مفاجآت

حجاوي الجمعة..  هشام الخليفه *

شارك الخبر

 

المفاجأة هي حدوث الشيء دون سابق إنذار ودون مقدمات مما يربك الانسان ويشل قدرته على التفكير. وتختلف ردود الأفعال من إنسان لآخر بحسب التكوين الذهني والنفسي لمن “هبطت” فوق رأسه هذه المفاجأة السعيدة او غير السعيدة.

يقول صديقي وقد كان يعمل في سوق الله اكبر ان التعامل بالنقد الاجنبي خارج الاطر الرسمية كان ولا يزال شائعاً بين رجال الأعمال وذلك نسبة لشح المعروض من الدولة وانه ذات يوم وهو منهمك في عمله ان جاءه احد الاصدقاء ومعه رجل ذو هيبة ووقار بالجلابية “السكروته” والعمة “التوتال” ونظارة “البيرسول” – وقد كانت في يوم ما علامة العظمة والفخامة-. فوق ذلك كان يحمل باليد اليمنى عصاً ابنوسية يحركها ذات اليمين وذات الشمال بحركة منغومة وطريقة منظومة و هو يرسم على وجهه ابتسامة عريضة. كانت كل تلك المظاهر تدل على المكانة السامية الرفيعة و حسن التعليم والتثقيف. حكى له صديقه باختصار  ان هذا الأخ به علة في العين اليمنى وقد عرضوه على القومسيون الطبي فقرر له عملية في انجلترا تكلفتها عشرة آلاف من الجنيهات الاسترلينية. كان التقليد آنذاك هو ان يشتري “أحدهم” هذه الصفقة ويدفع مقابلها للبنك بالسعر الرسمي ثم يقوم ببيعها في السوق بالسعر “الاسود”على ان ينال “المريض” نسبة من الربح وهو الفرق بين السعر الرسمي وسعر السوق الأسود. اصطحب صديقي الرجل “ابوعظمة” لاحد البنوك التي يتعامل معها وهو يحمل جوالاً ممتلئاً بالنقود السودانية لتسديد مقابل العشرة آلاف جنيه استرليني بالسعر الرسمي  للبنك. هنالك هرع رئيس القسم المختص لخدمة الزبون المميز و “كلو بتمنو”. احضر رئيس القسم الجنيهات الاسترلينية في شكل شيكات سياحية يوقع العميل توقيعاً واحداً في البنك على ان يوقع التوقيع الآخر في البنك خارج السودان وهناك يستلم العملة الحرة “حرة” يبيعها في اي مكان. استدعى صديقي الرجل “المهيب” وطلب منه ان يوقع باللغة العربية على اعتبار انه بحكم الشكل الخارجي يتحدث اكثر من لغة وكانت المفاجأة ان صاحبنا امي لا يعرف القراءة ولا الكتابة . كتم صديقي الضحكة حتى لا تفضحه وقام بسرعة بالتوقيع نيابة عن ابو “جلابيه وتوب” في غفلة من الرقيب. عندما وصلا المكتب حكى له ابو “جلابيه وتوب” الحكاية والرواية وهي انه يعمل “راعياً للاغنام” في منطقة غرب ام درمان وان احد اقربائه قد اخبره بأنه ستنفتح عليه نافذة للثراء وما عليه إلا الطاعة العمياء وهكذا اصطحبوه للسوق وزينوه بالزينة وطلبوا منه ألا يفتح فمه ابداً حتى نهاية الفيلم وقد كان . فكانت هذه أول مفاجأة من المفاجآت التي ستتالى عليكم اصدقائي القراء.

حكت لي السيدة الفضلى الحاجة ادريس علي النص زوجة خالي العزيز المرحوم الباقر حاج أحمد ان والديها كانا يدللانها دلالاً  زائداً  عن الحد بحكم انها آخر العنقود من البنات وقد كانا لا يرفضان لها طلباً ابدا. في أحد الأيام وهي طالبة في المدرسة الأولية  زارهم “حاوي” يقدم الألعاب السحرية والحركات البهلوانية التي تبهج الاطفال الصغار. هرعت لوالديها تسبقها فرحتها  لمشاهدة الحاوي و الاستمتاع بما  يقدم وكان ذلك بمقابل ” ثلاثة ” قروش فقط. لم يساورها أدنى شك بان الوالد سينفح ابنته المدللة  ذلك المبلغ الزهيد مقابل ان تستمتع بالفرجة على الحاوي التي ستكون مناسبة تحكيها للجميع في مقبل الايام. كانت المفاجأة الأولى ان الوالد رفض اعطاءها هذا المبلغ ليس شحاً ولا استكثاراً له وانما خوفاً عليها من الزحمة واللخمة وتدافع الصغار في مكان العرض مما كان قد يسبب أذى لطفلته المدللة. تقول السيدة الحاجة انها قد أصابها حزن شديد وهم وغم و كرب لضياع هذه الفرصة “التاريخية ” عليها. ثم بعد قليل جاءها مرسال من الوالدة للدكان القريب لإحضار بعض الأغراض المنزلية. تقول انها وهي تمشي الهوينى حزينة على حالها تنظر للارض بلا هدف ان رأت “صرة” صغيرة من القماش ملقاة على الأرض  أسرعت لفكها فإذا هي تتفاجأ بان فيها ثلاثة قروش بالتمام والكمال كان الله ارادها أن تفرح مع زميلاتها وقريناتها فكانت هذه المفاجأة من أجمل المفاجآت تذكرها جيداً مع انه قد مضى عليها زمان طويل.

