ويستمنستر: أبعد من أزمة حكم  

لندن - السوداني

كتب: صديق محمد عثمان 

في يوم الخميس الموافق ٢٢ اكتوبر ٢٠٢٢ قدمت السيدة ليز ترس رئيسة وزراء بريطانيا استقالتها من منصبها بعد ٤٥ يوما فقط من توليها المنصب في السادس من سبتمبر في أعقاب انتخابها زعيمة لحزب المحافظين الحاكم في يوليو الماضي.

تأتي استقالة السيدة ليز ترس، بعد فوضى شديدة ضربت قيادة حزب المحافظين والحكومة وادت إلى استقالة او اقالة الوزراء الذين عينتهم بعد اقل من أسابيع ليصبح معظمهم اقصر الوزراء عمراً في الوزارة وتصبح هي نفسها اقصر رئيس وزراء بريطاني خدمة.

السبب الظاهر في فشل حكومة ليز ترس هو الأزمة الاقتصادية التي فاقمها الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي أزمة لا تقتصر على بريطانيا وحدها، فجارتها فرنسا تشهد منذ أسابيع مظاهرات واحتجاجات كبيرة العدد تهدد حكم الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون، بينما اختارت إيطاليا وضع ثقتها الانتخابية في اليمين المتطرف ممثلاً في حزب (اخوة ايطاليا) بقيادة السيدة جورجيا ميلوني. في الوقت الذي تعالج في ألمانيا وهولندا ازماتها الاقتصادية بصمت عرفتا به.

إلا أن تأثير الغزو الروسي لاوكرانيا على بريطانيا ليس بذات الدرجة التي تواجهها الدول الأوروبية الاخرى اذا علمنا ان ٥-١٥٪؜ فقط من استهلاك بريطانيا للغاز والنفط تأتي من روسيا مباشرة أو بصورة غير مباشر عبر دول أوروبية أخرى.

إذن، فهناك أسباب أخرى للأزمة السياسية التي تعيشها بريطانيا!!

ويمكن لمن شاء أن يستقصي جذور الأزمة السياسية الحالية في التاريخ السحيق للامبراطورية البريطانية. ولكن ذلك لن يكون ضروريا.

وسنحاول في هذه العجالة أن نستقصي الأسباب الحاضرة للأزمة السياسية البريطانية ونربطها بأسباب متوسطة حديثة التاريخ.

بوريس جونسون: الطموح بلا مقومات محض مغامرة

في العام ٢٠٠٨ كان السيد بوريس جونسون قد تمكن من الفوز بمقعد عمدة مدينة لندن بعد ان خدم كنائب برلماني عن حزب المحافظين بعد فوزه بدائرة جغرافية مضمونة في العام ٢٠٠١.

لكن جونسون الطموح ادرك ان طريقه إلى زعامة الحزب مقفول بكتلة من أبناء الذوات المفضلين لدى الجماعات التي تملك القرار في الحزب، فهو مهما يكن، غريب واجنبي عن مراكز النفوذ والمال التي يعبر الحزب عن مصالحها. فهو مولود في أمريكا لوالدين من المهاجرين وتعود أصوله من جهة الأب إلى العاصمة العثمانية في تركيا. ورغم انه كان يرى بوضوح شديد فقر وسوء اختيار الحزب لمجموعته القيادية التي خلفت مايكل هوارد ممثلة في ديفيد كاميرون وصديقه جورج اسبورن والعجوز نسبياً ويليام هيغ، إلا أنه كان يملك القليل جداً من النفوذ ليحاول تحدي ذلك فآثر أن يبدأ ببناء مصادر نفوذه الخاصة.

