من العشش إلى الزمالك

حجاوى الجمعة…. هشام الخليفة*

شارك الخبر

 

تنشأ التجمعات السكانية نتيجة هجرات أفراد او مجموعات صغيرة بحثا عن الماء او المرعى وأحيانا للابتعاد عن الآخرين للعبادة ثم ما تلبث هذه التجمعات ان تتحول إلى مدن كبيرة وكذلك أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة يبدأون بدايات بسيطة جدا ثم مع العزيمة والإصرار يتحولون إلى رموز في المجتمع. سنستعرض هنا بعضا من هذه القصص التي ارجو ان تكون مفيدة ومصدر إلهام لنا كلنا.

اول الشخصيات التي قفزت من قاع المجتمع إلى القمة هو السيد بن لادن والد زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن والذي بنى إمبراطورية مالية ضخمة تقريبا من لا شيء.

اسمه محمد بن عوض بن لادن ولد في العام ١٩٠٨م في قرية (رباط باعشن) في حضرموت باليمن. نشأ بن لادن الاب وسط أسرة فقيرة جدا يجد عائلها قوت يومه بجهد جهيد ثم ما لبث ان هداه تفكيره إلى الهجرة الى بلاد الحرمين بحثاً عن الرزق وهناك عمل في البداية حمالاُ في ميناء جدة حيث انه لم يكن يحمل اي مؤهل دراسي كما أنه لا يجيد اية حرفة من الحرف المعروفة.

بعد ان استقرت احواله بدأ يمارس هواية عنده وهي ترميم المنازل القديمة والتي كانت البداية الحقيقية لامبراطورية البناء الضخمة التي انشأها بعد ذلك. بدأ يكتسب سمعة طيبة في هذا المجال حتى وصلت إلى مسامع المسؤولين. أنشأ شركة صغيرة للمقاولات في العام ١٩٣٠ م وكانت بداية اعماله ان عهدوا اليه بترميم بعض المباني الاسلامية القديمة التابعة للدولة وعندما أجاد ذلك وثقت فيه السلطات وأوكلوا له مشروع توسعة “الحرم النبوي الشريف: في العام ١٩٥٠م وفي العام ١٩٥٥م قام بتوسعة” الحرم المكي الشريف” ثم عبرت سمعته الحدود فعهدوا اليه بترميم “قبة الصخرة” في العام ١٩٦٠م. وهنا كانت أقدام محمد بن عوض بن لادن قد رسخت في عالم المقاولات والإنشاءات واصبح اسم بن لادن معروفاً على نطاق واسع وتضخمت ثروته حتى وصلت إلى مليارات الدولارات. تزوج بن لادن ٢٢ (اثنين وعشرين) مرة انجب منها ٥٥ (خمسة وخمسين) ابناُ وابنه منهم أسامة الذي انجبه من السيدة “حميدة العطاس” وهي سعودية من أصول سورية.. في العام 1967 وبينما كان يتفقد بعض المنشآت والمباني التابعة لشركته اصطدمت طائرته الصغيرة بأحد الجبال مما نتج عنها وفاته وهكذا كانت نهايته بينما اشرف ابناؤه فيما بعد على تطوير شركته التي اصبحت عملاقاً من عمالقة البناء في العالم العربي بل وفي العالم اجمع.

