ها قد عدنا يا سيادة المشير..!!

 

عبد الباقي الظافر

احتشد الناس في ذاك اليوم الأخير من شهر أغسطس المنصرم.. منهم من جاء لأداء واجب العزاء في زميلنا الصحفي الراحل عثمان بلال.. لكن أغلب الحشد وصل لكافوري من باب مجاملة السيد رئيس الجمهورية المشير البشير.. لم تكن بيني والمشير مودة.. فلم أرافقه في حله أو ترحاله.. حتى المناسبات البروتوكولية كانت تتحاوزني رقاع الدعوة إلا مرة واحدة في أيام شغل الأستاذ حاتم حسن بخيت منصب مدير مكاتب رئيس الجمهورية.. حينما هم المشير البشير بالخروج من سرادق العزاء انتصب القوم وقوفا في صفوف الوداع.. وقفت بجانب الأستاذ الطيب مصطفى عساني أحظى ببركة مصافحة الرئيس.. لكن المشير تخطاني ومد يده للشاب الذي يقف من بعدي مع نظرة تحمل رسالة.
لم أتبين رسالة الرئيس، إلا حينما استدعاني الأستاذ حسين خوجلي في مساء اليوم التالي، ناقلا خبر إيقاف برنامجي (الميدان الشرقي)، الذي كان يبث في قناة أم درمان بناءً على توجيهات سيادية.. في اليوم الذي يليه غاب عمودي من أخيرة (الصيحة).. علمت أن تعليمات جاءت للصحيفة تخيرهم بين المصادرة بعد الطبع أو استمرار قلمي.. قبل أن يحكموا حصاري في شعاب إذاعة جامعة الخرطوم تقدمت باستقالتي للبروفيسور المحترم أحمد سليمان مدير جامعة الخرطوم والذي ترجاني ألا أُغادر .
حزمت أمتعتي في رحلة البحث عن الرزق الحلال.. توقفت في مكة المكرمة.. رفعت يديّ لله رب العالمين أن ينصفني ويُفرّق بيني والقوم الظالمين.. ثم جئت لدوحة العرب في انتظار سانحة عمل.. ستة أشهر أدخل معاينة وأخرج من أخرى.. اشتدّ الضيق وبلغت القلوب الحناجر.. في دار الصديق العزيز الدكتور أسامة العيدروس طرق طارق بعد صلاة الصبح على باب الغرفة ليخبرني أن المشير قد سقط.. نزلت دموعي من غير سابق إنذار.. ربما ظن المشير أن بمقدروه أن يرزق من يشاء أو يُركّع من يريد.
الآن مضى الرجل.. أصبح شيئا من الماضي البغيض.. سنسامح ولكن لن ننسى.. كل السنوات الماضية أثبتت أن قيمة الحرية يجب ألا يعلى عليها.. وأن دولة القانون والمؤسسات يجب أن تكون مبتغى كل السودانيين والسودانيات.. ما كان بمقدور البشير أن يسرق السلطة بليل لو أننا كنّا معا.. هذا ما أثبتته ثورة ديسمبر المجيدة.. حينما يتوحد الناس يتقهقر الطغاة.. حينما تجتمع الكلمة ويتحدد الهدف يصبح النصر مسألة وقت.. مادمنا معا لن يتجرأ أي مغامر أن يسرق أحلام الشعب السوداني في الحرية والحياة الكريمة .
في تقديري أن ما نحتاجه في هذه الأوقات الصعبة هو وحدة الكلمة.. لم يكتمل الانتصار ولم تنجز الثورة.. ستغيب هذه المعاني إن غرقنا في تفاصيل الماضي البغيض.. أو إن تعجلت قوى سياسية في حصد المغانم.. النظام القديم لا يشكل خطرا على ثورتنا الظافرة.. لن يكون بوسع الرئيس المخلوع أن يحكم مرة أخرى ولو قفز من حائط السجن ومضى إلى القصر الأبيض.. المحاسبة قادمة في دولة المؤسسات.. لكن الخطر يكمن في أن يتربص بمسيرتنا مغامر آخر أو كيان سياسي لا يرضى بقسمة الصندوق الانتخابي.
بصراحة.. مخاطر الثورة تكمن في محاولات خطف الانتصار.. أو تسلط فصيل على رقاب السودانيين بحجة أنه يحتكر التعبير عن كل الناس. لن نبدل طاغية بآخر، ولا حزبا شموليا بآخر أكثر شمولية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.