جمال محمد إبراهيم

الاتحاد الإفريقي: كنداكة ظلمها المجلس العسكري. .

شارك الخبر

السفيرة نادية عزّزت الدور العظيم الذي لعبته المرأة في إشعال فتيل الثورة، وقد شهدنا في معمعة الثورة، شابة سودانية ألهبت مشاعر الثوار، وصارت أيقونة للثورة، التفت إليها العالم بأجمعه
إن من الدروس التي ينبغي استيعابها من قبل سفراء ودبلوماسيي وزارة خارجيتنا، هي أن التمكين” الذي أعلى من الولاء محل الكفاءة، قد أحدث خراباً في أداء الدبلوماسية
ترى هل يقدّر من أقدم على مجزرة ساحة الاعتصام، قبل وقفة عيد الفطر، فأهدر ما أهدر من دم الشهداء، أن تلك الفعلة الشنعاء ألحقت باسم السودان إساءة بالغة
إن السفيرة التي شمخ اسمها في إثيوبيا وفي أروقة الاتحاد الإفريقي، لن تكون مشجباً يعلق فيه من أخطأ، تبعات أوزاره وخيباته

(1)
منذ ولادته التعيسة في 30 يونيو من عام 1989، أبدى نظام الإنقاذ البائد نظرة متحاملة على وزارة الدبلوماسية السودانية، والتحامل صفة قد لا يقبلها الذين أحيلوا إلى التقاعد القسري، دون شبهة مقنعة أو تحقيق عادل أو جناية واضحة المعالم ارتكبها أولئك النفر النبيل من السفراء والدبلوماسيين. أكثرهم يفضل أن يقول إن تلك النظرة كانت نظرة ظلم وحقد. لا. لتبرير هجمة “التمكين” على وزارة الخارجية، لجأوا لتصنيف جميع العاملين بالوزارة ، ونصبو محاكم تفتيش لضمائر السفراء والدبلوماسيين، ثم أقدموا على تشويه سمعة بعضهم، وأشاعوا عن أكثرهم، أنهم خرجوا إلى سفارات السودان بالخارج، ليطيب لهم معاقرة الخمر ولعب الميسر وملاحقة النساء.
مزق نظام الإنقاذ إرث الدبلوماسية السودانية الذي بناه المؤسسون، رجالٌ كبارٌ أذكر لك منهم : عقيل أحمد عقيل، ومبارك زروق، وخليفة عباس العبيد، ومحمد عثمان يس، وجمال محمد أحمد، وعمر عديل، ورحمة الله عبدالله، وفخر الدين محمد . رجالٌ مثل أحمد خير ، ومحمد أحمد محجوب، ومنصور خالد، لم يمسوا شعرة من تاج الدبلوماسية السودانية، بل عملوا على إضافة ما يزينها، وما يزيد من مكانة السودان ويُعلي من منعته في دائرتي انتمائه الإفريقي والعربي.