ثاني الشخصيات هي شخصية “رشاد عثمان” وهو مصري بدأ بداية مشابهة لابن لادن. تذكرت “رشاد عثمان” بعد ان اختفى من ذاكرتي ومن المسرح وذلك بعد ان سمعت خبر وفاته في التلفزيون قبل أيام فقفزت إلى ذاكرتي قصص “القطط السمان” وهو التعبير الذي استخدمه الصحفيون لوصف مجموعة من رجال الاعمال الذين تضخمت ثرواتهم دون مبررات واضحة في عصر الانفتاح ايام الرئيس الراحل انور السادات . ولد السيد “رشاد عثمان” في اربعينات القرن الماضي في قرية صغيرة اسمها “مينا البصل” القريبة من “قنا” في صعيد مصر وكآلاف “الصعايدة” نزح إلى القاهرة واختار حي “شبرا” الشعبي المعروف لسكناه حيث يقيم الكثيرون من اهله ومعارفه غير انه ولسبب غير واضح انتقل الى الإسكندرية الميناء الرئيسي لمصر. التحق عاملاً بإحدى شركات النقل هناك باجر يومي قدره ثلاثون قرشا “٣٠ قرش” كانت تكفي بالكاد لتغطية منصرفاته اليومية من مأكل وملبس وإقامة. استهواه العمل في مجال النقل حيث انه كرجل قادم من الريف بهرته هذه التكنولوجيا الغريبة علية فبدا يُنشئ عمله الخاص في مجال النقل وقد جره ذلك لمجال آخر مختلف تماماُ هو مجال تجارة الأخشاب وهو المجال الذي برع فيه حتى أصبح من اباطرة تجار الأخشاب في مصر. تضخمت ثروته بصورة مبالغة خصوصاً بعد ان توثقت علاقته بالرئيس انور السادات ويقال ان السادات في احدى زيارته للاسكندرية التفت اليه وخاطبه قائلا :(خلي بالك من اسكندرية يا حاج رشاد) وقد كانت هذه العبارة المفتاح الذي فتح له الطريق لاحتلال مركز الصدارة بين رجال الأعمال المصريين. وبنهاية عهد السادات توجهت السهام نحو رجاله وتم تقديم رشاد عثمان وآخرين للمحكمة في اكثر من قضية والتي حكمت عليه بمصادرة جزء كبير من أمواله. كل هذا لا يقدح في عصاميته وطموحه اللذين حملاه من عامل بسيط بأجر قدره ” ثلاثون قرشا” في اليوم إلى رجل قدرت ثروته في نهاية عهد السادات بمئات الملايين من الجنيهات المصرية وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك الزمان.

من نشأة الرجال إلى نشأة المدن ونبدأها باهمها وهي “الخرطوم”. اختلفت الروايات في اصل الاسم فمنهم من ارجعها إلى تشابه شكلها مع “خرطوم الفيل” غير ان هنالك بعض الباحثين أرجعوها إلى أصول أفريقية فالكلمة في لهجة بعض القبائل الجنوبية تعني “الأرض السبخة” اي الطينية ويرجحون ان قبائل من جنوب السودان هي التي استوطنت في البداية في تلك المنطقة. غير ان الراجح وفي كثير من المصادر ان اول من استوطن المنطقة هو الشيخ “ارباب العقائد” او “ارباب الخشن” كما كان يطلق عليه نسبة لخشونة أطرافه من كثرة الوضوء وهو من “محس توتي” وقد أورد احد الرحالة الاوربيين في مذكراته انه عندما اقترب من المنطقة رأى منازل متفرقة على البعد قال له الاهالي انها “خرطوم توتي”. انتقل الشيخ “ارباب العقائد” من توتي إلى الضفة الغربية من النيل حيث بنى كوخاً من الأخشاب والأغصان جعله مسجدا صغيرا كان يعلم فيه المزارعين القرآن وأصول الفقه والدين ثم لبثت المباني البدائية التي انشأها المزارعون الذين انتقلوا من منطقة “بري” ان تكاثرت حول المسجد بينما تطور المسجد نفسه وتم بناؤه من المواد الثابتةة وابان الحكم التركي تمت إعادة بنائه من الحجر وأطلق عليه اسم “جامع فاروق” وهو اول مبنى تقريباً في مدينة الخرطوم ومن حسنات الانقاذ انها أعادت للمسجد اسمه القديم وهو “مسجد أرباب العقائد” . هذه باختصار قصة نشأة مدينة الخرطوم التي كان للشيخ ارباب العقائد المحسي الخزرجي حفيد الشيخ ادريس ابن الارباب الفضل في تأسيسها.