ارتاحت قيادة حزب المُحافظين لخروج جونسون من البرلمان وذهابه إلى عمادة مدينة لندن، الامر الذي سهل عليها اختيار ديفيد كاميرون وتقديمه كوجه شاب مثقف خليفة لظاهرة توني بلير في السياسة البريطانية. ولكن حدس جونسون صدق حينما فشل ديفيد كاميرون في الحصول على أغلبية برلمانية في انتخابات العام ٢٠١٠ واضطرار الحزب إلى الاستعانة بحزب الديمقراطيين الليبراليين لتشكيل حكومة. فانطلق جونسون يبني مراكز نفوذه وسط مديري البنوك والشركات الكبرى المسجلة في بورصة مدينة لندن، وعلى عكس سلفه العمالي اليساري كين ليفغنستون الذي شهدت مناطق لندن الفقيرة في عهده تنمية واضحة، فإن بوريس جونسون أنفق دورتيه في عمادة مدينة لندن في تخفيض ضرائب الشركات والدفاع عن مخصصات مديريها وتسهيل عمليات غسيل الأموال وجعل لندن مركزا مهما من مراكز التهرب الضريبي عن طريق غض الطرف عن مصادر الأموال وتسهيل عمليات الإعفاء الضريبي بادعاء الحصول عليها في عمليات تجارة أجنبية أو دولية.

وقد استطاع بوريس استغفال قيادة حزب المحافظين حينما طمأنها إلى عدم نيته العودة للبرلمان وتجديد ترشيحه عمدة لدورة ثانية في العام ٢٠١٢ والتي انجز خلالها استضافة لندن لمنافسات الاولمبياد، ولكنه غافل الحزب ونكص عن وعده بعدم العودة للبرلمان قبل انتهاء مدته كعمدة للعاصمة، حيث ترشح في دائرة مضمونة وفاز في مايو ٢٠١٥ ليخدم لمدة عام كامل كنائب برلماني وعمدة في ذات الوقت.

وعندما انقضت فترة عمادته في العام ٢٠١٦ كان بوريس جونسون قد أصبح قائداً لتيار الخروج من أوروبا بدعم مالي ضخم جداً. ورغم فشله في خلافة ديفيد كاميرون بسبب خيانة من داخل معسكره قادها زميله في حملة الخروج من أوروبا مايكل غوف “١” إلا ان بوريس جونسون لم يكن ليهدأ قبل ان يدفع السيدة تيريزا ماي التي خلفت ديفيد كاميرون في زعامة الحزب ورئاسة الوزراء إلى المغامرة بإجراء انتخابات برلمانية عاجلة في ٢٠١٧ والتي خسرتها وادت إلى استقالتها ليتعبّد الطريق إلى رئاسة الوزراء لبوريس جونسون الذي استفاد من مدته في رئاسة الوزراء للتحضير الجيد لانتخابات ديسمبر ٢٠١٩ والتي رفع فيها أغلبية حزب المحافظين البرلمانية واستطاع تشكيل حكومة بدون حاجة للائتلاف مع حزب آخر.

منحت عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي ٢٠١٦ بوريس جونسون مشروعية مؤسسية ونفوذ في مراكز جماعات المال والمصالح مكنته من شرعنة نفوذه المؤسسي وتحويله إلى نفوذ انتخابي في الانتخابات البرلمانية ٢٠١٩، لكن وكما سوف نرى لاحقاً، فإن بوريس جونسون أخطأ تقدير ان المشروعية الانتخابية في مساومة السياسة البريطانية ليست سوى عملية تأهيل لخدمة مراكز النفوذ والمصالح وهذه المراكز هي التي تمنح الفائز بالمشروعية الانتخابية مشروعيته المؤسسية التي تمكنه من الحكم وأن رضاء هذه المراكز مرتبط بقبول شروطها ومراعاة موازينها والالتزام بنمط علاقاتها الداخلية.

