تجمُّع الفنانين المهنيين السودانيين

الخرطوم: سعيد عباس

ثمة فوارق كثيرة وكبيرة تلُوح عياناً بياناً عن كُنه الفن، عما إذا كان هواية أم احترافاً، إلا أنّ السودان يُعتبر حالة استثنائية وكونية نادرة التكرار والحُدُوث إذا ما دَارَ محور السُّؤال عن إذا كان أهل الفن المحترفون هم أصحاب البصمة الأوضح أم الفنانون الهواة، هنا ينقلب الحال تماماً عَمّا يدور في أنحاء المشهد الفني خارج البلاد، إذ أنّ المُحترفين المُتفرِّغين للفن يكونوا أصحاب بصمة أكثر وُضُوحاً وبياناً على عكس السُّودان، وإن الهواة هم من وضعوا حقيبة الفن والغناء الحديث وكل الأُسس المُوسيقيّة التي أضحت بمثابة أساس فن قويم لعددٍ كبيرٍ من الفنانين والموسيقيين.

يجئ في مقدمة فناني الغناء الحديث الفنان الراحل ابراهيم الكاشف الذي قدم أرقى وأعذب الألحان السودانية، التي شكّلت وجدان الشعب السوداني لأزمانٍ طويلة حتى أصبح عدد كبير من أعماله يُدرس في كلية الموسيقى والدراما، ولم يكن الكاشف فناناً مُتفرِّغاً للفن بصورة صرفة، حيث إنه كان نجّاراً يقضي جُل وقته في ورشته مع زبائنه ومُرتاديه.
أمّا عزيز دنياي والفنان الذري إبراهيم عوض الفنان القامة، كان حدّاداً ويُمارس الفن كهواية في أوقات فراغه، إلا أنه أصبح أحد أعمدة الفن السوداني الحديث.
والفنان الجميل الذي أطلق على نفسه لقب الهاوي، إلا أنّ أعماله تظهر احترافية وألقاً في غاية الروعة والجمال، وقال عنه الموسيقيون، إنّه كان أساس النقلة المُوسيقية الحديثة بالسُّودان، وهو حسن سليمان الهاوي صاحب (محبوبي لاقاني) و(ما شيقتك) و(عذبة) …إلخ.
وعن المهنيين الترزية، نقف في محطة العملاق والمهني عثمان حسين، كان يُفصِّل اللحن تفصيلاً على مقاس إحساس كل المُتابعين كما يُفصِّل القماش (عشقتك وقالوا لي عشقك حرام).
أما المهني الفنان الكبير عبد العزيز محمد داؤود كان يعمل (مُحوِّلجياً) في هيئة السكة حديد السودانية، ورغم الفيض الدافق من الروائع والدُّرر (أريج نسمات الشمال)، (عربدت بي هاجسات الشوق)، (زهرة الروض الظليل) و(أوتذكرين صغريتي) …إلخ، بعد كل هذ الألق والجمال لم يكن مُتفرِّغاً للفن، حيث كان يُمارسه فقط في أوقات فراغه ويقوم بمهنته الأساسية تجاه وطنه وبلاده بالسكة حديد.
 والأساتذة والمدرِّسون “مشكِّرين ومقدِّرين” على رأسهم الفنان الظاهرة محمد وردي وكروان كردفان الدكتور عبد القادر سالم والفنان الجميل محمد ميرغني جميعم عزفوا بدايةً على (الطبشورة)، فساهموا في رفع الوعي الأكاديمي والتعليمي قبل أن يُساهموا في رفع الوعي الثقافي والفني.
وصاحب المقطوعات النادرة والقوس الذهبي وأسطُورة الكمان في زمانه، المُوسيقار الراحل محمدية، كان بناءً يبني البلاد والمُدن قبل أن يبني الألحان ويشنِّف الآذان.
ويا ساعي البريد حملتك خطابي، فقد كان الفنان الكبير صلاح مصطفى مُوظّفاً بمصلحة البريد والبرق، وغنى أروع أعماله وكلماته إبان عمله بالبريد والبرق (صدقت العيون لما بقيت أسيرة)، (آخر عهدي بيهو يوم ودّعني سافر ياما بكيت عليهو)، (مَشِّي أمرك يا قدر)، (أكتب لي غالي الحروف)، (من الأعماق يا حبيبي يا غالي) …إلخ.. هؤلاء غيض من فيض لعددٍ كبيرٍ من المهنيين الفنانين السودانيين الناظر هنا يلحظ أنّ المهنة وكأنّها تعطي دفعة إيجابية كبيرة لموهبة الفنان، ولكن الغَالبية العُظمى من فنّاني هذا الزمن مُتفرِّغون تَمَاماً للفن باعتباره (أكل عيش)، ولكن هذا التّفرُّغ التّام الذي لم تُزاحمه أيّة مهنة أخرى لم ينتج أعمالاً كهجرة عصافير الخريف أو كيف لا أعشق جمالك ويا حبيبي ظمأت روحي وحَنّت للتلاقي.. فهل ندعوهم إلى أن يكونوا مهنيين ومُحترفين بأعمال أخرى، وهواة في مجال الغناء، حتى يرفدوا الساحة بروائع تضاهي روائع أساتذتهم وكبارهم..؟!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.