ناجي أحمد الصديق الهادي

الوضع الإنساني في ليبيا بين يدي محكمة الجنايات الدولية

شارك الخبر

منذ سُقُوط الرئيس الليبي معمر القذاقي لم تهنأ ليبيا بيومٍ واحدٍ في حياتها، ولم ينعم الليبيون بساعة واحدة من الراحة وكأنّما لعنة قتل الرئيس معمر القذافي على رؤوس الأشهاد قد حلت بهم، حتى أصبحت ليبيا بعد ثمانية أعوام حسوما ترزح تحت زخّات الرصاص وأصوات الدبابات والعربات المُجنزرة التي باتت تجوب طول البلاد وعرضها باحثةً عن أرواح الليبيين لتأخذها ضمن مشروع تصفية الدولة وإرسال أهلها جميعاً إلى جحيم الموت.
ما كان المجتمع الدولي أن يغض الطرف عن الجرائم المُروّعة التي يتم ارتكابها دُون رحمةٍ من كل الفرق المُتقاتلة داخل ليبيا، ولعله من دواعي التفاؤل أن تتوارى تشابُك المصالح وتوازيها بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ويصل المجلس سريعاً إلى قرار مفصلي في حياة الليبيين وهو إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية تحت المادة 13/ 2 من ميثاق روما المنشئ لها، وبذلك أصبحت ليبيا هي الدولة الثانية بعد السودان التي تدخل في اختصاص المحكمة بالرغم من أنها ليست عُضواً فيها.
بحلول يوم 26 فبراير 2011م أصبحت الأوضاع المُتعلِّقة بانتهاك القانون الدولي الإنساني في ليبيا داخلاً في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، تحقيقاً ومحاكمة، وذلك تنفيذاً للقرار رقم 1970/ 2011م الصادر من مجلس الأمن الدولي بمُوجب سلطاته تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والقاضي بإحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية بمُوجب المادة 13/ ب من ميثاق روما، ثُمّ أعقبه بالقرار رقم 2095/ 2011م والذي ألزم فيه الدولة الليبية بالتعاون مع المحكمة.
كان من المؤمل أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية فور اتّخاذ قرار الحالة بترتيب أوضاعها سريعاً لإجراء التحقيقات اللازمة بواسطة مكتب المدعي العام بحسب ما نصّت عليه المادة 52 من النظام الأساسي للمحكمة وفق المعلومات المُتاحة لديه، وبما أنّ الوضع في ليبيا ظَلّ في تدهورٍ كبيرٍ من جهة انتهاك القانون الدولي الإنساني، فإن المعلومات التي تُمكِّن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لا شكّ أنها مُتوفِّرة ومُتداولة مِمّا يُمكِّن المُحَقِّقين من الوُصُولٍ إلى رصد انتهاكات القانون الدولي الإنساني وإلى من قاموا بتلك الانتهاكات، ومَع ذلك فقد قامت محكمة الجنايات الدولية بإصدار ثلاث مُذكِّرات توقيف ضد كُلٍّ من الرئيس معمر القذافي وابنه سيف الإسلام ومدير مخابراته عبد الله، ولكن أيٌّ من تلك المُذكّرات لم يتم تنفيذه حتى الآن وذلك بسبب وفاة معمر القذافي من جهة، وللطعن الذي تَقَدّمَ به محامي سيف الإسلام ضد قرار المحكمة والمُتعلِّق بالمقبولية.
الذي اتّخذته المحكمة بسبب أنّ القضاء الوطني الليبي قادرٌ وراغبٌ في محاكمة سيف الإسلام داخل ليبيا.
من أهم أهداف المَحكمة الجنائية الدولية هي مُلاحقة مُرتكبي انتهاكات القَانون الدولي الإنساني وتقديمهم إلى مُحاكمةٍ عادلةٍ وذلك لتحقيق دواعي الرَّدع العَام والرَّدع الخَاص للعُقُوبة، والرَّدع العَام كَمَا هُو مَعلومٌ يتعلّق بتوقُّف كل من يهم القيام بانتهاكات القانون الدولي الإنساني عن أفعاله لمعرفته بما حل على من سبقوه إلى تلك الأفعال من عُقُوبةٍ، وعليه فإن تباطؤ المحكمة الجنائية الدولية في الشروع بإجراء التّحقيقات اللازمة من شأنه أن يُقوِّض الهدف الحقيقي من إجراء تلك التحقيقات.