كانت خطة بوريس تقضي بتحديث حزب المحافظين على طريقة توني بلير، فخلال عمله كمحلل سياسي لصحيفة الديلي تيليغراف خلال الفترة ١٩٩٩-٢٠٠٥ لا بد أن الرجل كان يلاحظ التطورات والتحديثات التي يقوم بها السيد توني بلير ومساعيه لصناعة ما عُرف حينها بحزب العمال الجديد (New Labour) أو التيار البليري (Belairites) والذي يتأسس على حزب عمال جديد يقترب من وسط السياسة البريطانية ويتبنى الكثير من شعارات الليبرالية الجديدة (new liberalism) التي حاولت السيدة مارغريت تاتشر جر حزب المحافظين إليها فأفلحت شكلاً وفشلت موضوعاً، وهو ما حاول توني بلير تجنبه من خلال إعادة هيكلة حزب العمال تماماً وفك الارتباط الوثيق بينه واتحادات العمال وتقليل دور قواعد الحزب في اختيار القيادة أو رسم السياسات وتعظيم دور الكتلة النيابية للحزب وتحويلها إلى كلية انتخابية لاختيار القيادة ومركز لصناعة السياسات.

كان بوريس جونسون يشاهد ذلك ويراقبه من مقعده في البرلمان ومن عمله كمحلل سياسي، خاصةً حينما ذهب لمُرافقة القوات البريطانية التي غزت العراق في مارس من العام ٢٠٠٣، فبينما كان الشارع السياسي الجديد في بريطانيا والمكون من بقايا اليسار وقطاعات الليبراليين والكُتلة المهاجرة الجديدة خاصةً من أبناء الشرق الأوسط والعالم الإسلامي تملأ شوارع المدن البريطانية بالمسيرات الاحتجاجية على الحرب على العراق، وفي الوقت الذي كان فيه القاصي والداني يتحدّث عن تزوير ملف الأسلحة الكيميائية العراقي بواسطة مكتب توني بلير (Iraq chemical weapons dossier) لتوفير مُستند للإدارة الأمريكية والأمم المتحدة، وفي الوقت الذي يستقيل فيه وزير خارجية توني بلير روبن كوك احتجاجاً على إجراءات حكومة توني بلير الملتوية في إدارة ملف الحزب على العراق ويخرج فيه عالم الأسلحة الكيميائية جون كيلي والذي خدم مع بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية في العراق، مؤكداً عدم صحة المعلومات المُتداولة حول أسلحة العراق الكيميائية، كان توني بلير قد استطاع إغراء الكتل والجهات ذات المصلحة في الحرب والتي تتحكّم في مفاصل مؤسسات اتخاذ القرار وإنفاذه ليس في بلده فحسب، وإنما في بلدان غربية كثيرة وفي المنظمات الدولية وبناء حلف وغطاء سياسي ومشروعية قانونية للحرب على العراق.

بالطبع لم يكن بوريس جونسون وحده الذي يغبط توني بلير على ما كان يفعله، لكن بوريس كان يملك طموحات لمحاكاة ما يراه.

عاد بوريس جونسون إلى البرلمان في مايو ٢٠١٥، مخالفاً وعده لديفيد كاميرون بعدم العودة، ولن يكون ذلك آخر الوعود الكاذبة التي يبذلها بوريس جونسون لقيادة حزب المُحافظين ورئاسة الوزراء فخلال العام ٢٠١٥ -٢٠١٦ بنى بوريس جونسون استراتيجيته لدخول مكتب رئيس الوزراء دون أن يحفل كثيراً لمن يخلف وعده له أو يكترث كثيراً لدقة ما ينشره من معلومات وشعارات. فعودة بوريس للبرلمان نفسها كانت خطوة مهمة في بناء وتعزيز تحالف الخروج من الاتحاد الأوروبي وترميم حزب استقلال بريطانيا (يوكيب) UK Independence Party وإخلاء دائرتين جغرافيتين للحزب الجديد الذي سيحقق ما عجز عنه حزب المُحافظين منذ السبعينات من القرن الماضي بفوزه بنتيجة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي والذي جرى تنظيمه في يونيو ٢٠١٦.

