قتلٌ وانتهاكاتٌ على بلاط صاحبة الجلالة.. حرب أبريل وأوجاع الرياضيين

الخرطوم: ناهد الباقر

15 أبريل من العام 2023، يوم لن تسقطه الذاكرة السودانية، بعدما استيقظت البلاد على وقع حرب ضروس اندلعت شرارتها في الخرطوم، قبل توسعها إلى مناطق أخرى في بقاع السودان المختلفة، انسجاماً مع الاقتتال والعمليات العسكرية التي نشبت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة، بعدما وجد الكثير من الصّحفيين الرياضيين وغيرهم من المشتغلين في الأندية والمؤسسات الرياضية أنفسهم أمام مواجهات عسكرية عنيفة شابتها كل انتهاكات حقوق الإنسان، ولم يجد أهل السلطة الرابعة أيّة حصانة تقيهم شر ويلات هذه الحرب التي تتواصل على مدار أشهر.

وتعرّض الرياضيون جرّاء حرب أبريل، للقتل والاعتقال والضرب والتعذيب والنهب والتنكيل، بصورة لم تسلم معها أسرهم ومنازلهم من تداعيات قاسية، خلّفت في أوساط القبيلة الرياضية خسائر فادحة على مستوى الأنفس والممتلكات على نحو اختار معه الناجون من نيران الحرب، النزوح صوب مناطق يتوفّر فيها بعض الأمن فراراً من واقع مرير يزداد ظلامه حلاكاً كلّما ازدادت وتيرة الحرب.

نصف عام

إثر مرور أكثر من نصف العام على اندلاع حرب لم يألفها السودانيون، تعالت أصوات عدد من الصحفيين الرياضيين مطالبةً بإيقاف الحرب، لما أحدثته من دمار وقتلٍ وتشريدٍ، وقناعة منهم كرياضيين أنّ الرياضة يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في نشر ثقافة السلام في العالم، حيث كانت المباريات والبطولات جسراً لإعادة العلاقات بين الدول، وهنا يُمكن استدعاء تجربة السودانيين أنفسهم في إقليم دارفور، عندما فشل منبر الدوحه في تحقيق سلام حقيقي على أرض الواقع سياسياً، كانت كرة القدم هي صانعة السلام اجتماعياً بين الأطراف المُتحاربة وقتها، عندما تمّ تكوين منتخب باسم نازحي دارفور شارك في العديد من الفعاليات داخلياً وخارجياً.

خسائر فادحة

خسائر الرياضيين في هذه الحرب كانت مُؤلمة، وخلْفت من ورائها جروحاً لا تندمل، بدايةً بمقتل عدد من الإداريين والإعلاميين لأسباب مختلفة، ولكن جميع الأسباب تنتهي ختاماً في الحرب، ولم تمنح حرب أبريل مُتّسعاً من الوقت للرياضيين، قبل أن توجعهم بمصائب عظيمة، وفي اليوم الأول منها، وتحديداً في أمسية السبت 15 أبريل، فَقدَ الرمز الهلالي فوزي المرضي، كريمته الطبيبة آلاء، بطلق ناري أصابها أمام ناظريه، قبل أن يلحق الكابتن فوزي بها بعد أسبوعين في 5 مايو قهراً على مقتل ابنته الوحيدة، فيما شملت الخسائر في الأرواح من الرياضيين، الأستاذ أمير حسب الله، مسؤول الإعلام والعلاقات العامة بالاتحاد السوداني لكرة القدم، الذي دافع عن ماله وعرضه وتم قتله بدم بارد داخل منزله، من قبل (الدعامة)، وهناك عصام الحاج، المُصوِّر الصحفي والذي ظل يشغل منصب رئيس نادي المُصوِّرين ورئيس جمعية المُصوِّرين الرياضيين وعضو الاتحاد العربي للصحافة الرياضية والاتحاد الدولي للصحافة الرياضية، الذي دفع حياته ثمناً لشظايا قذيفة مدفعية، حيث رفض عصام الخروج من منزله الواقع بضاحية جبرة وسط الخرطوم، وهو ضمن أحياء راقية بالعاصمة تتوزّع على تخوم منطقة مدرعات الشجرة العسكرية، حيث كانت المعارك تدور وتشتد وتحتدم.

