في رثاء محجوب

كتب: د. عبد العظيم عوض 

عرفت محجوب محمد صالح لأوّل مرّةٍ من خلال كتابه عن تاريخ الصحافة السودانية، وأنا طالب دراسات عليا بجامعة الخرطوم، مبعوثاً من الإذاعة السودانية، لم تتح لجيلي معرفته كصحفي مؤسس لصحيفة (الأيام).. كان مدخلي لمعرفته عن قرب حواراً أجريته معه للإذاعة حول دور الصحافة والصحفيين في معركة استقلال السودان، لفت انتباهي حضوره الذهني الطاغي ومقدرته على السَّـرد بمعلومات دقيقة، فَضْلاً عن موضوعية وحياد وربما شجاعة في الطرح دون أن يُحابي أو يُجامل، فبدّد لديّ نصح زملائي بأن أبتعد عن هذا الحوار مع شخصيات محسوبة على المعارضة لنظام صَادَرَ صحفهم، بعد انتهاء المقابلة التي كانت بمكتبه العتيق المُـواجه لمبنى المديرية بشارع الجامعة، مجلس الوزراء حالياً، ودّعني قائلاً بإشفاقٍ “الكلام دا بذيعو ليك؟” وبالفعل أذيعت تلك الحلقة أكثر من مرة ولعلها ما تزال محفوظة ضمن أرشيف الإذاعة الصوتي.

 

بعد سنواتٍ من هذا اللقاء، أسعدني الحظ بأن كنت ضمن طاقم صحيفة الأيام بعد أن عادت ملكيتها لأصحابها بشير والمحجوبين، هكذا كان يُشار لاسم المُلّاك الثلاثة، كانت تلك على أيام ما سمي بحقبة الديمقراطية الثالثة والتي شهدت فيها الصحافة انتعاشاً وتطوراً ملموساً في مجال الحريات، وكانت المنافسة على أشدها بين عشرات الصحف صدرت آنئذٍ، وكانت (الأيام) في المقدمة كالعهد بها، تولى محجوب محمد صالح رئاسة التحرير، فيما تولى الإدارة بشير محمد سعيد، كان مججوب رحمه الله شديد الحرص على أن تكون الصحيفة مستقلة فعلاً لا قولاً، وأن تبتعد قدر الإمكان عن تجاذبات تلك الفترة وصراعاتها السياسية، وكان لا يُجامل مُطلقاً في مبادئه المهنية، إذ يشرف بنفسه على كل الصفحات خاصّةً الصفحة الأولى، يعود مساءً ليقف على آخر الأخبار، ويطّلع عليها جميعاً، ثم يكتب الافتتاحية معلقاً على أهمها، كان يكتب افتتاحية الصحيفة في أقل من خمس دقائق لا يتوقّف القلم خلالها إلّا عند آخر نقطة.. ثم يحرص أن يكتب المانشيت، وهو العنوان الرئيسي للصحيفة بنفسه في كلماتٍ معدوداتٍ لا تتجاوز الأربع أو الخمس كلمات، ثم يتفرّغ بعد ذلك لعموده أصوات وأصداء، الذي غالباً ما يتضمّن بتوسع وتفصيل موضوع الافتتاحية، ويستعرض فيه رأيه ووجهة نظره الشخصية، باعتبار أنَّ الافتتاحية Editorial تُعبِّر عن رأي الصحيفة، وما كانت الصحف الأخرى تهتم بالافتتاحية كما تفعل (الأيام).

 

بعد انقلاب 30 يونيو، تم تعليق الصحف بما فيها الأيام، واذكر أن تمت دعوتنا لاجتماع مع رئيس التحرير الأستاذ محجوب محمد صالح، الذي قدم شرحاً مفصلاً للمجتمعين بشأن مآلات الوضع السياسي بالبلد، وموقف الصحيفة ومصير العاملين فيها، وقرّر في ذلك الاجتماع أن يتم الاستمرار في دفع مرتبات العاملين بما هو ممكن ومتيسر في خزانة المؤسسة، خاصّةً أنه أبلغنا بأن الأرصدة المالية للصحيفة وكل الصحف تم تجميدها وفقاً لماجاء في قرار تعليق صدورها، ثم أعلن في ذات الاجتماع بروح أبوية أنه على استعداد لمساعدة أي من الزملاء لإلحاقه بأي وظيفة يرغب في الالتحاق بها، وبالفعل أذكر أنه ساعد بعضنا في العمل بإدارات العلاقات العامة بالبنوك ومؤسسات أخرى قدر استطاعته من منطلق علاقاته الشخصية بمديري تلك المؤسسات.

 

تلك كانت بعضاً من ملامح شخصية الراحل الكبير المهنية أستاذنا محجوب محمد صالح، التي عايشتها وعشتها لأكثر من عامين، أحسب أنني ظفرت فيها بما ابتغيت وأردت وأنا حديث عهد بالصحافة المكتوبة، وهو التعلّم والتدريب على أصول وقواعد مهنة بالغة الأهمية لتأثيرها المُباشر على حياة الناس وتشكيل رؤاهم بكل أدوات المعرفة والاستنارة، ولعلّ ذلك كان ديدن الأيام الصحيفة، فلا مال فيها ولا نجومية، فقط أن تنال قلادة شرف الانتماء لعمالقتها وحداة ركبها، ألم أقل لكم إنني كنتُ محظوظاً؟؟

 

برحيل محجوب، تنطوي صفحات خالدات من تاريخ السودان الحديث لا تاريخ الصحافة وحده، وما يُضاعف الحُزن على فراقه أنّـه رحل في منفاه القسري بعيداً عن وطنٍ أفنى زهرة عمره وكل حياته في خدمته، وفاءً للمبادئ التي آمن بها دون عصبية أو تجمّد، وبعيداً عن (بحري) وطنه الآخر وحلة حمد حيث الميلاد والنشأة من والدٍ عاملٍ بسيط في مصلحة الوابورات التي ماتت هي الأخرى، بل قُتلت مع سبق الإصْـرار والترصُّـد. عزائي في محجوب للسودان أولاً وبحري وحلة حمد وفريق الميري وحلة الدناقلة شمال، ولسكان الصافية، ولتلاميذه الكُثر خاصّةً الذين زاملتهم في الأيام دينمو الصحيفة محمد لطيف ومساعدته صباح آدم، ثم لأبنائه نادر وعادل ووائل وإخوانهم، سائلاً المولى عزّ وجل أن يحسن قبوله ويتغمده بواسع رحمته وينزله رفقة الصالحين من عباده في الفردوس الأعلى من الجنة ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

 

* أسوان – مصر

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.