عملياً، كانت عملية الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي استفتاء على حزب المُحافظين القديم، لكن واجهة حزب (يوكيب) لم تكن مناسبة لوراثة حزب المُحافظين لذلك لم يجرؤ بوريس جونسون ولا مجموعته من حزب المحافظين على إعلان خروجهم عن حزبهم القديم والانضمام لحزب (يوكيب)، بل وقفوا يتفرجون ومراكز القرار في السلطة وفي حزب المحافظين تقرر حرق حزب (يوكيب) ونثر رفاته في الهواء واقتسام ورثته من الأصوات الانتخابية التي تجاوزت الأربعة ملايين صوت.

لكن حزب (يوكيب) وإن حقّق لحزب المحافظين حلم الخروج من الاتحاد الأوروبي فقد حقق لبوريس جونسون ضمان المقعد الوزاري الثالث كوزير للخارجية والذي تمّ تعيينه فيه في يوليو ٢٠١٨ في صفقة لتضميد جراح الخيانة التي تعرّض لها عند مُحاولته الترشح لخلافة ديفيد كاميرون في يوليو ٢٠١٦ ولضمان استقرار حكومة تيريزا ماي.

ويمكن القول بأن الفترة التي أعقبت استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي شهدت صراع القوى الجريحة، فمن جهة كان حزب المحافظين عملياً قد سلم بعجزه عن إقناع البريطانيين بمعركته الخاصة ضد الاتحاد الأوروبي فاضطر إلى التخفي خلف لافتة حزب (يوكيب) ليضمن الاستفادة من أصوات اليمين المتطرف دون تحمُّل تبعات ما يعبر عنه هذا التيار في باقي القضايا، ومن جهة كان بوريس جونسون المتطلع للعب دور توني بلير قد أدرك بأن حزب يوكيب ليس هو البديل أو حزب المُحافظين الجديد الذي يحلم بقيادته.

بين طموح بلير ومُغامرات بوريس:

تحقّق لبوريس حلمه بالدخول إلى مكتب رئيس الوزراء وتولي زعامة حزب المحافظين في يوليو ٢٠١٩ وبذلك بدأت مرحلة أخرى حرجة في تحقيق حلمه ولكنه اُصطدم مرةً أخرى بحقائق مهمة ظل يُحاول تجاهلها، أهمها على الإطلاق:

– إنه حين وصوله رئاسة الوزراء كان تقريباً فرداً وليس تياراً بعد أن تساقط عنه الحلفاء في مراحل من مسيرته.

– وإنه وصل إلى مكتب رئيس الوزراء مثخناً بجراح معاركه السابقة وخيانات الرفاق والزملاء.

– وإنه بهذه الصفة لا يملك القدرة على تنفيذ أي إصلاحات حزبية في حزبه لا هيكلياً ولا فكرياً.

 

ويجدر بنا هنا عقد مقارنة بين توني بلير وبوريس جونسون:

– فتوني بلير فاز بزعامة حزبه بعد أن استطاع تشكيل رأي عام مؤيد لرؤيته السياسية، بينما بوريس جونسون أصبح زعيمًا لحزبه بحكم المنصب كرئيس وزراء.

– توني بلير كان يسعى إلى تأهيل حزب العمال لملء الفراغ الذي خلفه حزب المُحافظين الذي تحصّن داخل كتلته الاجتماعية المريحة واكتفى باستخدام حزب العمال بين الفينة والأخرى يعالج له آثار سياسات الاحتكار التي يمارسها. فحزب المُحافظين ظل ولا يزال زاهداً تماماً في استيعاب التطورات الاجتماعية الكبيرة التي يشهدها المُجتمع البريطاني خاصة بعد تراكم أجيال من المهاجرين وتطلع أبنائهم لكسر السقف والمشاركة في أدوار أكبر من مُجرّد تشغيل دولاب المؤسسات.