ناجُون من الحرب

في الأثناء، نجد أنّ عديد الناجين من حرب أبريل، عايشوا أوقاتاً عصيبة، وفي مُقدِّمة هؤلاء الناقد الرياضي مامون الطاهر، أحد أفذاذ الإعلاميين في السودان، كونه عمل بهذا الحقل لأكثر من خمسين عاماً، وفي ظل مُعاناته مع مشكلات صحية جمّة، أمضى مأمون، قرابة الأشهر الأربعة، تحت الحصار في منزله بالخرطوم بحري، قبل أن ينقذه أحد تلاميذه، وهو المدرب والمحلل الرياضي الشاب محمد عطا، الذي نجح في عملية إجلائه لمدينة عطبرة شمال البلاد، حيث يتلقى العلاج والرعاية الصحية اللازمة.

هجرة المهنة

الآن ومع استمرار الحرب، يبحث عدد من الصحفيين الرياضيين عن القوت، بعيداً عن مهنتهم الأساسية، بل يبدو من واقع الحال ومآلاته أنهم لن يعودوا إلى بلاط صاحبة الجلالة في الأمد المنظور.. وبعضهم أخذ يتأقلم مع حياته المهنية الجديدة، كما في حكاية محمد فضل الله، الذي قادته تداعيات الحرب وشظف العيش إلى بيع ألواح الثلج، على نحو يدر عليه بعض النقود وإن قلّت، لكنها تقيه شر الحاجة، ويقول محمد في إفادته لنا: “الحرب أثرت بشكلٍ كبير على كل سوداني داخل العاصمة أو خارجها على حد سواء.. ولكن سكان الخرطوم الذين هجروا من بيوتهم قسراً، كان تعاملهم مع إفرازاتها أصعب وأشد تأثيراً.. بالنسبة لي على المستوى الشخصي، فإنّ المحك الأول كان يكمن في إيجاد مأوى في ظل المغالاة في أسعار إيجار العقارات من قِبل الوسطاء وتُجّار الأزمات، بجانب البحث عن مصدر دخل بعد توقُّف الحياة العملية من توظيف حكومي أو خاص.. اخترت المغادرة إلى مدينة ود مدني رفقة أسرتي الممتدة، وبحمد الله بدأت مشروعاً صغيراً وهو تجارة (الثلج)، لأجل الإيفاء ببعض من التزاماتي الأسرية.. أرى نفسي محظوظاً نوعاً ما، وأفضل حالاً مِمَّن تقطّعت بهم السُّبل، ومَن تقرّفت أسرهم بين الولايات ومن الذين يعيشون في المدارس ودُور الإيواء، وهناك من يعاني في صمت أيضاً. فُكلٌّ يعاني بطريقته الخاصة وندفع في فواتير الحرب شأن كل سوداني.. لذا نؤكد وقوفنا ضد دعاة الحرب”.

رُعب الأيّام

بدورها، فإنّ نجلاء الياس، الصّحفيّة التي تعمل باللجنة الأولمبية السودانية، فقصتها مختلفة ولكننا استطعنا أن نختار لها عنواناً لن نجد أنسب من رُعب الأيام.
وتقول نجلاء: “منذ اندلاع الحرب اللعينة، عشت أياماً من الهلع والخوف أنا وابنتي صاحبة الأعوام الثلاثة، وفي كل مرة نسمع أزيز الطائرات ودوّي القذائف، لا نجد أنفسنا إلّا ونحن تحت السراير، متخذين وضع الساتر، وفي بعض الأحيان نضع الوسادات فوق النوافذ للحماية من شظايا القذائف المتطايرة.. كنا نأمل في كل يوم جديد، توقُّف الحرب ولكن دون جدوى، حتى أتت اللحظة، التي شعرت معها أن حياتنا أصبحت مُهدّدة، بصورة لا تجوز معها المغامرة أكثر من ذلك، فكان الرأي بأنّنا لن نستطيع الصمود في الخرطوم أكثر من ذلك، حيث تقطّعت سُبُل الحياة ليس فقط بسبب قصف الطائرات المقاتلة ودوِّي الانفجارات، بل إنّ المعاناة أخذت تزداد مع غياب الخدمات والاحتياحات الضرورية على غرار انقطاع إمدادات المياه والكهرباء، وقتها أيقنت أنّني إن لم أمت بطلق ناري، سوف أموت بالخوف والرُّعب خاصّةً مع انتشار قصص اختطاف واغتصاب النساء والفتيات، وقرّرنا الخروج من الخرطوم رغم ضيق ذات اليد وتعثر ظرفي المادي وراتبي الذي لا يتخطى الـ60 دولاراً لتكون وجهتي ولاية الجزيرة 200 كيلو جنوب شرق الخرطوم
برفقة جُزء من أفراد أسرتي الكبيرة، التي تقسّمت لاحقاً، بعد أن اختار بعضهم وجهة أخرى للنزوح بالولاية الشمالية في رحلة استغرقت ثلاث ليالٍ، أما أنا وابنتي ووالدتي، وبعض من إخوتي اتّجهنا لولاية الجزيرة، رغم أنّ الولاية احتضنت الكثير من أبناء الخرطوم، إلّا أنّنا لم نجد مأوىً، حتى المدارس والجامعات والمعاهد امتلأت ووصل بنا المطاف إلى منزل ابن عمتنا، لكنه كان مُكتظاً بغيرنا من الأُسر النازحة من الحرب، لذا حاولت مراراً وتكراراً أن أجد فرصة سكن في واحدٍ من دُور الإيواء، لكنني لم أجد، وبدأت رحلة النزوح من مكان إلى آخر لحين أن نجد مكاناً يأوينا واسرتي، كما تكرّمت إحدى قريباتي بسكن أمي وإخوتي لحين تحسُّ الحالة الاقتصادية، في ظل هذه الظروف لم نستطع أن نستأجر منزلاً بسبب التكلفة العالية، أتمنى أن تنتهي الحرب ونعود إلى ديارنا لنُعمِّرها من جديد”.

