ابن الهِرمَة

حجاوى الجمعة…هشام الخليفة *

شارك الخبر

 

في المعنى العام “ابن الهرمة” هو الشخص الذي يحتال على أصدقائه وعلى الآخرين بظرافة ولطافة بحيث يثير ذلك جواً من المرح والفرح بدلاً من الغضب ولكن قد لا يعرف كثير من الناس ان “ابن الهرمة” هذا شخص حقيقي عاش بين الناس وقد كان شاعراً فحلاً سوف نتطرق لشخصيته الحقيقية في هذا المقال.

اول “ابن هرمة” هو صديق عزيز “رحمه الله” امتاز بالظرافة واللطافة والمقالب التي يتناقلها القرباء والغرباء على وجه سواء ويتداولونها بينهم زمانا. قرر الهجرة الى دول الخليج إبان هوجة النزوح الجماعي الذي اجتاحت البلاد في منتصف السبعينات. اذكر اننا قد اقمنا له حفل وداع ضخم في بيت العزابة الكائن بمنطقة “الحلة الجديدة” وقد كانت ليلة مشهودة صدح فيها الجميع بالألحان الشجية واستمتعنا فيها بالكوارع وتوابعها واذكر انني قد ودعته بالدمع السخين والبكاء والانين وتمنيت له حياة سعيدة على أمل الا ينسانا من الدعوات الصالحات والهدايا كل آن وحين ثم غادرت الحفل وانا أمني نفسي بنفس المصير! كنت آنذاك أقيم بمدرسة “الخرطوم  الثانوية القديمة” مع مجموعة من الاخوة الأساتذة. عصر اليوم التالي وانا أتأهب لبداية العمل في  فصول اتحاد المعلمين فوجئت بصديقي العزيز وهو “يتأبط” حقيبة ملابس من نوع “السامسونايت” ابو أرقام وكانت آنذاك موضة عند علية القوم . عندما رأى الدهشة تتملكني سارع بالقول انه لم يشأ ان يعرٍض نفسه ورفاق السكن للحظات الفراق القاسية فآثر ان يتسلل بهدوء وان يغادر من عندي بسكينة ودون ضجة .  و يا ” مؤمن يا مصدق ” استضفته في الغرفة حتى حلول وقت المغادرة للمطار! غير انني اكتشفت بعد ذلك ما صار قصة تتناقلها الركبان ومقلب من نوع “ابوكديس” انغرز في أحد الأصدقاء. كان لاحد رفاق السكن في بيت العزابة حقيبة “سامسونايت” ابو أرقام يعتز بها كثيراُ وضعها فارغة  في الغرفة يتباهى بها و يفتخر. قام صديقنا أثناء ساعات العمل  وقد غاب كل من في المنزل بوضع ملابسه في هذه الحقيبة الحبيبة ثم افرغ حقيبة صاحب “السامسونايت” التي يحتفظ فيها بملابسه على السرير ثم باعها لصاحب البقالة وغادر “يلقط الحب ويجري وهو فرحان” فكان هذا اول “ابن هرمة” في هذه السلسلة.

” ابن الهرمة” الثاني ايضاً صديق عزيز ورفيق امتاز ايضا بإثارة المرح والفرح أينما حل. جاء في إجازة من دولة خليجية محملاُ بالهدايا والوصايا من ثياب نسائية واحذية وعطور وقد كانت كلها  بالصدفة المحضة مرسلة لأهل أصدقائه في مدينة “ود مدني” . بعد ان استراح مع الاهل والأصحاب  في العيلفون اياماً غادر إلى “ود مدني” تصحبه السلامة لتوصيل الأمانات إلى أهلها. هنالك قصد مجموعة من الاصدقاء من ابناء العيلفون العزابة وكانوا من علية القوم أطباء ومهندسين يعملون في “ود مدني” . لم يكن هنالك آنذاك “نظام عام” ولا خاص اذ لم يكن أصحاب “المشروع الحضاري” قد هجموا على الناس يسومونهم سوء العذاب بعد ! ما ان أرخى الليل سدوله حتى تقاطرت الحسان على بيت العزابة تسبقها الاماني بقضاء ليلة سعيدة حمراء او خضراء لا يهم. تفاجأ صاحبنا بالجمال الذي هجم على المنزل دون إنذار فانبهر وانسحر ثم مالبث بعد ان “لعب القرد في راسو” وانتشى ان أسرع بفتح شنط الوصايا والهدايا للحسان وطلب منهن في كرم حاتم ان “تنقي” كل واحدة ما يناسبها فهجمت الحسان على الشنط تختار كل واحدة هدية على المقاس!  استمر الحال على هذا المنوال اياماً عديدة حتى اصبحت الشنط فارغة مثل “فؤاد ام موسى” !. بعد ان تكاثرت الاتصالات من اهل أصدقائه عن وصاياهم وهداياهم ادعى صاحبنا و”براءة الأطفال في عينيه” ان الشنط قد سطا عليها لص شرير في “السوق الشعبي” في الخرطوم وانه قد سجل بلاغاً بفقدانها في مركز شرطة السوق. وهكذا تبخرت آمال واحلام بنات وأبناء أصدقائه الذين كانوا يمنون النفس الأماني بالهدايا والعطايا من بلاد الاغتراب وكل ذلك بفضل كرم “ابن الهرمة” رفيق آبائهم في الغربة  وسخائه.

