ساحة الاعتصام.. برلمان شعبي

حسام الدين حيدر
طيلة شهرٍ مضى كنت متجولاً في ساحة الاعتصام، مرت بي كثيرٌ من المشاهد، ووقفت على العديد من التفاصيل. كنتُ مندهشاً من اتفاق شعبي وسياسي كهذا، وتوحد الشعب في مكان واحد، مشاهد بطولية إن صح القول كنت شاهداً عليها، نعم لم أكن حاضراً يوم 6 أبريل في العاصمة الخرطوم، حيث كنت حاضراً تظاهرات سلمية في مدينة كسلا، ومتابعاً مع الزملاء الصحفيين والمراسلين لحظةً بلحظة مسار الأحداث في الخرطوم، وصلت في 7 أبريل ساحة الاعتصام، واستمر حضوري اليومي ومشاهدتي إطلاق النار على المعتصمين السلميين، حملات التبرع المختلفة ثم المواكب الداخلة إلى المكان المُمتد على مساحة دائرة نصف قطرها 10 كيلومترات، وشكل الحياة والتنظيم العالي الدقيق الذي بدأ يتشكل داخل محيط الاعتصام والالتزام بالمطالب المعلن عنها.

يُمكن تشبيه ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، بأنها برلمانٌ شعبيٌّ مفتوحٌ للجميع، يتحدَّثون فيه عن كل ما يلي قضاياهم ومشكلاتهم وتصوُّراتِهم المُستقبلية لكيفية إدارة وبناء السودان على أساس القانون والمؤسسات. اللافت فعلياً أن مسألة قبول الآخر والحوار المباشر صارت أمراً حقيقياً غير مُتصوَّر فقط كآمال وأشواق لدى كثيرين من السياسيين والمثقفين السودانيين فيما مضى، والواضح أن الشعب لم تُتَحْ لأفراده فرصة التعرُّف على بعضهم البعض في الهواء الطلق وجهاً لوجه.
ما هو جديرٌ أيضاً بالملاحظة، أن هناك قدراً كبيراً من الانسجام بين المعتصمين السلميِّين، وثمة اتّفاقٌ جمعيٌّ غير مُرتَّب في قراءة كل ما يتم طرحه من آراء خلال المخاطبات السياسية والاجتماعية التي تُقام يومياً في ساحة الاعتصام، وتكوين رأي حوله خاصةً إذا ما تعلق بالمطالب الشعبية. هناك إصرار كبير على تحقيق أربع نقاط حسب استقراء الرأي العام والتوجهات لدى المُعتصمين، وهي محاسبة كل رموز النظام البائد، وحزبه المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، المُتورِّطين في قضايا الفساد وأيضا في قتل المتظاهرين السلميين، وكذلك مسؤولي الأجهزة الأمنية والعسكرية المسؤولة عن قمع التظاهرات السلمية، كذلك إعادة هيكلة مؤسسات الدولة والاتحادات المهنية والعمالية والفئوية وتكوين سلطةٍ مدنية بمستوياتها الثلاثة، هذه هي جملة المطالب الشعبية التي يتأسس عليها الاعتصام.
خارج محيط الاعتصام لا يختلف الأمر كثيراً، فهناك تعليقات ومُتابعة مستمرة الأحداث اليومية وتباينٌ للآراء على أنها تتفق كلياً مع المعتصمين السلميين، عدا أصوات تتحدث عن أن عملية التغيير السياسي ليست بالهينة وتحتاج زمناً أطول.
الاندماج الاجتماعي المُتكوّن على قيمة المواطنة يبدو جلياً في ساحة الاعتصام جميع مكونات السودانيين أعادت تعريف العلاقة فيما بينها بصورةٍ جدية، فلا تمييز على أساس العرق أو الجهة أو المنطقة، ولا تعالي من أي شكل عدا مظاهر متعلقة بطريقة فهم دور المرأة وحقوقها وبعض التصرفات التي لا ترقى لأن تشكل هاجساً كبيرا في المستقبل، لكون عملية التغيير السياسي والاجتماعي تتأسس فعلاً على التراكم وامتداد عملية الإفهام والتوعية بالحقوق المدنية والسياسية.
لكن بصورة ٍ كبيرة، هناك تغيُّر ملحوظٌ في المفاهيم، واختفت مظاهر التدخل في خيارات الآخرين، وفرض وجهات النظر عليهم، لا سيما الاجتماعية والخطاب المتشدد تجاه كل فعلٍ ثقافي واجتماعي. بدأ منطق قبول الاختلاف والتباين يأخذ شكلاً حقيقياً وأكثر جدية.
المطالب ليست سياسية فحسب، ثمة ما هو ملاحظ بأن الحياة الكريمة وتحسين مستوى الخدمات الأساسية والاقتصاد وتوفير فرص العمل أحد المطالب عالية الصوت، كذلك ضرورة قيام مشاريع تنموية واقتصادية، تستوعب الكفاءات الوطنية والشبابية لتحقيق نمو اقتصادي قائم على الشفافية ومحاربة الفساد؛ فكثيرون يتحدثون عن أهمية قيام شراكةٍ بين القطاعين العام والخاص، في بناء الاقتصاد الوطني مستقبلاً، تكون فيه الدولة مُمثلةً في الحكومة صاحبة القسم الأكبر من ناحية وضع القوانين والتشريعات الخاصة بالاستثمار وإدارة الاقتصاد والخدمات، وتولَّى القطاع الخاص باقي العملية وفق نظامٍ اقتصادي مُختلط وتشريع قوانين ضمان اجتماعي وتأمين عادلة تجعل الناس قادرين على مجابهة ظروف الحياة.
في ساحة الاعتصام، ستجد فعاليات ثقافية وفنية وصحية وسياسية، ستجد كلَّ شيء وكُلَّ ما تتخيَّل من مظاهر الحياة، ستتعرَّف إلى جميع فئات المجتمع ستقف على مواقف مدهشة وستسمع آراءً مُختلفة، ومع ذلك لن ترى أيَّ مظهر من مظاهر العنف أو التمييز.
جديرٌ بإلقاء الضوء عليه، تقديس السودانيين للحياة وحبهم لها ورفضهم لإهدار الدم السوداني مهما كان واستماتتهم في الدفاع عن بعضهم البعض، لا سيما فئات عمرية مختلفة من المعتصمين السلميين والمتظاهرين فيما سبق، خاصةً من تقل أعمارهم عن الـ 35. هناك مشاهدات كثيرة عن مواجهتهم الموت حقيقةً والوقوف أمام الرصاص والهراوات طلباً لواقع أفضل هم الآن يصنعونه.
تقديس السودانيين للحياة لا يعني الخوف من الموت، بل إن آلة الموت التي ظلَّت تحصد الأرواح منذ سنواتٍ طويلة كان يجب أن تتوقف هنا، وكان القرار الشعبي بإسقاط نظام البشير وحزبه المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية. وقيمة الحياة يمكن التعرف عليها جلياً في ساحة الاعتصام من حيث التنوع الثقافي والاجتماعي واتفاق الجميع في ما يمكن وصفه ببرلمان شعبي حقيقي، على بناء سودانٍ جديد قاعدته دولة القانون والمؤسسات، وأعمدته المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، وهياكله سلطةٌ مدنية بمستوياتها الثلاثة، وأساسه احترام التنوع وعدم التمييز وأشكاله، والعدالة في التنمية ومشاريعها، والبحث عن الحلول السياسية للشأن الوطني من الداخل وليس الخارج.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.