مكتوبٌ إلى خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد رئيس مجلس الوزراء سمو الأمير محمد بن سلمان

بقلم: حمدي صلاح الدين

شارك الخبر

دفعني عَددٌ مُقدّرٌ من طلابي وطالباتي في الجامعات السودانية إلى رفع مناشدة لخادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد رئيس مجلس الوزراء، سمو الأمير محمد بن سلمان، لتخصيص منح بعدد أكبر للطلاب والطالبات السودانيين في المملكة العربية السعودية، الراغبين في الدراسة بالخارج، بسبب ظروف الحرب في السودان وتوقف الدراسة بالجامعات السودانية لأربعة أشهر دون وضوح رؤية حول زمنٍ مُحدّدٍ لعودة الدراسة.

فأغلب طلابنا وطالباتنا في السودان انقطعت دراستهم الجامعية منذ اندلاع الحرب بالسودان في الخامس عشر من أبريل 2023م.

بعض هؤلاء الطلاب والطالبات على أعتاب التخرج، وبعضهم قاب قوسين أو أدنى، وجلهم عماد مستقبل أسرهم التي ضحت بكل ما تملك من أجل تعليم أبنائها وتنتظر هذه الأسر إكمال أبنائهم وبناتهم المرحلة الجامعية ليعينوهم في مشقة وصعاب الحياة.

قدم دكتور أمجد عثمان عبد اللطيف، عضو هيئة التدريس بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم، ورقة في ندوة “التعليم العالي في السودان: استجابة لواقع الحرب والأزمات”، قال فيها: إنّ في السودان 38 جامعة حكومية و119 مؤسسة تعليم عالي خاصة، مضيفاً أنّ هنالك 650 ألف طالب وطالبة تم قبولهم في الجامعات الحكومية والخاصة، وأكّد دكتور أمجد أنّ 120 مؤسسة تعليمية حكومية وخاصة تأثّرت بالدراسة بسبب الحرب في الخرطوم ودارفور وكردفان، واعتبر أنّ 120 مؤسسة تعليمية تقع في مناطق “غير آمنة”، مضيفاً أن هذه الـ120 مؤسسة تضم 450 ألف طالب وطالبة تقدر نسبتهم بحوالي 67% من إجمالي عدد الطلاب والطالبات، مؤكداً أنّ استمرار الدراسة لهؤلاء الطلاب مستحيلة في ظل هذه الأوضاع.

 

هذه الأرقام الواردة في الورقة التي قدمها دكتور أمجد توضح حجم الكارثة في السودان.

 

نعلم يقيناً، وقوف المملكة العربية السعودية مع السودانيين في هذه الكارثة، فالسعوديون فتحوا “قلوبهم” للسودانيين قبل “بلادهم”، فكان التمديد للعالقين في العمرة، وكانت الزيارات العائلية، وكان اعتماد دعوة المقيم لأقاربه وأصدقائه، إضافةً إلى تسهيل الإجراءات في السفارات السعودية بدول الجوار، فكانت كلها قرارات استثنائية أثلجت صدور السودانيين، وخففت عن أهل السودان من تداعيات هذه الحرب اللعينة وآثارها، علاوةً على ذلك، الدور الكبير الذي لعبته المملكة العربية السعودية في إجلاء والعمل على سلامة البعثات الدبلوماسية العربية والغربية، وكنا حضوراً في بورتسودان وقتها وسفير المملكة، سعادة السفير علي بن حسن جعفر، يشرف على عمليات الإجلاء عبر جسرين “جوي وبحري” من بورتسودان إلى جدة، ذلك إضافةً إلى المعونات الإنسانية والجهد السياسي الدبلوماسي الذي تبذله المملكة عبر منبر جدة.

 

وأنا أكتب مكتوبي هذا، لم أفكر في أنّنا نثقل كاهل “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد”، لأنّ المطالب “الكبيرة” لا تُطلب إلا من “الكبار”، ولأننا في السودان نعلم من “نعزه ويعزنا” كشعب، ومن “نقدره ويقدرنا” كشعب، ولأن جبر عثرات الكرام لا يُطلب إلا من “الأكرم” منهم.

 

اعتبر نفسي رسولاً في محراب “الإنسانية” و”العلم”، أنقل رغبة أبنائي وبناتي الطلاب والطالبات إلى “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد” من خلال مكتوبي هذا.

 

إنّنا كأكاديميين ليس بيدنا شئٌ نفعله وسط هذه الظروف الاستثنائية التي يمر بها طلابنا وطالباتنا، وعدم المقدرة حتى على تنشيط “التعليم عن بُعد” بسبب تردي أوضاع الكهرباء وشبكة الإنترنت في العاصمة وعدد من الولايات.

