في هذه المرة هل خذلت السودان يا محمد سليمان؟

د. عبد الوهاب همت

عقب الفقد الفاجع والحزن المُمِض برحيل المفكر السوداني الخاتم عدلان، كان أن سافر محمد سليمان الى السودان ورافق جثمان رفيقه الخاتم الى مثواه الاخير في قرية أم دكت الجعليين وطوال زمن الرحلة من مطار الخرطوم وحتى تلك القرية الوادعة في الجزيرة نواحي مدينة المناقل ظل محمد سليمان صامتاً لايرغب في التحدث سوى بضع كلمات تخرج منه وهو يستجيب لمكالمات هاتفه المتواصلة.

 

بعد ذلك إلتقينا في لندن ومكثنا في شقة في وسط البلد ، ما أن دخلنا اليها إلا وشرع في التدخين بشراهه وظل في مقعدٍ واحد لساعات طوال، ومن ثم دخل الى غرفة وإستأذن لاخذ قسط من الراحه ، لكنه واصل حتى الصباح، وعندما فِقت مبكراً وجدته قد سبقني ، ولأنني اعرف مزاجيته وأذنه المرهفه وذائقته الفنيه المنتقاة لكل ماهو جميل إخترت عامداً أغنية (ليه بنهرب من مصيرنا) بأداء كورالي مموسق ومتناغم لفرقة عقد الجلاد ، عندها إنفرجت أساريره ودخل الى المطبخ وجاء يحمل في يده فنجاناً من القهوة وكمية من صناديق السجائر .

كانت أُولى كلماته (ماحنهرب من مصيرنا مؤكد لكن الخاتم حملنا مسئوليه كبيرة في وقت حرج ورحل رحيل مُباغت ولازم نرتب أحوالنا كويس ونحن أعداءنا ما الكيزان بس ، وكلهم مستعدين عشان يسحقونا فإما نستسلم أو نستعد للمعارك القادمة بكلما نملك) وصمت لأكثر من ساعتين ورسالته كانت واضحة المعالم وقد قضينا اسبوعاً كاملاً في نقاشات مختلفة ومعقدة، وفي اول اجتماع تم تكليف الدكتور عمر النجيب لتولي قيادة حق بعد غياب الخاتم. وقد محمد سليمان يتابع كل شاردة وواردة الى أن تفرقت بنا السبل ومضى كل منا الى وجهته التي إختارها وظل التواصل الانساني ممتداً.

 

إنتمى محمد سليمان للحزب الشيوعي وقضى فيه أكثر من عشرين عاماً مناضلاً في صفوفه، وبعد ذلك كان من المؤسسين لحركة (حق) والتي ساهم في كتابة العديد من وثائقها الهامة.

 

متلاطمةٌ تأتينا هذه الايام أمواج الاحزان وهي تنوشنا من كل الاتجاهات بفقد الاصدقاء والاحباب والرفاق ، فيهتز الجسد من أعلى الرأس إلى أخمص القدم ويكاد القلب أن ينفجر من شدة الضربات الساحقة التي تسجلها أخبار الوفيات الاصابات ، النزوح واللجوء وفقدان التواصل مع البعض لفترات لازالت مستمرة.

العشرات إرتحلوا دون أن نتلقى أو نرسل العزاء فيهم حتى اخبار وفاتهم نعلم بها أحياناً بعد فترة من الزمان. وكل الذين غادروا دنيانا كانوا ابطالاً وبطلات وفقاً لمقدراتهم وهم يحاربون من أجل الصمود والبقاء في ظل هذه الحرب اللعينه ،حيث وأين شاءوا.

 

محمد سليمان عبدالرحيم من الاشخاص القلائل الذين عرفتهم لايعرف الونى والتسيب والخمول أو كما يقولون بالعامية لايقيف (بين بين). كان مصادماً صامداً حد التهور في كل قضايا الوطن ، يكاد ان يصل الى مرحلة الإشتعال إذ ظل ممسكاً بالشأن الوطني وفقاً لقناعاته يكتب ويناقش ويفاوض ، وهو صاحب سجل عامر بالمقالات التحليلية الرصينه في الادب والسياسة تناول الشأن السوداني بعمق ، ورغم إشتداد المرض وكثرة الإحباطات لكنه لم يلن أو يستسلم.

 

فُجع برحيل عدد من أصدقائه الخلصاء الواحد تلو الاخر وكذلك أشقائه وهو (شيال تقيله) كما يقولون وفي صمتٍ مطبق ، لكن أعنف الضربات التي تلقاها كان عند فقده لفلذة كبده إبنه الاكبر هشام والذي إختطفه الموت الفجائي في كندا ، ومحمد سليمان مابين أحزانه الخاصة والعامه كان لابد للقلب العليل أن ينتكس ومع ذلك ظل مشاركاً بفاعلية في الكثير من قضايا الوطن، ترفقاً به كنا نطلب منه أن يقلل من شراهة التدخين في الوقت ذاته نلاحقه بكتابة المقالات وكان يأتي رده ( إذاً لاتطالبوني بوقف ) فالتدخين كان طاقته الدفاقه للكتابه ، ويبدو أن شُعل عقله كانت تتوهج اكثر واكثر كلما رفع من درجات التدخين ، لكن هل كانت طاقة القلب العليل تتحمل ذلك؟

 

كأن صديقه الشاعر هاشم صديق كتبه عنه ( ياصارم القسمات ياحي الشعور) فهي تنطبق عليه بالكامل. ومع كل الصرامة التي تبدو للذين لم يتعاملوا معه فهو يحمل قلب طفل وديع ممتلئاً بالإنسانية الدفاقه ، تهزه أشياء يراها البعض صغيرة لكنه يقف عندها كثيراً ويبذل في سبيلها مايمكن من وقت ومال ، بل يذهب ويتابع ويطالب من القريبين منه والثقاة أن يفعلوا ويجودوا بالممكن.