عاملوني بقسوةٍ

لم يكن الصحفي الرياضي نادر شلكاوي، الذي يعمل في إذاعة الشباب والرياضة، مُوقناً بنجاته من الموت عندما تمّ إيقافه في منطقة جبل أولياء جنوبي الخرطوم، وهو القادم من أداء واجب عزاء في أحد معارفه ليقوده حظه العاثر للمرور بإحدى نقاط تفتيش قوات الدعم السريع التي اعتقلته بتهمة الانتماء لجهاز مخابرات الجيش، ليتم اقتياده من قوة مُدجّجة بالسلاح إلى أحد مقارهم المُخصّصة للاعتقال والتحقيق، حيث يقول نادر شلكاوي: “عاملوني بقسوة وتمت مصادرة كل ممتلكاتي الشخصية، أدخلوني إلى ما يُعرف بـ(الكركون) وهو غرفة سيئة التهوية أشبه بالزنزانة، لا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار مربعة، وجدت فيها العديد من الأسرى والمُعتقلين ويبدو من هيئتهم أنهم قد وصلوا إلى المكان قبلي بأيامٍ وتبيّن ذلك من الرهق البادي على وجوههم التي يبدو أنها قد فارقت النوم لوقت طويلٍ.
من حُسن حظي أنّ أحد أقربائي علم باعتقالي، وأخبر أسرتي بما حدث لي، ليتحرّك أصدقائي بعد ذلك عبر حملة إسفيرية بوسائل التواصل الاجتماعي، مطالبين بإطلاق سراحي بوصفي صحفياً ولا علاقة لي بأيِّ جهة عسكرية كما ادّعت القوة المعتقلة، كان تأثير الحملة كبيراً وحقّقت تفاعلاً، يبدو أنّ صداه وضغوطه الإعلامية قد وصلت بطريقة ما لمسؤولي المعتقل لتتحسّن المعاملة، بعدها أصدرت نقابة الصحفيين السودانيين، بياناً تدين فيه ما حدث لي، بيان عجّل بخروجي من المعتقل”.. انتهت إفادة نادر شلكاوي، الذي يقطن الآن في الريف الجنوبي 40 كيلو من جنوب مدينة أم درمان، رفقة أسرته دون عمل، متوجساً من أن يتكرّر اعتقاله مرة أخرى، خاصّةً وأنّه يسكن بالقُرب من مقرّات طرفي النزاع.

مُستقبلٌ مظلمٌ

مُستقبل جيل سوداني كامل من الصحفيين الرياضيين أصبح في مهب الريح بعد أن تخلى معظمهم عن آمالهم وأحلامهم التي أصقلوها بالخبرات والدورات ليتخلّوا عنها دون رغبتهم بسبب الحرب اللعينة، وأصبح بعضهم يعملون في مهن هامشية وآخرون هاجروا خارج السودان لبلاد يسودها الأمن والاستقرار.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.