ثالث “ابن هرمة” ايضا صديق عاد عودة نهائية من بلاد الاغتراب وقد تسلح بـ”اب زيق” وهو نوع من البكاسي كان مشهوراً في السبعينات فكان يستعرض ويباهي به الأمم و الناس. مرت الأيام سريعة وتبخر ما في اليد من ريالات ودولارات فاضطر صديقنا ان “يقايط” البوكس “اب زيق” بعربة بيجو متهالكة على ان يستعين بفرق السعر على نوائب الدهر. وما لبثت الأيام ان دارت دورتها ونضب “فرق السعر” فاضطر صاحبنا ان يقايط “البيجو”  بثلاجة ويقبض فارق السعر كاش يستعين به على نوائب الدهر الذي يبدو أنه قد بدأ يقلب له ظهر المجن. مالبث “فرق السعر” ايضاً ان تبخر في الهواء مع ارتفاع تكاليف المعيشة بصورة جنونية حتى اضطر صديقنا ان يقايط الثلاجة بـ”مكوة كهربائية” وان يقبض فرق السعر كاش يستعين به ايضاً على نوائب الزمان. وهكذا تقلص “البوكسي اب زيق” حتى تدهور واصبح في النهاية  “مكوة كهربائية” !! ويالها من نهاية محزنة لبطل الساحة “اب زيق” على يد صديقنا ” ابن الهرمة” الثالث في هذه السلسلة.

نأتي الآن لـ”ابن الهرمة” الأصلي من هو وما هي قصته؟.

هو ابراهيم بن علي بن سلمه بن عامر بن هرمة الكناني. ولد في المدينة المنورة في العام ٨٠ هجرية وتوفي في العام ١٧٦ هجرية وبذلك يكون من المخضرمين الذين عاصروا الدولة الأموية و جزءا من دولة بني العباس. كان شاعراُ فحلاً حتى قال عنه الجاحظ : (لم يكن في المولدين أصوب بديعاً من بشار وابن هرمة) . اذن لماذا صار اسمه رمزاً للاحتيال على الأصدقاء والغرباء على حد سواء ؟ اشتهر “ابن هرمة” الاصلي بالاحتيال على قضاء حوائجه بالنوادر والطرائف مع ملاحة و ظرافة بائنة. يقال انه قد غشي قوماً يبغى طعاماً فجلسوا يذاكرونه القرآن وعلومه حتى مل وغادر دون أن يصيب شيئاً من الطعام فقال لمن قابله عند الباب: (حفظ هؤلاء القوم القرآن كله ولكنهم نسوا سورة المائدة!) . كان سكيرا عربيداً وقد عانى من ذلك الأمرين فقد كان العسس يقبضونه ويحدونه جلداً مبرحاُ فشكا ذلك للخليفة المنصور وقد كان ينادمه ويجالسه. طلب من الخليفة المنصور  ذات مرة  ان يصدر امراً يعفيه  من الجلد فقال له الخليفة: (كيف السبيل إلى ذلك – قبحك الله -وهذا حد من حدود الله ؟) فاقترح عليه “ابن هرمة” ان يصدر امراً للشرطة يقول فيه انه اذا قبض على ابن هرمة سكرانا   يجلد مائة جلدة على ان يجُلد الشرطي الذي قبضه ثمانين جلدة! فيقال ان الشرطي بعد ذلك  اذا رأى ابن هرمة يترنح سكراناُ في الطريق يسرع بالهروب حتى لا يتعرض للجلد والضرب المبرح! وهكذا نجا ابن هرمة من الجلد بالحيلة والمكر بحكم انه “ابن هرمة”. قال “ابن هرمة” في احدى قصائده:

فانك واطراحك وصل سعدي

لأخرى في مودتها نكوب

كثاقب لحلي مستعارٍ

بأذنيها فشأنهما الثقوب

فردت حلى جارتها إليها

وقد بقيت بأذنيها الثقوب

*****

لا تحتال ولا تختال فالحقيقة ستظهر وان طال الزمن .كن كما أنت ولا تكن “ابن هرمة” وسلامتكم.

 

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.