ورد وريحان القوة الناعمة في السودان

خالد عبد العزيز

الحرب مقتلة للحياة والنماء والإنسان، وينحسر في أتونها منطق التعقل والإبداع، لأنها في الأصل دامية للوجدان، وباعثة للأرق والسأم والإحباط.
وعلى مَـرّ العصور، كانت الحروب تعيد صياغة خارطة الجغرافيا والسياسة والدول والإمبراطوريات، وتسود ما بعدها لغة وثقافة وفنون من ينتصر، فالتاريخ يكتبه المنتصر دوماً.

والانتصار العسكري أو السيطرة لا يعني أحياناً أنّك على الصراط المستقيم، وإنما تعكس التفوق المادي فقط، ولنا أُسوةٌ في معركة كرري وأم دبيكرات عندما تقدّم الغُـزاة بسطوة مدافع الماكسيم وانتكست البسالة رغم تسربلها بالحق واليقين.

ومقاومة الشعوب لتجريف الحروب لهويتها وثقافتها وإرثها ينبع من مدى التجذر التاريخي للثقافة والفنون والتراث في وجدان الشعوب، لأنّ هذه القوة الناعمة من ركائز الأمم الراسخات، إلى جانب الأرض والقوة العسكرية والمادية. لذلك من معاول الصمود في وجه وحشية الحرب هذه، التمسُّك بقيمة الحق في الحياة وبروح الأمة وبفنون وموسيقى وثقافة وشعر وأدب وتراث المجتمعات السودانية في الريف والحضر واحترام تنوعها وتعددها، لأنّ هذه مباعث القوة الناعمة للشعب السوداني.
فسودان اليوم هو نسيج نبتة وكوش وكرمة ومروي وحضارة البجا وسوبا وسلطنة سنار وممالك الكيرا والداجو وجبال النوبة والمسبعات ودولة الإمام المهدي والخليفة عبد الله التعايشي، ومن ثَمّ ثورات التحرُّر الوطني من لدن عبد القادر ود حبوبة والنوير وعلي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وجمعية الاتحاد السوداني ومؤتمر الخريجين والأحزاب المُناهضة للاستعمار. وكل هذه المراحل أنبتت تأثيراتها على الثقافات والتراث في السودان وأوكسجين رئتها احترام وإبراز التنوع، لأنّ البيئة في السودان متعددة من صحارٍ وغابات وسهول وجبال ووديان.

كذلك الثقافة في السودان بستان متنوع الأزهار والأشجار، وكلها في خاتمة المطاف تمثل خميلة الوجدان السوداني الباسقة.. خطابات الكراهية الآنية مبعثها شُح النفس ومحاولات إقصاء الآخر والوصاية والاستعلاء وفي جوهرها عدم احترام التنوع وهو أصل الحياة وقال تعالى: (…وَجَعَلۡنَاكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤئلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَاكُمۡ…).

فيما رسخت الصوفية، المحبّة باعتبارها القيمة الأعلى والهوية الجامعة “الما عندو محبّة ماعندو الحبّة”، ومن ثَمّ كانت عزة في هواك، وفي الفؤاد ترعاه العناية، وما بندور عصبية القبيلة، وسوقني معاك يا حمام، والفني في البرهة القليلة.. وتبلورت أغنية الحقيبة وقد ينتقدها البعض بأنها أم درمانية الهوى ولكنها كانت قطار الحداثة في السودان حينئذ والشعراء والمطربون أتوا من أمكنة شتى وثقافات متنوعة.. وكانت هناك فرقة الفنون الشعبية والسينما الجائلة.
وإن كان هناك قصور لا تخطئه العين في إبراز أغانٍ وثقافات ولغات سودانية أخرى، وهناك حوجة أكبر لسبر غور الثقافات السودانية المتنوعة، لأنّها تعبر عن لوحة الهوية الوطنية المتنوعة الألوان والأشكال.

لعبت الفنون والثقافة دوراً محورياً في مُنافحة كل الطُغاة ومُناهضة الاستعمار، وكان التراث والدين والفنون والاعتداد بالهوية من أسلحة الإلهام لشعب السودان ضد التركية الأولى والثانية.

ودوماً، كانت الرياضة وخاصة كرة القدم دوراً ملهماً في توحيد الوجدان الوطني وترسيخ مفهوم التنوع والتنافس وفقاً للتعدد، وكذلك كانت الطرق الصوفية والمسارح والمدارس القومية والجامعات والمتاحف والمكتبات، ودُور السينما قبل أفولها في مدن السودان المختلفة.
لذا، دوماً يظل الحفاظ على التاريخ والآثار والفنون والتراث والموسيقى والأدب والرياضة والشعر واحترام التنوع والتعدد هو المدخل للهوية السودانية وسند الأمة لحماية نفسها ضد التجريف وويلات الحروب والمنافي والنزوح وحملات الإفقار المادي والثقافي والمعنوي.. فالثقافة والفنون والتراث ليست ترفاً، ولكنها ترياق الشعب المضاد لتفتيت وجدان الأمة وعلو خطاب الكراهية والنزعات الجهوية.. ونحن كنا وسنظل أمة مخضرة الوجدان، يانعة بالتراث والثقافة والفنون، تظللنا حضارات السودان العريقة وتلهمنا نغمات اسماعيل الدقلاش صاحب الربابة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.