– وبهذا الوعي، حاول توني بلير فتح كوة في سقف الفضاء العام من خلال طرحه ما عُرف حينها بالـmulticulturalism أو تعايش الحضارات في مواجهة دعوات صراع الحضارات. وقد يقول قائل بأن توني بلير ليس بالشخص الذي يمكن أخذ طرحه في هكذا مسائل بالجدية وأنه كان يحاول سحب البساط من التيار اليساري في حزبه الذي تحالف مع قطاعات واسعة من مجتمعات المسلمين المهاجرين فيما عُرف (بتحالف أوقفوا الحرب)، لكن ذلك لا ينفي أنه نفّذ حزمة سياسات في التعليم والإعلام وغيرها استفادت منها مجتمعات المهاجرين.

– إن توني بلير استطاع إنجاز إصلاحات هيكلية كبيرة في حزب العمال فكّت الارتباط الوثيق بينه واتحادات العُمّال بعد أن أبطل وضع هذه الاتحادات يدها على قاعدة العُمّال تلقائياً وافتراض تمثيلها لهم. فقد صاحبت إصلاحات بلير السياسية إصلاحات نقابية واسعة أبطلت التمثيل التلقائي لاتّحادات عمالية بعينها لقطاعات عمالية في القطاع العام.

– بينما لم يكن بوريس يملك أي رؤى لإصلاح هيكلي في حزبه أو اجتماعي في سياسات الحكومة. واكتفى بمُحاولة تشكيل تيار موال له داخل قيادة حزب المحافظين من أبناء المهاجرين من خلال تمكينهم في الوزارة كما شاهدنا تصعيده لعدد منهم في وزارات سيادية كوزارة الخارجية والداخلية والمالية، الامر الذي أدخله في مواجهة شاملة مع حزبه ظن أنه قادرٌ على الانتصار فيها بمزيد من إجراءات تفكيك قبضة الحزب على مفاصل الخدمة المدنية بإقالة عدد من الوكلاء الدائمين في هذه الوزارات المهمة، ولكن ذلك لم يفعل سوى توسيع دائرة المواجهة له وإثارة مخاوف قطاعات لم تكن لتكترث لصراعه السياسي الحزبي.

مهما يكن من أمر فقد انتهت مُغامرة بوريس جونسون في رئاسة الوزراء في سبتمبر ٢٠٢٢ بعد ثلاث سنوات عاصفة. انتهت سنوات توني بلير في رئاسة الوزراء وحزب العُمّال أضعف ومنقسم على نفسه، ولكن كتلة (الاستابلشمنت) المركزية أقوى وأغنى بانضمام تياره البليري إليها، بينما انتهت فترة رئاسة بوريس جونسون وذات (الاستابلشمنت) أضعف وأشد انقساماً.

انتخابات حزب المحافظين لخلافة بوريس جونسون: الهروب إلى الخلف

كما أسلفنا، فإن بوريس جونسون المتحالف مع مايكل غوف ونايجل فرج ورجل الأعمال بانكس وريتشارد تايس وغيرهم من قيادات تيار الخروج من الاتحاد الأوروبي والذي يمثلون أقصى اليمين المتطرف، حاول توظيف تحالفه هذا للفوز بزعامة حزب المحافظين في العام ٢٠١٦ فتفاجأ بخذلان التحالف له. لم يدرك بوريس أن هناك جهات أكبر استغلت هذا التحالف لإنجاز مهمة محددة وأن هذا التحالف لا يصلح لمهام أخرى. وبانتهاء معركة الخروج من الاتحاد الأوروبي عاد جونسون لمُواجهة الواقع وحقيقة أنّه مهما يكن لا يزال وافداً على (الاستابلشمنت).