ثم نأتي لعنوان المقالة وعلاقة العشش بالزمالك. ضاحية “الزمالك” تعتبر من المناطق الراقية جدا وتقع في الجزء الغربي من منطقة القاهرة الكبرى . كانت هذه المنطقة في البداية عبارة عن جزيرة تغطيها الحشائش البرية وترعى فيها الثعالب والذئاب بينما تسرح الثعابين والعقارب. وسط هذا الكم الهائل من الحشائش بنى “الخديوي اسماعيل” قصراً في طرف الجزيرة لاقامة الامبراطورة “اوجيني” التي جاءت في زيارة للقاهرة وذلك بسبب ان المنطقة عرفت بجوها المعتدل وهوائها العليل وقد تم تطوير هذا القصر في عهد الثورة فاصبح فندق “الماريوت” المعروف. في العام ١٨٧٩م جاء من قنا في الصعيد رجل يسمى “عبد المنعم محمدين” واشترى قطعة من الأرض في الجزيرة مقابل “قرشين ونصف” لكل فدان . قام “عبد المنعم محمدين” بإزالة الأشجار والحشائش وبدأ زراعة بعض الخضروات والفاكهة وعندما نجحت التجربة استقدم جماعة من اهله من الصعيد الذين بنوا “العشش” واستقروا في الجزيرة ومن هنا جاء اسم “الزمالك” وهي كلمة تركية تعني “العشش”. بدأ العمران والحركة تدب في المنطقة ولشهرتها بالجو المعتدل والمناظر الخلابة قصدها الأمراء والاثرياء فبنوا الفلل والقصور ثم تبعهم الفنانون ومشاهير المجتمع.

بدأت “العيلفون” موطني بداية مشابهة بمجموعة من اهلنا السالماب والحمدلاب الذين سبقهم العنج للمكان ثم ما لبثت ان تطورت وكبرت بعد ان قدم إليها الولي الصالح ابونا الشيخ ادريس ابن الارباب والذي صاهر بعض وجهاء المنطقة والذي برع في علوم الدين والفقه فعمت شهرته الآفاق وقصده الزوار وطلاب العلم من كل بقاع السودان حتى ان بعض كتب التاريخ قد ذكرت ان قوافل الزوار كانت تنيخ جمالها خارج العيلفون لكثرتها. أنجبت العيلفون الكثير من العلماء والمثقفين والادباء والفنانين والشعراء نكتفي بذكر واحد منهم حتى لا نطيل (برغم ما في ذلك من ظلم للآخرين) هو عمنا الشاعر ود الرضي الذي كتب الشعر الرصين وكان جله لحسان من العيلفون نذكر منها واحدة هي اغنية مغمورة وهي اغنية “خوجلي ابو الجاز” والاغنية قيلت في عمتنا “جدة الخليفة احمد” شقيقة الخليفة بركات خليفة الشيخ ادريس ابن الارباب ونور الجليل واخت محمد والشيخ ادريس وعثمان. تغنى بالأغنية ابان عهد الطمبور عمنا “السر ود احمد ود رباح” من العيلفون و”ود اللازم” و”أم حنين” من الدبيبة ثم أدخل عليها عمنا “خلف الله حمد” جماليات لحنية وضع فيها بصمته الخاصة ثم سجلها للإذاعة السودانية تقول بعض كلمات الأغنية:

يا خوجلي ابو الجاز

للبروقل وفاز

الحور جنا الذوات

دا ود أصال وعزاز

*****

ماهو جدي النال

السكونو عزاز

كحلي ود عينو

والجبين نزار

في الملم ان جات

بتطرد الحزاز

تخرش الكبريت

في الصبي الهزاز

*******

الجبين مطروح

والحواجب نون

بعنٌوِن البسمات

بي تلاته عيون

اللهيج سكر

او عسل مشنون

الكبود فارمه

أكباد بغير سنون

******

بت عزاز الناس

البستجيروهُن

بت “نعم سيدي”

للبدوروهُن

من بحور الدين

للبغيروهٌن

البيرقوا الناس

البقروهُن

******

ما اندكم حُسنك

طيلة الحِده

وتمسك أخلاقه

منافيه الشٍده

خالي يا خالي

اسألني عن “جِده ”

الفوقه توب الله

المابدور عِده

******

شيخنا قال

انتو خرْفتو

أراكم يا مباديل

كلكم هِفتو

شيخنا يا شيخنا

انت كان شُفتو

بتجدع الكراس

والفكي تكفتو

******

وهكذا هو الجمال في كل آن وزمان ومكان سواء كان في طبيعة او مدينة أو انسان يخلب اللب ويطيش العقل فربما “تجدع الكراس” أما “ان تكفت الفكي” فهذا ما لا يجوز… وسلامتكم .

 

 

شارك الخبر

Comments are closed.