نجوم لا تأفلوداعا عزمي أحمد خليل.. ريحانة الزمن الجميل

(1)
سفير الشعراء السودانيين بالمهجر، ومن أكثر المبدعين، الذين إذا تغربوا لفترات زمنية طويلة، كبرت وزادت عندهم أمشاج التلاقح الحسي والوجداني بدواخلهم؛ فهو من ذوي الإرهاف الحسي الذين إذا سافروا سافرت معهم الكلمة وعبق الجروف وطين الأرض وطيف المحبوب؛ فكلما طالت المسافات لديهم كانت بمثابة قرنَي استشعار حسية ومعنوية تتحسس وتتصل بنبض الحنين الدفين الخافق بنبضات الأرض والتراب والوطن، لذا كانت أشعاره وكلماته التي تأتي من الغربة وما هي إلا شريان تواصل حميم يربطه بشعبه وترابه.
(2)
وُلد عزمي أحمد خليل في وادي حلفا ولظروفه الأسرية تنقل كثيرا في ربوع السودان المختلفة، فعاش بواكير صباه ببورتسودان وتنقّل بين كسلا وأروما وجبيت ودرس المرحلة الأولية والوسطى في أروما والثانوية ببورتسودان، حتى وصل إلى جامعة القاهرة فرع الخرطوم ودرس فيها الفلسفة والمنطق وعلم النفس. وفي مستهل حياته العملية اشتغل شاعرنا بالتدريس كأنما كان يريد أن يدفع ضريبة الوطن من غير أن يؤمر بها حيث عمل مدرسا بمحلية كسلا، ثم عُين ضابطا بالخطوط الجوية السودانية بمطار الخرطوم، وكانت له إسهامات نقدية وأدبية في الصحافة السودانية، وفيما بعد تفرغ للصحافة ليعمل في جريدتَي (الخليج) و(الوحدة) بدولة الإمارات في بواكير ثمانينيات القرن الماضي، ولم يقف طموحه عند ذلك فحسب، بل تدرج إلى أن عمل كبير المشرفين الاجتماعيين بجامعة الملك سعود بالرياض، وكان سكرتير رابطة الشعراء السودانيين بالمهجر.
(3)
كتب عزمي الشعر في بواكير صباه بالمدرسة الأولية، وقد كان نهما وشغوفا بالمعرفة والاطلاع، وحكى أنه ذات مرة لاحظ والده عليه بعض التعب والإعياء والنحول فزاره في المدرسة حتى يتفقد كيفية ونوعية غذائه الذي يتناوله وفوجئ الوالد أن ابنه قد وظف جل مصروفه اليومي في مكتبه ثقافية بكسلا لقراءة الكتب والمجلات والدواوين الشعرية ويترك فقط القليل لمصروفه اليومي. الناظر إلى شعر عزمي يلمح فيه النظرة الصوفية الإيمانية المؤمنة بقضاء الله تعالى وقدره، فانظر إليه عندما جاءه خبر وفاة الفنان نادر خضر فقد تجلت صوفيته عندما قال:
الله هو القادر براهو.. ناس يجيبها وناس يشيلها
وناس يوالف بين قلوبها.. وناس يخلي الموت يجبيها
ونحنا بس بنطيع أوامرو .. الكتيره أو القليلة
فلفظ الجلالة المتبوع بيقين صادق لا ينفك كثيرا من أشعار عزمي وانشد في أغنية (أسبوع تمام) وقال:
انا اسأل النخل البهاتي إقبِّل وجيهو ومني مال
أنا أسأل الله يجيبني ليك أخجل كتير من السؤال
كما أنشد في قصيدة طويلة يرثي فيها رفيق دربه وبداياته الفنان هاشم ميرغني وفيها قال:
رغم العبرة والغصة ومكان هاشم
قبلنا قدرنا قلنا الموت مصير حاسم
(4)
لعزمي أسماء كثيرة أطلقها عليه محبوه ومعجبوه منها امبراطور العشاق وذلك للمد العاطفي الحزين في كلماته وأشعاره فقد شكل عزمي وجدان جيل الثمانينيات العاطفي بمزيج من الوجد والشجن والحنين خاصة عندما يتغنى له هاشم ميرغني الذي شكل معه ثنائية رائعة فتجلت المفردة العاطفية في (حان الزفاف) و(عشان أهلك بخليكي) (وهسه خايف من فراقك) و(البقت ناسيانا)…إلخ، وذلك لأن شعر عزمي كان يتسم بالبساطة الممزوجة بطيبة أهل الريف والقرى، أضف إلى ذلك بساطة المفردة ورقتها فكلما كانت الكلمة بسيطة عند عزمي كلما ارتفعت أبعادها الحسية والبلاغية، فانظر إلى البساطة اللغوية والبلاغة عندما يقول:
(حني مرة وعايني ليا وعودي ختي اللوم عليا
وسامحي لو عيني تاهت في خدار لونك شوية).. وكلمة (خدار) هي كلمة موغلة في العامية السودانية إلا أنها في شعر عزمي تجدها تأخذ موضعا تعبيريا جذابا. كما يتميز شعر عزمي بالانفعال الهادئ والحكمة وقوة التعبير حتى أصبح الخطباء والمتحدثين يزينون كلماتهم وتعابيرهم بكلمات عزمي مثل (كل ما نشتل الأفراح تجي الأقدار تمد إيده)، وكثير من أشعاره كانت آنذاك تكتب على واجهات الحافلات و(البرينسات) واللواري مثل (أسبوع تمام) و(هسي خايف من فراقك لم يحصل ببقى كيف) (عشان اهلك بخليكي) (حان الزفاف) وللمداعبة لم كان سلامه باردا (دا ما سلامك).. إلخ.
