الدهر يومان…

حجاوى الجمعة…. هشام الخليفة*

شارك الخبر

 

قد تصفو الأيام وتبتسم فيحسب المرء ان ذلك سيدوم فيغره ذلك حيناً  قد يطول او يقصر ثم ما يلبث الحال ان ينقلب إلى حال متبدل ووضع متغير فيه كدر و مشقة فسبحان مغير الاحوال  من حال  إلى حال.

يقول صديقي انه كان يعمل في احدى الدول الخليجية في شركة كبيرة ووظيفة مرموقة …يقول انه قد جمعته مناسبة غريبة بأحد مواطني تلك الدولة وكان رئيسه المباشر في العمل. طلب من رئيسه هذا اجازة لاداء مناسك الحج وكان يستحقها حسب قانون الشركة مدفوعة الأجر غير ان ظروفاً قاهرة منعته من ذلك . قضى الاجازة بالمنزل وفي اول يوم عمل قصد مكتب رئيسه وشرح له ما حصل ثم طلب منه ان يخصم قيمة الاجازة من راتبه لانه لا يستحقها فهو لم يؤد الشعيرة اصلا للظروف التي ورد ذكرها . ترك هذا انطباعا حسنا لدى رئيسه فقد رأى فيه الأمانة والصدق ومنذ ذلك الحين نشأت بينهما علاقة قوية تطورت إلى صداقة بين الاسرتين فتخالطت برغم التحفظات التي يضعها اهل ذلك البلد في التعامل . مضت الأيام هادئة والعلاقة تزداد رسوخاً ومتانةً حتى تحولت إلى شيء أقرب إلى ما بين الأخوين الشقيقين. في هذه الاثناء ارتفع نجم صديقه الخليجي وقفز فوق المراتب قفزاً حتى أصبح رقماً يشار اليه بالبنان وواحد من كبار موظفي الشركة. وكما يحدث في مثل هذه الأحوال التف حوله الناس كل يحاول التقرب اليه  بأية وسيلة . كل هذا وصديقنا يراقب وهو سعيد بما اصاب صديقه من نجاح. كان الصديق الذي أصبح من كبار موظفي الشركة يتذمر من تهافت الناس عليه فقد احاطوا به إحاطة السوار بالمعصم كل يحمل الهدايا والعطايا والنذور. كان ذلك الرجل متعففاً فقد نشأ في بيئة بدوية لا تعرف النفاق ولا “التمليس”. الغريب في الامر انه كان يعتقد في صدق مشاعر هؤلاء الناس لكنه كان يتذمر منها دائماُ برغم انه ما قصٌر فقد كان يقضي لكل ذي حاجة حاجته في حدود اللوائح والقوانين. كان صديقنا ينبههه إلى نفاق هؤلاء الناس وانهم سينصرفون عنه ان انصرفت عنه الوظيفة ولكنه لم يكن يصدق ذلك حتى جاء اليوم الذي أحيل فيه صاحبنا للتقاعد فقد اختفت الوفود المتهافتة فجأة وتفرق شملها وكأنها لم تكن!!! هنا أدرك صديقه صدق المقولة الحكمة فقد انقضى يوم من الدهر وجاء يوم مختلف لم يكن يتوقعه ابداً ويا سبحان الله مغير الاحوال ومبدل الظروف.

القصة التالية عن رجل كان ملء السمع والبصر وبرغم انه لم يكن في مرتبة عالية ولكنه كان يعمل في احدى القوات النظامية مما اكسبه هيبة ومكانة عالية بين افرد اسرته وفي المجتمع عموماُ. كان رجلاً كريماً معطاء بابه مسموح وقلبه مفتوح واياديه ممدودة. وفي نفس الوقت كان مهاباً من الجميع بصورة كبيرة فلم يكن أحداً يخالفه الرأي ابداً صغيراً كان او كبيراُ. كان الصغار يهربون من أمامه بمجرد ظهوره في “الافق” فقد اكسبه عمله في العسكرية قوة جسمانية هائلة لم يتوان في استخدامها بسبب وبدون سبب احياناً بل انه في احدى المرات كاد يزهق روح احد صغار الأسرة الذي عصي والدته وتطاول عليها لولا أن خلصه الناس من بين يديه.مرت الأيام والسنون وقد رأيته قبل فترة وقد بلغ من الكبر مبلغاً عظيماً وهده المرض فخارت قواه وخفت صوته حتى لا يكاد المرء يسمعه ذهبت الوظيفة ورونقها واصبح تحت رحمة غيره يأكل مما يجودون به عليه ومن لا يملك قوته لا يملك قراره وفي احدى المرات رأيت الصغار يتقافزون حوله مثل القرود وهو جالس لا حول له ولا قوة فقلت يا سبحان الله مغير الاحوال ومبدل الأشكال ولكنها الدنيا فقد مضى من الدهر يوم وجاء يوم آخر مختلف تماماً!!!