النموذج الليبي هو من أفضل النماذج التي توفّرت للمحاكم الجنائية الدولية على مَرّ تاريخها الطويل، فها هي الانتهاكات المُوثّقة من جانب كثير من المنظمات الحقوقية لا تزال طازجة، وها هي الشخوص التي قامت بتلك الانتهاكات لا تزال يدها على الزناد تحصد به المزيد من الأرواح، وهؤلاء هم من يستطيعون القيام بإجراءات التحقيق فوق التراب الليبي مُمثلاً في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التي تَــمّ إنشاؤها بالقرار رقم 20144 الصادر من مجلس الأمن فى 13 مارس 2011م، ولم يبق بعد ذلك إلا ان تقوم المحكمة الجنائية الدولية بالتحرُّك مُباشرةً للتّحقيق في انتهاكات القَانون الدولي وفق نُصُوص نظام رُومَـا الأساسي وتفعيل آلياتها لمُباشرة التّحقيق، ومن بعده المحاكم حتى يعلم أولئك الذين شَاهدناهم بأم أعيننا وهو يقوم بعمليات الإعدام على بصر العالم كله أنّ يد العدالة أقرب إليهم مِمّا كانوا يتوقّعون.
تنص المادة الخامسة من نظام رُومـا الأساسي على اختصاص المحكمة الجنائية الدُّوليَّة بجرائم الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وليبيا في مرحلة ما بعد الثورة في 2011م تعج بأعداد هائلة من كل نوعٍ من أنواع الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وبخاصة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، فقد انتشرت بصورةٍ لافتةٍ مناظر العسكريين الذين يُقيِّدون ضحاياهم ثُمّ يرمونهم بالرصاص كإعدام خارج دائرة القضاء، وأصبحت منظر الطائرات التي تدك منازل المدنيين والمُستشفيات ودُور العبادة مألوفة في خضم صراع دامٍ على السُّلطة.
لا يبدو أنّ المُجتمع الدولي في عجلةٍ من أمره لتقديم مُنتهكي القانون الدولى الإنسَـاني في ليبيا إلى المُحاكمة، فصراعات القُوى الدُّوليّة حول العالم هي التي تُحَدِّد  موقف مُجرمي الحرب، وتَوازُن قواهم هو الذي يُوجِّه مُعاناة الضحايا في النزاعات المسلحة في ليبيا واليمن وسوريا وفي بقية أنحاء العالم المُلتهبة، وهذه هي الدول الكُبرى والصُّغرى تُناشد الأطراف المُتصارعة في ليبيا ولا يسمع أحدٌ، وها هي المُنَظّمَات الحُقُوقيّة تنشر على الملأ جرائم أطراف الصِّراع الليبي، ولا يتحرّك أحدٌ، وهَا هِي الحَرب في طرابلُس تُهدِّد حياة المدنيين والمُهاجرين واللاجئين ولا يفعل العالم إلا الشجب في العلن ومُساندة مصالحه وأهوائه في الخفاء، وها هم المدنيون في ليبيا بدأوا وفي رحلات النزوح واللجوء تماماً كما بدأها السوريون من قبلهم حتى ضَاقَت عليهم الأرض بما رَحُــبت.
الأمل مَعقودٌ على تحرُّك المحكمة الجنائية الدولية في لجم أمراء الحرب بليبيا من الاستثمار في دماء الشعب الليبي والصعود على ظهره الكسِّير لتسنُّم مقاليد الحكم فيها.. ولا يبدو أنّ الجُهُود السِّياسيَّة قادرة على حلحلة المشكل الليبي الكبير لتَضَارُب المَصَالِح الدوليّة والإقليميّة حول توجيه مُستقبل الحكم، كما أنّه لن تفلح الحرب في استقرار الأوضاع، فليس أسهل على الفرق المُتقاتلة من استجلاب السِّلاح ليفتي أكبر عددٍ من الليبيين وليس أسهل على دول الإقليم ذات المَصَالح المُتوازية في ليبيا من ضخ المزيد من الأموال والسِّـلاح، لأنّ كل طرف يُريد حَسم الأمر لصَالِحِهِ، وفي أتون ذلك الصراع العنيف، فإنّه ليس للمُجتمع الدولي غير الدفع نحو تفعيل آليات العدالة الدولية في سُرعة الحسـم، بَـدءاً مـن أصغـر الجُنُود، وانتهـاءً بقادة الحرب الأصليين وأمرائها الحقيقيين لكيلا لا يرى العالم نمُوذجاً ليبياً ثانياً، كما رأى بأم أعينه ما نتج عن النموذج السُّـوري الأوّل.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.