السودان.. مأساة ولاية الجزيرة والنائب العام والانفصام عن واقع الحرب

* نقلاً عن المجلة

كتب: أمجد فريد الطيب

منذ اجتياح ميليشيا قوات الدعم السريع، لولاية الجزيرة التي تقع في ديسمبر 2023، وهي تعيش سلسلة من الانتهاكات الممنهجة التي ترتكب دون رادع على يد الميليشيا. لم تقتصر كلفة المعاناة الإنسانية على تشريد نحو 600 ألف من النازحين الجدد من ولاية الجزيرة إلى مناطق أخرى في السودان والذين كان ثلثاهم (نحو 400 ألف ممن أصابتهم معاناة النزوح مرة جديدة بعد تغريبتهم الأولى من الخرطوم بل أيضا واصلت الميليشيا ارتكاب جرائمها وانتهاكاتها التي شهدناها سابقا في ولايات الخرطوم ودارفور: النهب القسري للبيوت والممتلكات، والانتهاكات واختطاف النساء واغتصابهن، بالإضافة إلى حالات الاستعباد القسري.

 

كما أشارت التقارير الأخيرة الواردة من الجزيرة، إلى سعي الميليشيا لاستخدام أسلحة التجويع والإرهاب والتهديد بالتصفية لإجبار الرجال والشباب والأطفال على الانضمام إلى صفوفها والقتال إلى جانبها. حيث وجد تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” وأذيع بتاريخ 13 مارس 2024، أن 700 رجل و65 طفلا قد تم تجنيدهم قسرا بواسطة “الدعم السريع” على مدى الأشهر الثلاثة الماضية في ولاية الجزيرة وحدها. وهو نمط مشابه لما تم توثيقه من استعباد قسري للنساء والرجال في ولايات دارفور المختلفة، وخصوصا بعد مذبحة المساليت التي ارتكبتها الميليشيا في ولاية غرب دارفور بعد قيامها باغتيال حاكم الولاية الراحل خميس أبكر.

 

انتهاكات “الميليشيا”
ودأبت “لجان المقاومة” في ولاية الجزيرة على توثيق انتهاكات الميليشيا، حتى أصبح ذكر أسماء قرى ريف الجزيرة والحلاوين ونايل والكبر وود البخاري وريفي طابت وأبو آمنة والهيداب وعقدة المغاربة وأب سير والمناقزة وغيرها من قبيل المعتاد في التناول اليومي للشأن السياسي السوداني جراء ما يحدث فيها من انتهاكات امتدت أيضا لتشمل القرى المجاورة لولاية الجزيرة في أرياف ولايات النيل الأبيض وسنار.

 

واعتادت “الدعم السريع” على مدى الأشهر الثلاثة الماضية مهاجمة هذه القرى، ونهب أهاليها ثم إجبارهم على إخلاء منازلهم والنزوح عنها. ووثقت اللجان سقوط أكثر من 400 قتيل جراء هذه الهجمات التي تقوم بها الميليشيا بالإضافة إلى مئات الجرحى.

 

لم ينس السودانيون بعد، أن سقوط ولاية الجزيرة في قبضة “قوات الدعم السريع”، جاء بسبب انسحاب قوات الفرقة الأولى من الجيش السوداني التي كانت تتمركز في عاصمة الولاية مدينة ود مدني. وأصدرت القيادة العامة للجيش السوداني بيانا بتاريخ 19 ديسمبر 2023، بعد ساعات من سقوط ود مدني في يد الميليشيا تقول فيه إنها ستجري تحقيقا في ملابسات انسحاب الفرقة من الولاية “وسيتم رفع نتائج التحقيق فور الانتهاء منها لجهات الاختصاص ومن ثم تمليك الحقائق للرأي العام”، بحسب نص البيان. ومضت حتى الآن قرابة الأربعة أشهر منذ صدور البيان، ولم يخرج شيء للرأي العام حتى الآن حول ملابسات هذا الانسحاب الذي كان تخاذلا معيبا ساهم في صناعة هذه المأساة التي يعيشها مواطنو الجزيرة اليوم.

وبدلا من متابعة إجراءات التحقيق حول حدث انعكس بشكل مباشر على حياة السودانيين ومعاشهم وأمانهم، خرج النائب العام في السودان إلى الناس بقرار تحريك إجراءات قانونية وأوامر قبض في مواجهة قيادات سياسية وناشطين من المنخرطين في جبهة تحالف “تقدم” التي يرأسها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك.

