الحج والبازار السِّياسي الرخيص!

كتب: عطاف محمد مختار

رحم الله الحجاج الذين ماتوا في موسم حج هذا العام 1445هـ، إثر تعرُّضهم لضربات الشمس، والاجهاد الحراري، حيث بلغت درجات الحرارة 51.8 درجة مئوية.. نسأله تعالى أن يرفعهم في أعلى عليين؛ مُلبِّين مُهلِّلين مُكبِّرين، بيض من غير ذنب وسوء كيوم ولدتهم أمهاتهم.

أثار موت مئات الحجاج؛ الجدل الكثيف في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لأسباب عدة، أولها؛ طبيعي ومُقدّر؛ وهو هلع أهل الحجاج وخوفهم عليهم، حيث شكّل حالة فزع كبيرة لهم، خصوصاّ أنّ معظم الحجاج المتوفين ليس ضمن الحجاج الرسميين – وفق ما أعلنته عدد من الدول – وعندما انقطع التواصل معهم، إضافةً أنّ أسماءهم ليست ضمن قوائم البعثات الرسمية؛ ما زاد من قلق الأهل؛ خلال رحلة البحث عن الحجاج بين المستشفيات والمشارح – ربط الله على قلوبهم.

ثانياً: الظلاميون والمُرتزقة الذين يصطادون في الماء العكر، وللأسف؛ حوّلوا الحج – أعظم مناسبة إسلامية – الذي تجتمع فيها الملايين من أمة الإسلام، إلى بازار سياسي للتكسب الرخيص، فهذا هو ديدنهم في النفاق، منذ عهد عبد الله بن أبي سلول، يُؤجِّجون نار الفتن من أجل تفرقة الأمة.. والبعض من أجل النَّيل من قيادة المملكة، مثلما يفعل الآن الحوثي وبعض قنوات ومنصات الإخوان، وذبابهم الإلكتروني؛ بكل وقاحة وتسفل – يليق بمقامهم – إذ يقارنون الحج بالمونديال، ويقولون لا وفيات في الأخير؛ بينما الحج يفشل والجثث تتناثر، لأنّ المملكة تراعاه. نسي الإخوان والحوثي وزبانيتهم أو تناسوا، إنّه شتّان ما بين طواف القدوم والسعي بين الصفا والمروة، والنفرة في يوم التروية والوقوف بعرفة والمبيت في مزدلفة والرحول إلى منى ورمي الجمرات في أيام التشريق وطواف الإفاضة والوداع، تحت أشعة الشمس الحارقة لأيّامٍ في مشقةٍ وعناءٍ، ليس كمثلهم شيء، جعلت الخالق العظيم يغفر للعبد فيها كل الذنوب؛ في حالة لا رفث ولا فسوق ولا جدال. يقارنون كل هذا الجهاد؛ بمونديال كرة القدم؛ حيث الراحة والمتعة والترفيه.. مالكم كيف تحكمون..؟!!!

أو كمثل بعض الدول التي تزايد؛ وتريد أن يكون الحج إدارة بينها، عام لهم وعام للمملكة.. وما دروا أنّ هذا الأمر محسومٌ لا ينازع فيه أهل مكة أحد. إنّ الحج في تلك البقاع المُقدّسة كُتب منذ آلاف السنين؛ منذ عهد سيدنا إبراهيم، إذ قال له ربه: (وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ).. وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم؛ مكة أخذ مفتاح الكعبة المشرفة من عثمان بن طلحة، فدخل الكعبة وصلى فيها ركعتين ثم خرج منها وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح. وروى الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم. – يعني حجابة الكعبة”.


والله نشهد أن قيادة المملكة، لم تَأْلُ جَهْداً خلال كل العهود في العناية بالحرمين الشريفين، إذ شهد فقط العقد الأخير أكبر توسعة في التاريخ، بتكلفة 200 مليار ريال، حيث رُفعت الطاقة الاستيعابية للحرم إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين مُصلٍّ، وبدأت مراحل العمل على مضاعفة الطاقة الاستيعابية بصحن الطواف أضعاف طاقته السابقة، فقد بلغت المساحة الإجمالية لجميع التوسعات (750) ألف متر مربع، وذلك لاستيعاب ما لا يقل عن مئة وخمسة آلاف طائف بالساعة.
في وقتٍ، وصل عدد المصلين داخل التوسعة الثالثة بالمسجد الحرام، خلال شهر رمضان المبارك المنصرم، ما يقارب (19) مليون مُصلٍّ. ويجد الحاج والمعتمر، فيه كل سبل الراحة لأداء مناسكه وصلواته بكل يسر وسكينة.

وتاتي رؤية 2030 التي اقرها خادم الحرمين الشريفين؛ ليتيح برنامج خدمة ضيوف الرحمن للقادمين إلى الحرمين الشريفين، مرافق ذات جودة عالية، وبنية تحتية متقدمة، وخدمات رقمية، تساعد الجميع على أن ينعموا بتجربة إيمانية مميزة.