القصة التالية عن احد أصدقاء الدراسة الجامعية جاء من احد الأقاليم وقد اكتسب صفاتها جميعاُ. منحه الله بسطة في الجسد وقوة ومهابة كساها بالتجارة والنجاعة حتى أطلقوا عليه اسم “الكلس” وقد كان اسماً على مسمى. مرت الايام والسنون وسافرت انا مطارداً الريال ابوعقال والدولار ابوصلعة ونسيت “الكلس” بين من تبخر من ثنايا الذاكرة التي اصبحت تزدحم بوجوه جديدة تعرفنا عليها في رحلة الحياة المرهقة الطويلة حتى كان ذلك اليوم الذي لا انساه ابداُ. كنت اقضي اجازتي السنوية في السودان وبينما انا اتجول بين ردهات السوق الافرنجي اذ بيد مرتعشة تربت على كتفي وصوت واهن يناديني باسمي. تمعنت في الشخص الذي امامي بقوة ولكنني لم اتبينه ابدا. كان نحيفاً بصورة مبالغة رسمت الأيام على ملامحه صورة للارهاق والمرض والتعب. عرفته اخيراً من علامة على الجبهة اكتسبها من معارك الطفولة وشقاوتها. كان هو “الكلس” بلحمه “فقد ذهب الشحم وذاب” ووهن العظم والصوت. حكى لي بصوت خافت اسمعه بصعوبة كيف ان داء “السكري” قد داهمه فجأة وبما انه لم يعر الامر اهتماماً في البداية فقد تمكن منه المرض تماماً وهده فأصبح كما ارى صوتاً دون صورة …. انقضى يوم من الدهر وجاء يوم آخر مختلف تماما يا سبحان الله!!!

القصة التالية اكثر ما أرويه هنا إثارة وأصدق تعبيراً عن تبدل الحال وتغير الاحوال. تحكي القصة عن شخص يدعى ناصر الخرافي واسمه الكامل ناصر محمد عبد المحسن الخرافي. ولد ناصر الخرافي في الكويت العام ١٩٤٤م لأب كان يعمل بالتجارة وقد تلقى تعليمه الأولي في الكويت ثم انتقل الى مصر فأكمل دراسته في “كلية فكتوريا” بالإسكندرية وقد كانت مركزاً تعليمياً مرموقاً لابناء الأسر الميسورة في العالم العربي تخرج منها من السودان الامام الهادي المهدي والشريف حسين الهندي ومن الاردن الملك حسين. بعد الدراسة التحق ناصر بوزارة الداخلية غير انه سرعان ما تركها اثر اتهامات يقول انها جائرة فحذا حذو والده واشتغل بالأعمال الحرة خصوصاً مجال الاسهم الذي برع فيه وسرعان ما أصبح احد أباطرته ويقول إن سبب ذلك هو نمو ثروته بسرعة شديدة نتيجة لمبادراته الخلاقة في مجال ريادة الأعمال ففي مرة من المرات  اشترى خمسين محلا في أحد الأسواق قسمها إلى مائة محل وباعها باضعاف مضاعفة مما اشتراها بها من اموال وهكذا نمت ثروته وتضايقت خصوصا بعد نشوء “سوق المناخ” التي خلقها دخول الاسهم الخليجية. وهكذا أصبح ناصر الخرافي احد أباطرة المال والاعمال في الخليج فقد ضمت مجموعته شركات مرموقة مثل “شركة زين” للاتصالات وشركات الاطعمة العملاقة “ومبى” و”امريكانا” و”بيتزا هت” و”كادبوري” وغيرها واصبح رقماً ورمزاً من رموز المال والأعمال وبلغت ثروته كما قدرتها “فوربس” أربعة عشر مليارا من الدولارات مما وضعه على رأس قائمة أثرياء العالم العربي بل والعالم اجمع. ويقال انه كان يمتلك أربع سيارات “رولز رويس” وهي افخم أنواع السيارات آنذاك. ثارت حوله اقاويل نفاها في اكثر من مناسبة فقد قالوا انه كان يغير سياراته مع الوان ملابسه وانه كان ينثر العطور في كل السوق أربع مرات يوميا ولكن جاءت النهاية اخيراً. يقول عن سبب تدهور موقفه المالي ان الكثيرين قد قصدوا إزاحته من الطريق وإبعاده من السوق فعملوا على محاربته حربا لا هوادة فيها ولم تشفع له علاقاته مع الرؤساء العرب فقد منحه عبد الناصر وسام الجمهورية لمساهماته في انعاش الاقتصاد المصري وكذلك الملك حسين ملك الاردن. تدهورت “سوق المناخ” وهي سوق الاسهم في الكويت وفقدت الشركات رأسمالها واجتاحت البلاد ما يعرف بـ”أزمة سوق المناخ” فأفلس رجال أعمال كثيرون وكان على رأس هؤلاء السيد ناصر الخرافي الذي فقد ثروته بالكامل وقد قرأت له في مقابلة صحفية آخر أيامه انه أصبح يعيش على إعانة قدرها ٣٠٠ “ثلاثمائة” دينار كويتي تقدمها له “وزارة الرعاية الاجتماعية” ثم مات اخيراً بأزمة قلبية معدماً فقيرا في ١٧ أبريل ٢٠١١م في أحد مستشفيات القاهرة .ذهب كل ذلك العز والفخامة والوسامة ويا سبحان الله !!!

قال الامام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: (الدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر واذا كان عليك فاصبر).

وسلامتكم .

 

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.