في عالم السياسة هنالك مفاجآت  ايضاً منها ماهو غريب فعلاً كالتي رواها الاستاذ محمد علي خوجلي في كتابه “عملية يوليو الكبرى في السودان” خصصه للتوثيق لانقلاب الرائد هاشم العطا في يوليو ١٩٧١م. والكتاب أهدته لي الأخت الصديقة بروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه مدير جامعة الخرطوم السابقة، روى في الكتاب كيف تم التخطيط وتنفيذ الانقلاب ثم حكى تفاصيل انهيار وفشل الانقلاب وما تبعه من مذابح ومآس مازالت توابعها تبعث في النفوس الحزن والاسى حتى الآن . يقول الكاتب  ان السيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي آنذاك قد تعرض لموقف عصيب بعد فشل الانقلاب فقد بدأت حملة مسعورة للبحث عنه بحكم ان السلطة الحاكمة كانت تعتبر ان الحزب الشيوعي قد خطط ونفذ الانقلاب. ومما زاد الامر سوءاً انه قد حدثت مذبحة في بيت الضيافة راح ضحيتها نفر كريم من زبدة ضباط القوات المسلحة تم تحميل وزرها لمنفذي الانقلاب بينما ظلت للدارسين والمهتمين بالتاريخ لغزاً لم يفك احد أسراره حتى الآن. يقول الكاتب ان الاستاذ عبد الخالق قد لجأ لمنازل اهله في البداية عقب الربكة التي أصابت “لجنة التأمين” التي شكلها الحزب منذ زمان تحوطاً لمثل هذه الظروف. ومن المفاجآت والمفارقات الغريبة انه بينما كان من تبقى من كادر التأمين يبحث عن مكان لإخفاء زعيم الحزب كانت هنالك جهة أخرى تبحث عن الزعيم لنفس الغرض وهي أسرة الرمز الأنصاري الكبير عبد الله عبد الرحمن نقد الله الذي كانت تربطه علاقة صداقة وثيقة بعبد الخالق محجوب . وبرغم تباين المواقف السياسية بل والفكرية ايضا فقد كان بيت نقد الله بشهامة السوداني الأصيل يقوم بمجهودات محمومة للبحث عن زعيم الحزب الشيوعي لاخفائه عندهم بعيدا عن بطش النميري بل وبعيدا عن ظنون اجهزته. كان ذلك موقفا برغم ما فيه من مفاجأة يمثل قيم السودانيين ومثلهم التي لا تعرف الفروق السياسية وتتسامى فوق الخلافات الايدلوجية التي نأمل أن تكون راسخة في وجدان السودانيين حتى الآن.

ومن المفاجآت الظريفة اللطيفة التي استقبلتني بعد حضوري السودان تلك الأمطار التي انهمرت فجأة ذات مساء فأغرقت طرقات العيلفون ولطفت الأجواء بالهواء العليل والنسيم البارد الذي ينعش الأبدان. ارجعتني هذه الأجواء للعيلفون عندما كنا صغاراً و كان اهلنا يزرعون الذرة في المنطقة الواقعة بين حي “القطاطي” شمالاً ومعسكر القوات المسلحة جنوباً وكانت حدود العيلفون شرقاً هي نادي الوفاق الحالي. كنا كلنا نخرج الأمهات والخالات والاخوات والاخوان لزرعة “العيش”  في “البِلدات” وهي المزارع فقد كانت لكل أسرة  قطعة أرض تزرعها ذرة كانت هي الغذاء الرئيسي لسكان البلدة قبل ان تغزوها الاطعمة الغربية التي لم نكن نعرف منها الا “الرول” وهو خبز ناعم محلى بالسكر تحضره الأمهات من الخرطوم عندما يذهبن لمعاودة مريض او لزيارة قريب. تلك ايام حلوة انصرمت وتركت ذكراها خالدة في النفوس.

 

قال محمد الحسن سالم حميد في قصيدة فيها تورية غناها مصطفى سيد أحمد وآخرون:

يا مطر عز الحريق

يا مصابيح الطريق

يا المراكبيه البتجبد

من فك الموج الغريق

 

*****

 

يا ما شايلك فيني حايم

لا الليالي المخملية

لا العمارت السوامق

لا الاسامي الاجنبيه

بتمحى من عيني ملامحك

وانتي جايه المغربيه

****

ولن تنمحي من أعيننا ملامح من نحب ومهما زادت همومنا واحزاننا تظل الوجوه الباسمة مرسومة امام العيون وعلى جدار القلب بالأسنان والأظافر.

وسلامتكم

* اهدى هذا المقال لذكرى الخال العزيز المرحوم الباقر حاج أحمد المثقف الوطني النسابة له الرحمة والمغفرة وطرح الله البركة في ذريته.

* كما ازجي التهنئة الحارة لابن اختي علي عباس السراج بمناسبة الخطوبة ولوالده ووالدته ولكل آل السراج وآل الخليفة أحمد وآل سوار الذهب مع الأمنيات الطيبة بحياة زوجية سعيدة.

 

*  العيلفون

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.