(5)
غنى لعزمي العديد والكثير من الفنانين السودانيين، والمفردة عند عزمي هي مفردة متطورة ومتجددة بحسب تطور الحقب والأجيال والأذاوق، وإلا لما كان غنى له العطبرواي وجيله إلى جيل محمود عبد العزيز ورفاقه الذي صدح بأروع كلماته عندما غني له (طروني ليك). وما يميز عزمي كثيرا من بقية الشعراء مقدرته العالية على مزج العامية بالفصحى دون أن تلحظهما، ودون أن تؤثر إحداهما أو تطغى على الأخرى، فانظر عندما غنى رائعته الفنان الكبير أبوعبيدة حسن (نحن مارضيناها ليك تغمر الدمعات عينيك)، والتي يقول في أحد أبياتها (انتي تبري من الألم والألم ما لينا نحن.. ما هو باين في عيونا مهما جينا ولا رحنا).
فكلمة (تبري) هي كلمة عامية لأبعد الحدود، وقد لا يستخدمها شعب غير السودانيين، إلا أنه في شطر البيت قال: (ما هو باين في عيونا مهما جينا ولا رحنا)، هنا استخدم كلمة (باين) وهي عربية فصحى نزلت في تناغم وتجانس كبيرين مع كلمة (تبري) مع أن بعض النقاد قالوا إن عزمي لو لم يكتب سوى (انتي تبرى من الألم) لكفته، وإذا تأملنا عزمي مليا نجده أيضا متميزا في السهل الممتنع، ويتفرد بنوع آخر من الشعر يمكن أن نسميه الشعر الحواري، فهو يخاطب المحبوب ويحاوره بلباقة وذكاء يندر أن يوجدا في الشعر الحديث، وهو يقول:
)ما اتعودته أخاف من قبلك إلا معاك حسيت بالخوف
أعمل ايه ما القسمه اختارت وكل الناس حاكماها ظروف
عارف وين خطواتك ماشه وأخرى معاك هو الما معروف
أضف إلى ذلك ابتهالات عزمي ودعاءه للعاشقين في شعره وكأنه يرفع أكف التوسل والضراعة للمولى عز وجل ويتوسل لله على ألا يفرق الأحباب ويقول: (أصلو البعيش في الدنيا ياما تشوفو.. تشقيهو بي حسرة عزيز في بالحسرة ريقو تنشفو.. إن شاء الله ما يحصل فراق لقلوب بعد اتولفوا).
(6)
ولنؤكد أن عزمي أحمد خليل كلما طالت غربته عن أوطانه كلما تعمقت جذوره في أرض الوطن كأبعد ما تكون المسافة من الدولة التي سافر إليها وهو أنه عندما حضر عيد رأس السنة في إحدى الدول الأوروبية تذكر أهله ووطنه وعشيرته فقال: (تسألني كيف راس السنه.. وأنا بي هنا مليان شقا وشرقان ضنا.. يا بختك انت هناك سعيد متهني بالعام الجديد.. كلك فرح ودايب غنا.. وتسألني كيف راس السنه) إلى أن يقول (حليل بلدنا ويا حليل كل الجميلات والفرح.. وبلدنا بي رغم الظروف القاسيه والهم الطفح.. ما فيش بلادا تشبها.. ولا غير سماها كنار صدح.. كل حاجه ليها طعم هناك حتى الحزن زي المرح..)، وعن الحس الوطني لعزمي فإنه ثائر وغيور على تراب بلده وقد تجلى ذلك في كلماته عندما أعدم نظام الإنقاذ البائد الـ 28 ضابطا في رمضان فكتب عزمي وتنبأ بسقوط ذلك النظام قبل أكثر من ربع قرن وقال: (بكره بِتعيد مصيرك بِي رجوع الحق وناسو
الظلام لابُد يزول والنهار يكشف لِباسو
والقيم ترجع جميله وكُلُ عَزك لِي أساسو
شعبي يا الغالي وحِنين وين يِفوتو الليكا داسو).
إلا أنه غضب غضبا شديدا عندما عرف أن شاعر الشعب محجوب شريف مرض وهو بصدد السفر والعلاج في ظل إهمال الدولة له فقال:
(صحيح والله الزمن مقلوب.. وسيد الحق يعيش مسلوب.. حتى الفجر بيبقى غروب.. ويسافر للعلاج محجوب!).
غنى لعزمي عدد كبير من الشعراء من أجيال مختلفة.. مثل العاقب محمد حسن – العطبراوي – عثمان مصطفى –هاشم ميرغني- حمد الريح –عبد العزيز المبارك –خوجلي عثمان- يوسف الموصلي-محمود علي الحاج –الهادي حامد- ابوعبيدة حسن- عبد الله البعيو-سيف الجامعة – مجذوب أونسة –محمد سلام- الرشيد كسلا- بشير عبد العال. نعى الناعي أمس الأول وفاة شاعرنا الجميل بالولايات المتحدة الأمريكية بعد حياة مليئة بالجهد والبذل والعطاء فتحقق خوف جماهيره اللذين رددوا معه: (هسه خايف من فراقك لم يحصل ببقى كيف؟). له الرحمه ولآله وذويه الصبر والسلوان.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.