(2)
لا أريد أن أسهب في سرد ما أنجز السفراء والدبلوماسيون السودانيون على مدى العقود الستة الأخيرة، منذ حقبة الاستقلال وحتى التاريخ الذي أكتب لك فيه هنا. لكن هجمة نظام الإنقاذ البائد، بلغتْ في خاتمة أيامه، مدىً تجاوز حدود المنطق والمعقول، فصارت الدبلوماسية حكراً على بعضِ جهلةٍ في القصر الرئاسي، لا يفقهون في السياسة الخارجية مثقال خردلة. زيّن بعضُ من حول، ساكن القصر، أن له أن يمارس دبلوماسية تخصّه ، دون وزارة الخارجية، ودون سفرائها ودبلوماسييها، وأن تكون الكلمة الأخيرة في من يكون سفيراً هنا أو هناك، هي ملك الرئيس وحده ، وأن الدبلوماسية الرئاسية حلال على الرئيس، حرام على من هو ليس برئيس. هكذا لم تعد وزارة الخارجية – بحسب إرادة أزلام القصر- جهة لها حق تقديم النصح الدبلوماسي والسياسي للدولة. بقيت عناصر قليلة في وزارة الدبلوماسية تمسك بجمر المهنة الدبلوماسية وقد صار جمرها حارقاً بقدر كبير. بين هؤلاء سفيرة لها من القدرات ما يؤهلها لتكون أيقونة من أيقونات دبلوماسية السودان.
(3)
أقدم القصر ببدعة دبلوماسيته الرئاسية، على اتخاذ قرار غير مسبوق في تاريخ دبلوماسية السودان : إرسال جنود سودانيين للقتال في اليمن “الحزين”، بمقابل مادي. كسب سماسرة الارتزاق والخونة من مثل طه الذي تعرفون، رزقاً وفيراً من بيع السودانيين مرتزقة في تحالف النخاسة على أرض اليمن . بعد أن عرف اليمنيون أن السودانيين يأتون بلادهم معلمين وحملة أقلام ، وبلغت مكانة بعض أهلينا هناك مثل سعيد القدال – مراكز سامية في السلطة الحاكمة هناك، جاؤوهم الآن تحت رايات نظام الإنقاذ البائد على ظهور المجنزرات ويحملون الرشاشات. أدرك سماسرة الارتزاق المحدثون درساً قديماً من خديوي مصر محمد علي باشا الكبير، فقد حدث التاريخ أنه غزا السودان عام 1820م، لأجل الذهب والرجال الأشداء. غير أن الباشا الكبير، لم يأخذ أجدادنا مرتزقة، بل جندهم في جيش مصر، دفاعاً عنها.
(4)
لك أن تسأل عزيزي القارئ، وماذا بعد كل الكلام الذي سردته لك هنا. . ؟
أصل الكلام وختمه، أن الدبلوماسية السودانية، وبعد أن خلع “فيوزاتها” الطاغية المخلوع، كُتبَ لها بعد انتصار ربيع السودان الثالث، أن تعود إليها الروح بعد تغييب مطرد، وأن تستعيد أنفاسها بعد اختناقٍ أكيد. لعلّ أكثر المتابعين يوافقونني على أن التحدّي الأول الذي يواجه ثورة السودانيين في ربيعهم الماثل، هو قدرتهم على تقديم الصورة الحقيقة للسودان الذي خرج من عباءة نظام الإنقاذ البغيض، إلى براح العافية ليجدد عقلنة علاقاته الخارجية في دوائر انتمائه ومع المجتمع الدولي، ويخرج السودان من قيود الحصار إلى أفق التعاون الإيجابي .
إن من الدروس التي ينبغي استيعابها من قبل سفراء ودبلوماسيي وزارة خارجيتنا، هي أن التمكين” الذي أعلى من الولاء محل الكفاءة، قد أحدث خراباً في أداء الدبلوماسية، وإني لأحمد للكثيرين منهم، حتى ومن جاءت بهم سياسة “التمكين” الخرقاء، أن ما تعلموه واكتسبوه من خبرات خلال عملهم في تلك الوزارة، أنها الآن تعلي من الخبرة والكفاءة، ولا يعتد بالولاء، وأنها بذلك تستعيد دبلوماسيتها قدرات تعين الوطن ليقف طوداً شامخاً، مثلما كان في سابق أيامه .
للدبلوماسية السودانية عبر وزارة الخارجية ، أن تحدث عن نفسها بما ملكت من إرث ومن قدرات ومن عبقرية، ثم على الإعلام أن يكمل المهمّة، ليخرج صوتنا قوياً ومقنعاً.