 

لسنوات طوال، تعوّدت أن أقف أمام طاولة الشرح أقدم الدروس للطلاب، وأوجه بأداء الواجبات، وأتابع الحضور والغياب، اليوم أتحوّل بكل فخر إلى “خادم” لطلاب وطالبات السودان و”مرسال” لهم، أسعى لنقل صوتهم ورغبتهم إلى “جلالة الملك” و”سمو الأمير ولي العهد”.

 

طلابي وطالباتي جعلوني أسلك دروب “اللا مهابة” وشعاب “اللا غضاضة ” في أن أخاطب “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد” بدون حجاب وبلا واسطة، خطاباً مُباشراً من القلب إلى القلب تحمله “ملائكة الإنسانية” و”رسل محاريب العلم والمعرفة”، خطاباً مُباشراً بدون رسول ولا مرسال ولا سفارة ولا وزارة ولا حقيبة دبلوماسية ولا أختام على أوراق.

 

أكتب مكتوبي هذا، وكلي أسى وأسف ومرارة، حيث في بلادي لم يعد للدرس “قاعة”، ولم يعد للواجب “كاتب”، ولم يعد للحضور “قائمة”، ولم يعد لمكتبات الجامعات “زائر”. إنّها لعنة الحرب.

 

إننا كأكاديميين نمتلئ “أسى” و”حُزناً” و”قلة حيلة” على آمال وأحلام الصغار في مستقبل زاهر ومشرق ستدمره الحرب إن هي استطالت.

 

أنظر بأسى وألم كبيرين إلى ماض ليس ببعيدٍ، وطلابي وطالباتي في عدد من الكليات السودانية بالخرطوم يمتلئون حيويةً ونشاطاً وهم يصدرون صحفهم الإلكترونية باللغة الإنجليزية، وآخرون في كليات أخرى بدأوا الإعداد لتمثيل رواية الأديب الإنجليزي وليام شكسبير الشهيرة “تاجر البندقية”، وكيف عملت لجنة النص المكونة من الطلاب على تنزيل النص الإنجليزي من يوتيوب، وكيف تزاحم الطلاب كلٌّ يريد أداء دور آل باتشينو “شيلوك”، وكيف تزاحمت الطالبات كلٌّ منهن تريد أداء دور “باتريشيا”، وكيف كانت لجنة الديكور تعمل على توفير ديكور الرواية من البيئة المحلية، ولجنة الإكسسوار التي كلفتها بالبحث عن “شنب ولحية آل باتشينو” من سوق الشعر في سوق ليبيا غربي أم درمان، قبل أن تُدمِّر آلة الحرب “السوق” وتجرف معها “آمال وأحلام الصغار”.

 

أنا والله جد حزينٌ، ورسائل الطلاب لا تنقطع عن هاتفي، مُتسائلين: “يا دكتور حمدي الحرب ح تقيف متين؟ نحن عايزين نتخرج، عايزين نتخرج ونشتغل نساعد أهلنا.. يا دكتور نحن أهلنا منتظرننا.. الحرب دي كان ما وقفت مصيرنا شنو؟”.

 

وليس “المسؤول” عن موعد انتهاء الحرب في السودان بأعلم من “السائل”، فكلها أسئلة مشروعة لكنها بلا إجابات، أسئلة تدمي قلوبنا وتغرس أنصال المواجع في أكبادنا، لأننا نقف قليلي الحيلة وبلا إجابات أمام أسئلة الصغار.

 

بعض ممن ذوي المقدرة تمكّنوا من نقل أبنائهم وبناتهم بحمد الله وفضله وتوفيقه للدراسة خارج السودان، لكن العدد الأكبر من الأُسر السودانية لا إمكانية لهم لابتعاث أبنائهم وبناتهم إلى الخارج، يجلسون مكتوفي الأيدي في انتظار حلول السماء، وجابري الخواطر في الأرض.

 

إنّ أكثر من 65% من سكان السودان تحت خط الفقر أصلاً، واندلعت الحرب لتزيد مُعاناتهم وآلامهم، فأصبح أغلبهم بلا مأوى ولا رواتب ولا مدخرات تعينهم على مُجابهة دمار آلة الحرب، إنّنا شعبٌ لا يستحق هذا، لكننا راضون بأقدار الله، مسلمون بإرادته، لا نسأله رد القضاء لكن نسأله اللطف فيه.

 

وأنا أكتب مكتوبي هذا لقيادة المملكة العربية السعودية، أعلم عنها سعة الصدر ورحابة الأفق وأصالة المنبت والكرم والجود، وأتمنى ان تنثر قيادة المملكة كنانتها وتختار أصلبها عوداً،

وأمضاها عزماً وأقواها شكيمةً، وتلقي به في مشهد “جبر خواطر الطلاب السودانيين وأسرهم” تدخلاً من “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد” بزيادة المنح الدراسية للطلاب السودانيين بسبب ظروف الحرب، ذلك وفقاً للقوانين والنظم والأعراف المنظمة للمنح الدراسية في المملكة العربية السعودية.

