بمحبة ويجيبني بادب جم: حاضر يا دكتور..

أما الودود الخلوق الذي لم يتغيّر أو يتبدّل أبداً، د. حمدوك الذي اختلف معه كثيراً فإنني أحبه حد السماء.

وأكثر المختلفين مع سياسة د. حمدوك هو معلمي وأستاذي وصديقي الذي أفخر به البروف مهدي أمين التوم.. (ألم أقل لكم إنّ العلاقات الإنسانية لا علاقة لها باختلاف الآراء).

وقائمة طويلة لا يمكن حصرها في هذه العجالة، من عقد فريد من اللؤلؤ والمرجان من الرجال والنساء والشيب والشباب الذين تعرفت عليهم في دروب السياسة وأصبحوا أجمل ورود وأزهار في حديقة حياتي.

 

وفي كل حزب وكل تنظيم سياسي لي أصدقاء وأحباب أعزهم وأقدرهم واحترمهم.. وأسعد بهم ومعهم.. وأبكي وأتألم عند فراقهم.. ولازال الحبيب عبد الرسول النور من أصدقاء صفحتي.. وأسعد بعلاقة وطلة الدكتور عبد الرحمن الغالي وكل أحبابي في حزب الأمة. وفي الشيوعي يحتضنني د. صدقي كبلو بمحبة كبيرة وأسعد بطلة د. صديق الزيلعي.. وأحب حد السماء صديقي اللدود وائل عمر عابدين الذي لا يعرف الجمود ويتطور في كل صباح ويرنو إلى السماء.

 

في كل حزب وتنظيم لي إخوة وأحباب وأشقاء وزملاء ورفاق وخضر أنعم بصحبتهم.. اختلف معهم في الرأي، ولكني أحبهم واحترمهم وأتعلّم منهم..

أنا سعيدٌ جداً بتلك العلاقات الإنسانية الطيبة، ومتيقنٌ تماماً بأن الاختلاف يمكن أن نستثمره ليكون رحمةً وجمالاً ونضارةً.. وليس العكس، وهذا ما فعلته طيلة مسيرتي السياسية.. وسوف أواصله حتى ألقى ربي.

 

والإنسان يتعلم من الأيام ومن التجارب الذاتية وتجارب غيره، وبالطبع يتطوّر ويتقدم.. ويحصل ليهو up dating وهذه طبيعة الحياة والأشياء.

 

وإن تبقى في العمر بقية

يتواصل حديثنا عن السياسة والعلاقات الإنسانية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.