(5)
لقد فاجأنا العالم بثورة شعبية، ملك الشعب كله حراكها وصوتها، وتمت حمايتها من قواته المسلحة. لقد كان انحياز الجيش لدعم الثورة، كافياً لإعلان نجاحها، ويمهّد من بعد ذلك، لعودة الديمقراطية والحريات خلال أجل محدد. غير أن الضباط الذين تولوا القيادة لحماية الثورة، أعلنوا أنهم مجلس عسكري، فأدخل ذلك الإدعاء البلاد في طائلة لائحة ملزمة للاتحاد الإفريقي، بتجمد عضوية أي دولة يقع تغيير فيها عن طريق انقلاب عسكري.. بهذا دخل السودان في مواجهة مع الاتحاد الإفريقي.
من حسن حظ بعثتنا الدبلوماسية المعتمدة في الاتحاد الإفريقي، أن بعثت وزارة الخارجية بدلوماسية مقتدرة، ولها خبرات معتبرة في مجال الدبلوماسية الجماعية والمتعددة الأطراف، هي السفيرة النابهة نادية محمد خير عثمان. خلال سنوات عملها في مندوبية السودان بنيويورك قبل سنوات قليلة، أبلت بلاءً حسناً، أشاد به من عملوا تحت إمرتها، وعرفوا مقدراتها، رئيسة لمجموعة الـ 77 والصين في الأمم المتحدة. بين من عملوا معها في الفريق الذي كانت ترأسه، دبلوماسيّ يمنيّ اسمه خالد اليماني، هو اليوم وزير خارجية الحكومة الشرعية في اليمن.
(6)
لأن الاتحاد الإفريقي هدّد بتجميد عضوية السودان، فيما لو ثبت أن الذي وقع هو انقلاب صريح، وليس ثورة شعبية، فإن التحدي الواقع على بعثة السودان المعتمدة في الاتحاد الإفريقي، هو أن تتصدى لذلك التحدي، بما يجنب السودان من انزال تلك العقوبة عليه. ذلك يتطلب بالطبع قدرات دبلوماسية فائقة. بعد أن أعفى المجلس العسكري السفير الصادق بخيت الفكي، سفير الإنقاذ المعتمد في إثيوبيا وفي الاتحاد الإفريقي، وهو من السفراء المعينين سياسياً، تولت نائبته السفيرة نادية محمد خير عثمان، مهام إدارة البعثة، كقائم بالأعمال بالإنابة، وكذلك مهمة تمثيل السودان لدى الاتحاد الإفريقي، وفق التقليد الدبلوماسي الذي يتبع في مثل هذه الحالات.
(7)
حين عقد مجلس السلم والأمن الإفريقي جلسته الراتبة في تونس أواخر إبريل الماضي، للنظر في أوضاع السودان، وما أوصى به الرئيس المصري بعد اجتماع خصّصه للسودان في القاهرة، قرر المجلس قبول توصية الرئيس المصري – وهو الذي يرأس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي- بإمهال السودان ستين يوماً، للتحول إلى سلطة مدنية في السودان، تبعد البلاد من سيف تجميد العضوية. عملت السفيرة نادية عبر شبكة علاقاتها مع بقية مندوبي الدول الأعضاء في مجلس السلم والأمن، في ذلك الاجتماع، كما خاطبتهم وأبانت الجهود المبذوبة في السودان لتحقيق التحوّل المطلوب إلى السلطة المدنية، وطالبت المجلس بدعم تلك الجهود. من نتائج ذلك الاجتماع، وبجهد كبير من السفيرة مندوبة السودان، كسب السودان فترة الإمهال التي اقترحتها مصر ولكن بإنقاصها شهراً. إلى ذلك عيّن المجلس الإفريقي مبعوثاً خاصاً للسودان، هو السفير الموريتاني محمد الحسن ولد لبات، وهو دبلوماسي متمرّس، كان وزيراً سابقاً للخارجية في موريتانيا، وشغل عدّة مناصب دبلوماسية قبل أن يعينه رئيس الاتحاد الإفريقي مستشاراً له.
(8)
وبعد أن عقد المجلس جلسة ثالثة للنظر في أول تقرير أعدّه ذلك المبعوث في 27 مايو 2019، كان للسفيرة نادية دوراً مؤثراً في إقناع المجلس الإفريقي لتقديم المزيد من الدعم لمبعوثه في السودان، وإصدار مناشدة لكافة الأطراف الخارجية، للمساعدة في تحقيق التحوّل المطلوب نحو قيام السلطة المدنية في البلاد، دون التأثير والتدخل في توجهّات الأطراف السودانية، وتركهم لتحقيق ذلك التحول بأنفسهم..
قامت السفيرة نادية محمد خير من موقعها في سفارة السودان في أديس أبابا، بكلِّ هذا الجهد الذي وجد إشادة – ليس فقط من الأطراف السودانية المعنية أو الجالية السودانية في أديس أبابا- بل أن مسؤولاً سامي المكانة، مثل أبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، علق لخلصائه أن السودان أرسل إلى أديس، خير من يمثل صورته الجديدة. وأزيد أنا على ذلك، أن السفيرة نادية عزّزت ذلك الدور العظيم الذي لعبته المرأة في إشعال فتيل الثورة، وقد شهدنا في معمعة الثورة، شابة سودانية ألهبت مشاعر الثوار، وصارت أيقونة للثورة، التفت إليها العالم بأجمعه .