 

تدخلاً من “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد” يزيل الأسى، الحزن وقلة الحيلة ويرسم الابتسامة، يجبر الخواطر ويعيد الأمل إلى من استجاروا بجلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد.

 

تدخلاً من “جلالة الملك وسمو الأمير ولي العهد” يزيل الغمّة، ويدخل الفرح والسرور إلى نفوس آباء وأمهات طلاب السودان، الذين ظللت سحابة الألم والأسى سماوات أبنائهم وبناتهم، فأصبح المستقبل في يد المجهول لا بعزيمة الطلاب وجدهم واجتهادهم.

 

إنّ للأديب الراحل أحمد حسن الزيات مناجاة بعد رحيل ابنه رجاء، الذي أنجبه بعد سنوات طوال، حيث يقول الزيات: “يا قارئي أنت صديقي.. فدعني أرق على يديك هذه العبرات الباقية.. هذا ولدي كما ترى.. رزقته على حال عابسة كالهرم.. وكهولة بائسة كاليأس.. فأشرق في نفسي إشراق الأمل.. وأورق في عودي إيراق الربيع.. وولد في حياتي معاني الجدة والاستمرار والخلود.. ثم انقضت سنون أربع.. فصوحت الواحة.. وأوحش القفر.. وتبدد الحلم.. وتَجهّم الواقع.. وأخفق الطب.. ومات رجاء.. يا إلهي أفي مثل خفقة الوسنان يصمت الروض الغرد؟ أفي مثل تحية العجلان يقبح الوجود الجميل؟ رحماك بي يا ربي يا لطيف”.

 

نعم مات رجاء وخلف حسرة وأسىً في نفس الزيات، لكن الموت في ديننا قناعة واحتساب وتسليم بإرادة الله عز و جل.

 

لكن “الأمرّ من الموت” هو أن يقف “أبٌ” أو تقف “أمٌ” عاجزين عن توفير أبسط مقومات الحياة لأبنائهم، فهذا إحساسٌ أمرّ من طعم العلقم.

 

في ختام مكتوبي هذا، استعير أبيات شاعر شبه الجزيرة العربية، سويد بن أبي كاهل اليشكري، في “عينيته” التي أسماها العرب وقتذاك “اليتيمة”، حيث قال سويد ممجداً أهل الكرم والجود:

 

بُسُطُ الأَيدي إِذا ما سُئِلوا…

نُفُعُ النَائِلِ إِن شَيءٌ نَفَع

 

وَإِذا هَبَّت شِمالاً أَطعَموا…

في قُدورٍ مُشبَعاتٍ لَم تُجَع

 

وَجِفانٍ كالجَوابي مُلِئَت…

مِن سَميناتِ الذُّرى فيها تَرَع

 

لا يخافُ الغَدرَ مَن جاوَرَهُم…

أَبَداً مِنهُم وَلا يَخشى الطَبَع

 

حَسَنو الأَوجُهِ بيضٌ سادةٌ…

وَمَراجيحُ إِذا جَدَّ الفَزَع

 

وَمَساميحُ بِما ضُنَّ بِهِ…

حاسِروا الأَنفُسَ عَن سوءِ الطَمَع

 

صالِحو أَكفائُهُم خُلاّنُهُم…

سَراةُ الأَصلِ وَالنَاسُ شِيَع

 

فَبِهُم يُنكى عَدُوٌّ وَبِهِم…

يُرأَبُ الشَعبُ إِذا الشَعبُ اِنصَدَع

 

كَتَبَ الرَحمنُ وَالحَمدُ لَهُ…

سَعَةَ الأَخلاقِ فيهم وَالضَلَع

 

وَإِباءً للدَنيّاتِ إِذا…

أَعطَيَ المَكثورُ ضَيماً فَكَنَع

 

وَبِناءً للمَعالي إِنَّمَا…

يَرفَعُ اللَهُ وَمَن شاءَ وَضَع

 

نِعَمٌ للَهِ فيهم رَبَّها..

صَنيعُ اللَهِ وَاللَهُ صَنَع

 

ختاماً أقول لـ”جلالة الملك” ولـ”سمو الأمير ولي العهد”، شعب السودان يشكركم ويقدر وقفتكم الصلبة القوية مع السودان في هذه الكارثة التي حلت بنا ونحن كـ”صحافة” دورنا نقل نبض الشعب. الشعب السوداني يقدر حق التقدير ما قمتم به من أجل إنسان السودان في هذه المحنة حفظكم الله ورعاكم.

 

حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين

صحفي سوداني/ أستاذ جامعي

24 أغسطس 2023م

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.