لذلك شاهدنا بوريس يحاول إعادة بناء تحالف من أبناء المهاجرين في قيادة حزب المُحافظين من أمثال وزيرة الداخلية الأسبق بريتي بتيل ووزير الخزانة ريشي سوناك وناظم زهاوي.

كانت خطوة بوريس صغيرة جداً ومتأخرة وانتهازية تحاول استغلال ظاهرة أكبر أشرنا إليها سابقاً في معالجات توني بلير أو مُحاولته مُعالجتها وهي ظاهرة صعود الجيل الثالث من أبناء المهاجرين سلم نظام سياسي سقفه مقفول والممر إلى هذا السقف ضيق جداً.

لكن مغامرة بوريس جونسون المحدودة وقبلها مُحاولات توني بلير أكدت على حقائق لم يعد من المُمكن تجاهلها.

وانتهت معركة (الاستابلشمنت) مع بوريس جونسون باستقالته، ولكن الظاهرة التي حاول بوريس جونسون استغلالها لم تنته، لذلك شاهدنا (الاستابلشمنت) البريطانية في حالة محنة شديدة جداً خلال انتخابات حزب المحافظين لاختيار خليفة جونسون، فلئن كانت هذه (الاستابلشمنت) تُعتبر جونسون نفسه لا يزال غريباً ووافداً، فقد وجدت نفسها في مواجهة حقيقة أن بعض مرشحي زعامة حزبها وأفضل من يعبرون عن مصالحها ويطرحون سياسات أشدّ تطرفاً من بعض عتاة قادتها هم من أبناء المهاجرين الأكثر غربة من بوريس جونسون نفسه.

هكذا، شهدنا صراعاً حزبياً كانت المعركة الحقيقية فيه ليس الاختيار بين السيدة ليز ترس والسيد ريشي سوناك، وإنما صراع سحب ترشيح بعض أقوى مرشحي الكتلة البيضاء من أمثال السيد بن والاس وزير الدفاع والسيدة بيني موردات رئيسة الهيئة البرلمانية لحزب المُحافظين والسيد توم توغندات رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم. أو بالأحرى معركة توحيد الكتلة البيضاء في مواجهة ريشي سوناك.

عبث السيد بوريس جونسون بمركز السياسة البريطانية عبثاً شبيهاً بذلك الذي أحدثه دونالد ترمب بمركز أختها السياسة الأمريكية، لكن ظاهرة جونسون وترمب تعبر عن استماتة مراكز السياسة التي تُحاول مكافحة التطور الطبيعي الذي استطاع هزيمة جيوش سياساتها وتشريعاتها التي تُحاول تحصين مصالحها وترسيخ احتكارها للشأن العام، من خلال شغل الرأي العام بفقرات من التهريج تقدم فيها أحد بهلواناتها ريثما تستطيع هي تدبير حزمة أفكار محدودة ترمم بها الشقوق التي تضرب أساس مبناها، لكنها هذه المرة تبدو عاجزة تماماً عن تدابير ذات معنى.

والسقوط السريع للسيدة ليز ترس هو سقوط لحزب المحافظين حتى في معركته المحدودة ضد مُغامرة بوريس جونسون بترفيع ريشي سوناك.

وعجز حزب المُحافظين حتى عن استغلال النظام البرلماني المصمم لحماية مصالح طبقته وفشله عن إتقان دور الكلية الانتخابية المزعومة التي تغني عن الناخب في اختيار قيادة تنفيذية للنظام السياسي، وضيق هذه الكلية الانتخابية حتى عن استيعاب التنوع الشكلي في قيادة حزب المحافظين ينبغي النظر إليه في إطار أشمل وأوسع من مجرد سقوط ليز ترس واحتمال عودة ريشي سوناك، فعودة ريشي سوناك أو حتى بوريس جونسون نفسه لن تفلح في إخفاء حقيقة أنّ شقوق النظام السياسي ضاربة الجذور، وإنه لم يعد ينفع معها الترميم والترقيع.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.