رُدْ ” قرضي “

حجاوى الجمعة… هشام الخليفة *

شارك الخبر

 

والقرض عرفا هو ” الدَين ” لشخص على آخر صديقاً كان او قريب وعلى المَدِين ان يرد الدين باعجل ما تيسر . ولكن ليس بالضرورة ان يكون ” الدَين” بالمادة فقط وانما يمكن ان يكون موقفاُ وقفه معك صديق وقت ان احتجته غير ان الأيام والممارسات اثبتت انه في كثير من الأحيان لا يقوم المدين بتسديد ما استدانه فيخلق ذلك جفوة وربما مشاكل قانونية بين الاثنين.

اول القصص هنا عن شخص اعرفه يمتاز بجميل الأعمال وكريم الخصال لذلك كان اهله واصدقاؤه كثيراً ما يقصدونه وبرغم انه كان موظفاً لا يملك الكثير ولكنه كان لا يرد طالب حاجة ابدا وهو قادر على تلبيتها. كانت تربطه بأحد أقاربه علاقة متينة فقد كانا في نفس السن تقريباُ وعلى نفس المستوى الاجتماعي والفارق الوحيد بينهما هو ان القريب كان ” معيلاً ” اي كثير العيال مما كان يدخله في كثير من ” المطبات المالية ” وقد كان صديقنا لا يخذل قريبه ابداً فكان يمد له يد العون فيخرجه من ” الورطة ” ويكفيه شر سؤال الناس ” الأغارب ” . دارت الايام دورتها وفعل الزمن الافاعيل بصديقنا وتدهورت احواله المالية تماما وذلك بعد ان عصفت به رياح التسعينات العاتية فقذفت به بعيدا عن وظيفته برغم لم يكن يتعاطى السياسة ابدا ولكنها أقدار الله تقلب الانسان ذات اليمين وذات الشمال. اعتكف الرجل في بيته فقد كان ابياً كريم النفس عزيزها هنا تداعى الأهل والأصدقاء ووقفوا معه وقفة رجل واحد وساعدوه بقدر ما يستطيعون غير ان الموقف الغريب هو موقف قريبه الذي لم يكن يتوانى ابدا عن مساعدته . وقف هذا الرجل موقفا حيّر ” الغريب والقريب ” من الذين كانوا يعرفون العلاقة بين الاثنين فقد ابتعد تماماً عن المشهد كأن هذا الرجل لم يمد له يد العون يوماً بل استنكف حتى عن زيارته او السؤال عن احواله وقد كان ذلك مثار استغراب الجميع وما زال الوضع كما هو ومازال ” القرض مستمراً “.

القصة التانية عن اثنين ربطتهما علاقة العمل والزمالة فتطورت واصبحت صداقة شملت العائلتين من الأبناء والبنات . استمر الحال كذلك زماناً طويلاُ كانت العلاقة بين العائلتين تزداد فيه رسوخاً و متانةً وقوة حتى حانت ساعة الفراق بإحالة الصديقين للتقاعد. ذهب كل في حال سبيله فاستقر أحدهما فى بلده بينما اختار الآخر دولة مجاورة للإقامة فيها هو وأسرته. الاول اختار العمل التجاري فافتتح مكتباُ وبدأ يمارس التجارة بما أمتلك من مال التقاعد ودر ذلك عليه مالاً وفيراُ خصوصا وانه قد استعان بصديقه في الدولة المجاورة لارسال البضائع المطلوبة والمرغوبة من هناك فتطورت العلاقة واصبحا شريكين بالمال ثم فاجأ الموت الصديق الذي يقيم في الدولة المجاورة فانتقل إلى الرفيق الأعلى. حانت ساعة الحساب وقد كان الأبناء من الطرفين على دراية بالشراكة المالية بين الاباء ولكن الأمور ما لبثت ان تعقدت فقد انكر ابناء الصديق الذي يقيم في البلد اية مستحقات مالية على والدهم لصديقه في البلد المجاور خصوصاً وانه لم تكن بين الاثنين سجلات رسمية بل كان يتعاملان بالثقة فقط وقد كان ذلك موقفاً مخزياً خصوصاً وان القريبين من الاسرتين كانوا يعرفون الشراكة بين الاثنين ولكن دون تفاصيل غير ان القانون لا يعترف الا بالمكتوب والمدوّن فقط . وهكذا ضاعت على أسرة اموال هي في أشد الحاجة لها خصوصاٍ وان رب الأسرة لا يعمل فاصبحنا امام ملهاة تراجيدية ..وهكذا ما ” زال القرض مستمراً “.