 

كان محمد سليمان مُحباً للأدب والفنون وهو قاريء نهم ومثقف عضوي بحق وحقيقة، وهو عاشق للفن والغناء والشعر بأنواعه ومتابع لسير واخبار الشعراء والفنانيين فهو نصير من نصرائهم.

في أوساط خاصته يبتسم ويضحك ويطلق النكات في هدوء وإمتاع ومؤانسه عن قضايا الحياة وتعقيداتها.

كان أن قام بتعريب ورقة الدكتور الباقر العفيف بعنوان (متاهة قوم سود بياقات بيضاء) والتي صدرت في كتيب بعنوان وجوه خلف الحرب في دارفور.

بالأمس الخميس 8 أغسطس وقبيل سويعات من وفاته كنت أتحدث مع صديق الكُل الأستاذ عبدالله محمد عبدالله ودالسجانه عن صحة محمد سليمان وحياته وثوريته الدائمة الممتلئة بالمواقف والمقالات والتحليلات الوضيئة، بالوقائع والمواقع وضياء البصيرة ، وتوقده الذهني الوهاج ، إذ ظل يكتب بشكل شبه منتظم منذ فترة ماقبل الحرب ولديه مقال تستحق التوقف عندها والتأمل كثيراً إذ يتناول لامبدئية تجار سوق نخاسة السياسة السودانية بعنوان (ياحرية وتغيير الا يمكن الوثوق فيكم لمدة 25 ساعة)؟.

كما كتب عدة مقالات عن (غموض مفهوم التغيير الجذري ، والاتفاق الاطاري هو الاتفاق النهائي من سباق التدخل الاجنبي في بلادنا). ومقال آخر هل نحن في حاجة الى حركة وطنية جديدة؟.
وبعد إندلاع الحرب اللعينة كتب هل من بديل عن التفاوض لإيقاف وإنهاء الحرب في بلادنا. والاستراتيجية.. الفريضة الغائبة لدى القوى السياسية السودانية.
عزت الماهري الكتابة بدمٍ بارد.
سلوك طرفي الحرب يجعل التدخل الدولي لحماية المدنيين مسألة وقت ليست إلا.
دور القوى المدنية أثناء الحرب وفي ترتيبات موقفها.
قبل ان تفرض الحلول الدولية فوق رؤوسنا وعلى أجسادنا.
وثلاثة خيارات لا أكثر لمخاطبة الحرب.

المؤلم أن مثل هذه المقالات لاتجد طريقها إلى أعين وعقول أبطال شبكات التلفاز والجالسين في مقدمة قاعات المؤتمرات التي تتناول الشأن السوداني والتي تقلصت وكادت أن تنحصر فقط في أيدي شُلة صغيرة معزولة عن الشعب السوداني إستعارت ألسنته تتحدث بإسمه ، وإن مرت تحت أعينهم فلاوقت لهم للاطلاع عليها ومناقشتها ، لأن أصحاب الحوانيت الصغيرة لاهون في قضايا في حجهم لافي حجم الوطن المحترقز، وحتى إن قرأوا مثل هذه المقالات هل يستوعبونها؟
هذا هو السؤال وتلك هي القضية.

 

مثل مقالات محمد سليمان يجب أن يتم تداولها بكثافة ويتم فتح ابواب النقاشات العميقة والتداول حول لانها تتناول القضايا وتطرح الاسئلة وتناقش الحلول.
عمق ومبدئية محمد سليمان جعلته يسهم مع آخرين في تأسيس (المنصه) والتي إنتمى اليها البعض وسرعان ما قفز منها عندما وجد بديلاً جاهزاً في (تقدم) والتي لا تلوح في الأُفق سوى بوادر تراجعها لان الترضيات والصداقات والشُلليات هي عنوانها المائز وتكتيكاتها لا إستراتيجياتها وتحويلها إلى نادٍ مغلق هو هدفها ومبتغاها ويكفي أن مؤتمر تأسيسها بدأ بلمه وإنتهى بشكله ، وداخله مُنعت قامة باسله أبلت بلاءً حسناً ويشهد لها كل من عمل في السياسة السودانية وفي منازلة (الانقاذ) كالنجلاء بت سيدأحمد من حضور بعض جلساتها بأمر ممن لايعرفون قيمتها ولاقيمها ومقدار تضحياتها.

المقام مقام حُزن والمقال كذلك ولو لا ذلك لتناولت الكثير من القضايا التي وهب راحلنا المقيم حياته لمثلها.
تدله محمد سليمان عبدالرحيم بحب السودان ومافي في ذلك أدنى شك ، واليوم جسده يدفن في قطر ، لكن روحه الوثابه سوف تحلق طائفةً وهائمة ومتبتله ومبتله بذرات ماء السودان وثراه الطيب.
أرقد بسلام يا أبا هشام

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.