 

وكانت أطراف جبهة “تقدم” قد أبدت على الدوام ومنذ اندلاع الحرب تقاربا سياسيا ملحوظا مع “قوات الدعم السريع”، وصل في بعض الأحيان إلى ترديد خطاب الميليشيا نفسه الذي يبرر الانتهاكات بالإشارة إلى دولة 1956 (عام استقلال السودان). وقامت عناصرها بترديد الخطاب الحماسي الذي يوجهه حميدتي لجنوده. ومن الأمثلة البارزة على ذلك التماهي في الخطاب مع الميليشيا ما حدث أثناء انقطاع الاتصالات في السودان عندما ادعى المتحدث الرسمي باسم الجبهة، بكري الجاك، أن سلاح المهندسين قد وقع في أيدي “الدعم السريع”. وأكد الجاك ادعاءه من خلال إسناد المعلومات إلى “مصادر غربية موثوقة” على حد قوله. ولكن ثبت خطأ هذا التأكيد بعد أيام قليلة عندما اتضح أن الجيش قد استعاد السيطرة على مدينة أم درمان بأكملها، والتي تضم سلاح المهندسين.

 

واستخدام الأجهزة العدلية في التعامل مع الخطاب السياسي مهلكة أدمنت استخدامها الشموليات في السودان مرارا وتكرارا. فقد استخدمتها حكومة البشير المخلوعة على مدى ثلاثين عاما من حكم انقلابها ضد قيادات العمل السياسي والنقابي في البلاد، ولم تنفعها في شيء، واستخدمتها سلطة انقلاب 25 أكتوبر 2021، التي ضمت الفصيلين المتحاربين اليوم (الجيش والميليشيا) ولم تنفعها في شيء أيضا، بل إنها تراجعت عنها وتفاوضت في غضون أشهر قليلة مع الأفراد أنفسهم الذين سجلت ضدهم بلاغات جنائية. وهم الآن يجربونه مرة أخرى، قراءة من الكتاب الشمولي نفسه. أو لعلها بحسب التفسيرات غير الرسمية، محاولات من ناشطين إسلاميين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويتقربون لسلطة الجيش الحاكمة بقوة الأمر الواقع الآن في السودان. ولكن امتهان القانون والأجهزة العدلية بإقحامهم في الصراع السياسي أمر قميء.

 

إن الطرح السياسي أيا كان يرد عليه بطرح مضاد وليس باستغلال الأجهزة العدلية، وهو أمر شاهدنا بؤس نتاجه في السودان. ولو كان الأمر متعلقا بدعم الميليشيا، فقادة الجيش الحاليون أولى بأن يكونوا على رأس القائمة، بعد أن سمحوا لها بالتمدد والتسلح والانتشار حتى أصبحت القوة التي هي عليها الآن. واتهامات تقويض النظام الدستوري أولى بها من قاموا بالانقلاب جهارا في فجر 25 أكتوبر 2021 على الوثيقة الدستورية الحاكمة للبلاد حينها. في ظل سلطة ناقصة تخوض حربا للنزاع على سيادتها (بغض النظر عن مواقف طرفيها)، فإن تصور حلول قائمة على المحاسبات القانونية يمثل انقطاعا تاما عن الواقع.

وتماهي بعض فصائل وأعضاء “تقدم” المسيطرين على اتجاه قرارها مع “قوات الدعم السريع”، تتم محاربته بتعريته وفضحه وهزيمة ومحاصرة منطقه المتهافت واللاهث وراء السلطة، وليس باستخدام الأجهزة العدلية لتصفية الحسابات السياسية. إن استمرار استخدام الأجهزة العدلية لتصفية هذه الحسابات لا يزيد من أخطار عدم الاستقرار السياسي فحسب، بل يؤدي أيضا إلى تآكل الثقة في المؤسسات الحكومية بشكل عام، مما قد يعيق عملها ويشكل خطرا على أي آفاق لاستقرار الدولة على المدى الطويل.

إن العجز عن المواجهة السياسية والإعلامية بشكل جاد ومسؤول لا ينبغي أن يكون مبررا لمثل هذه المهازل التي يتم فيها استعمال أدوات في أمور ليست مصممة لها. الحكومات إلى زوال، أما الدولة فستبقى، لأنها ملك للشعب، فتوقفوا عن العبث بأدواتها.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.