قصتنا التالية حدثت لي شخصيا ” سمعتها من واحدة ” في لندن اواسط التسعينات فقد ذهبت إلى هناك مبتعثاً من الشركة التي اعمل بها في دورة عن ” طرق تدريس اللغة الانجليزية ” وفي العادة فأنا أقيم في مثل هذه الزيارات مع أسرة تتكون في الغالب من اب او ام استقل ابناؤهم وبدأوا حياة بعيدة عنهم فأصبح المنزل بلا سكان الا الاب او الام. وبما ان ” الخواجات ” يستغلون المتاح للنهاية فلذلك يقومون بتأجير بعض غرف المنزل الفارغة للطلاب والزوار. كانت اقامتي مع امرأة في منتصف العمر تدعى ” مسز بول ” تعمل بالتدريس وقد وجدتها فرصة طيبة للجلوس معها في الامسيات للاستماع الى تجاربها في التدريس خصوصاً وهي تعمل في بيئة مختلفة عني مما يمنحني ذخيرة وافرة من التجارب المفيدة. حكت لي ذات مرة تجربة طريفة احكيها لكم هنا لعل فيها ما يفيد. تقول “مسز بول” انه قد تم نقل احد المديرين للمدرسة التي تعمل فيها ومنذ اول يوم شعر الجميع بعدم الارتياح من المدير الجديد فقد كان فظاً قاسياُ لا يتوانى عن إيقاع أقسى عقوبة لأقل هفوة. سرى التذمر والاستياء بين أسرة المدرسة حتى تطور ليصبح نوعاً من التمرد. اخيراً قرر الجميع أن يواجهوا السيد المدير في اول اجتماع وتم الاتفاق على ان يتحدث “الجميع” وان يكون النقد منصباُ على طريقة المدير في التعامل مع المعلمين. حانت ساعة ” الحقيقة ” عندما التأم الاجتماع برئاسة السيد المدير وبعد أن تحدث حديثاً عاماُ فتح باب التعقيب للجميع. تقول ” مسز بول ” انها كانت أول المتحدثين فوجهت نقداً حاداً لأسلوب المدير في إدارة المدرسة. ران صمت عميق على القاعة لم يقطعه الا صوت المدير الذي تحول إلى ما يشبه الزئير وهو يتساءل ان كان هنالك تعقيب آخر. جال المدير بعينيه الغاضبتين على الجميع ولكن لم يكن هنالك معقب آخر. جبن زملاؤها وآثروا السلامة بعد ان رأوا الشرر يتطاير من عيني المدير. وهكذا بقيت ” مسز بول ” وحيدة في الساحة بعد ان تخلى عنها زملاؤها فأصبحت هدفاً دائماً يسهل اصطياده دون معين ولا نصير . أقرضت ” مسز بول ” زملاءها موقفا شجاعا ولكن لم يرد احد القرض تقول لي بحسرة وألم … ما ” زال القرض مستمرا “.

تبقى لنا العنوان وهو محاكاة لفيلم ” رُدْ قلبي ” المأخوذ عن قصة بنفس الاسم للكاتب المصري يوسف السباعي والتي تحولت في العام ١٩٥٦م إلى فيلم من بطولة شكري سرحان وصلاح ذو الفقار ومريم فخر الدين . القصة تدور أحداثها خلال العهد الملكي إبان سيطرة الباشوات واساطين الاقطاع في فيلا مملوكة للامير ” ابراهيم عمر ” سليل أسرة محمد عي باشا . تقع الفيلا في شارع ” سرايا المعادي ” في حي المعادي العريق حيث يقيم الباشا وابنته الأميرة ” انجي ” وفي كوخ صغير في الحديقة يقيم الجنايني ” عم اسماعيل ” وابنه عمر الذي كان في نفس سن الأميرة ” انجي ” . نشأت الأميرة وابن الجنايني معا يلهوان ويلعبان منطلقين في جوانب الحديقة الفسيحة دون احساس بالفوارق الطبقية بين الاثنين غير أنهما ما لبثا ان كبرا وكان لزاماً عليهما الانفصال التام فهما من عالمين مختلفين لا يربطهما اي رابط كان ومع ذلك لاحظ الباشا ان ابنته تميل لابن الجنايني ميلاً واضحاً فقرر ان يبعدهما عن بعض وبعد أن فشلت التنبيهات والتحذيرات توسط لـ” عمر ” فتم قبوله في ” الكلية الحربية ” ثم رتب لابنته زواجاً صورياً لابن احد الأمراء من أصدقائه. اندلعت ثورة يوليو ١٩٥٢م في مصر فأطاحت بالنظام الملكي وتمت مصادرة أملاك الباشوات لمصلحة الدولة ومن بينهم الامير ” ابراهيم عمر” الذي فقد اقطاعياته و قصره الذي تحول الآن إلى جزء من مباني “جامعة الدول العربية”. من المفارقات ان ” ابن الجنايني ” عمر كان قد تخرج واصبح ضابطا في الجيش وقد جاء على رأس القوة التي صادرت ممتلكات الأسرة و مجوهراتها ويقال ان الأميرة انجي قد استعطفت الضابط عمر ان يترك لها فقط سلسالاً ذهبياً عليه قلب ومن هنا جاءت التسمية ” رُدْ قلبي “.

لا تقابل المعروف الا بالمعروف والجميل الا بالجميل واعمل الخير للآخرين وسيجزيك الله عن كل ما قدمت وما جزاء الإحسان عند الله إلا الإحسان وسلامتكم.

 

 

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.