كنت حضوراً، في رمضان 2019، عند إطلاق هذا البرنامج، الذي سيسهم في طفرة متقدمة تخدم الملايين من الحجاج والمعتمرين، عبر تحليل دقيق لجميع نقاط رحلة الضيف منذ أن تبزغ فكرة زيارته للبقاع المقدسة، وحتى عودته إلى بلاده، عبر أحدث وسائل التكنولوجيا والذكاء الصناعي؛ للارتقاء بتجربة ضيف الرحمن من خلال التيسير والتسهيل للملايين لأداء مناسكهم بكل سلاسة وسلامة ويسر.

سنوياً، نسمع خلط الدين بالسياسة الفاجرة، عبر الترصد السافر للحج، فنجد (التوك شو) وهيستريا الكذب والمناحة الإعلامية في وسائل إعلام دول بعينها ومنصاتها الموجهة، التي يطل عليها الساسة وأبواق الضلال، وهم يَنفثون سمومهم. لكن دوماً يجعل الله كيدهم في نحرهم، بياناً بالعمل في الحرمين الشريفين نهضةً وتوسعةً وعمراناً وتسهيلاً وتعظيماً لشعار الله (…وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ).

قبل الحج، حذّرت المملكة، بأنّ الحج غير النظامي يُعرِّض صاحبه لمخاطر عديدة. وأصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية فتوى تحث على الالتزام باستخراج تصريح الحج، وأن التزام قاصدي المشاعر المُقدّسة؛ يتّفق مع المصلحة المطلوبة شرعاً، والشريعة جاءت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وأوضحت أنّـه لا يجوز الذهاب إلى الحج من دُون أخذ تصريح ويأثم فاعله. وقالت: “الأنظمة والتعليمات تهدف إلى ترتيب استقبال الحجاج والعُمّـار والزُّوّار، وتنظيم حركتهم وتنقلاتهم كي يؤدوا مناسكهم بكل يُسرٍ وسكينة وسلامة وأمان، ‏منذ وصولهم إلى الحرمين الشريفين حتى مُغادرتهم، واطلعت هيئة كبار العلماء على ما عرضه مندوبو وزارة الداخلية، ووزارة الحج والعمرة، والهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، من تحديات مخاطر عند عدم الالتزام باستخراج التصريح، إزاء ذلك تُوضِّح الهيئة، أنّ الالتزام باستخراج تصريح الحج مستند إلى ما تُقرِّره الشريعة الإسلامية من التيسير ‏على العباد في القيام بعبادتهم وشعائرهم ورفع الحرج عنهم قال الله تعالى: (يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسر). والإلزام باستخراج تصريح الحج إنما جاء بقصد تنظيم عدد الحجاج بما يمكن هذه الجموع الكبيرة من أداء هذه الشعيرة بسكينة وسلامة وهذا مقصدٌ شرعيٌّ صحيحٌ تُقرِّره أدلة الشريعة وقواعدها”.

كما ذكرت الهيئة، “أنّ الالتزام باستخراج تصريح الحج والتزام قاصدي المشاعر المُقدّسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعاً، والشريعة جاءت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ‏ذلك أنّ الجهات الحكومية المعنية بتنظيم الحج ترسم خطة موسم الحج بجوانبها المتعددة، الأمنية، والصحية، والإيواء والإعاشة، والخدمات الأخرى، وفق الأعداد المُصرّح لها، وكلّما كان عدد الحجاج متوافقاً مع المُصرّح لهم، كان ذلك محققاً لجودة الخدمات التي تُقدّم للحجاج وهذا مقصودٌ شرعاً… فالتزام مريدي الحج بالتصريح يُحقِّق مصالح جَمّة من جودة الخدمات المُقدّمة للحجاج في أمنهم وسلامهم وسكنهم وإعاشتهم، ويدفع مفاسد عظيمة من الافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلاتهم وتفويجهم وتقليل مخاطر الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة”.

كما شدّد وزير الإعلام السعودي، سلمان الدوسري، على ضرورة الالتزام بالحج النظامي لضمان حصول الحاج على حقوقه كاملةً. وقال إنّ الحجاج القادمين بتصاريح رسمية لهم حقوق تضمنها السُّلطات السُّعودية.

ختاماً، نُجَدِّد الدعوات، أن يتغمد الله الحجاج الذين فاضت أرواحهم الطاهرة في الحج، برحمته التي وسعت كل شيء، فهو أرحم الراحمين.. وأن يتقبل من الحجاج أجمعين، كيف لا، وأنس رضي الله عنه، يروي عن رسولنا الكريم بقوله: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف قاعداً، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فذكر حديثاً فيه طول، وفيه: (وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزَبَد البحر، لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له).

نتمنى أن لا ينساق أهل الإعلام وراء حملات التضليل؛ التي تترصد الحج العظيم؛ بهدف النيل السياسي، فتسهموا في التشويش على العامة؛ في هذه النسك والشعائر المُقدّسة، فلا تخلطوا الحق بالباطل، فالحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق كما قال سبحانه: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

(…رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ…)

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.