(9)
لك أن تسألني : كيف كان جزاء السفيرة التي برّتْ بوطنها، دون مَـنٍّ ولا أذىً دبلوماسي، وهي المطبوعة على محبة وطنها، ودون أن تنحني لعواصف كابدتها خلال الثلاثين عاماً التي قضتها في المهنة الدبلوماسية. . ؟
أقول لك ما يثير الأسف، أنّ المجلس العسكري- وفيما سمعت- قد طلب من وزارة الخارجية قطع مهمة السفيرة نادية في أديس أبابا، وإنهاء مهمتها هناك، وأن تعود على الفور إلى ديوان وزارة الخارجية في الخرطوم. لكأن المجلس الذي على رأسه جنرالات، لا يعلم الناس مدى إدراكهم لتعقيدات ملف العلاقات الخارجية للبلاد، لا يقدرون أداء مهني لسفيرة مثل نادية محمد خير، بل يعاقبونها على حسن أدائها والتزامها بمهنيتها. بدا الأمر وكأنهم يحمّلونها تبعات قرار الاتحاد الإفريقي بتجميد العضوية وإنزال علم السودان من ساريته في مبنى الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا. ذلك القرار جرّه على نفسه المجلس العسكري، بموافقته على فضِّ الاعتصام بعنف مفرط أدى إلى استشهاد عدد مقدر من شباب البلاد. ما نراه الآن هو سعي المجلس العسكري لإبعاد مسؤوليته عن تلك الأحداث المؤسفة في ساحة الاعتصام، لكنه سعي جاء بعد وقوع سيف تجميد عضوية السودان في المنظمة الإفريقية..
(10)
إن الاتحاد الإفريقي منظمة شارك السودان بفعالية في تأسيسها- وقت أن كان اسمها “منظمة الوحدة الإفريقية”، في عام 1963 في أديس أبابا . بين من أعملوا أقلامهم في صياغة ميثاقها، سفراء ودبلوماسيون سودانيون كبار، بينهم السفير جمال محمد أحمد، وكان يقود وفد السودان وقتذاك وزير خارجية السودان الأستاذ أحمد خير . . ترى هل يقدّر من أقدم على مجزرة ساحة الاعتصام، قبل وقفة عيد الفطر، فأهدر ما أهدر من دم الشهداء، أن تلك الفعلة الشنعاء ألحقت باسم السودان إساءة بالغة قضت بتجميد عضويته في تلك المنظمة، وطرده وإنزال علمه من سارياتها، وهو ذلك البلد الذي كان من مؤسّسي وواضعي ميثاق تلك المنظمة، بل هو أول بلد ينال استقلاله جنوب صحراء القارة الإفريقية. . ؟
إن السفيرة التي شمخ اسمها في إثيوبيا وفي أروقة الاتحاد الإفريقي، لن تكون مشجباً يعلق فيه من أخطأ، تبعات أوزاره وخيباته. . لو كان لوزير الخارجية الجديد، الذي قد يأتي بعد التوافق على السلطة المدنية وهو يعكف على ملفات وزارته وعلى إعلاء المهنية فيها، فإن عليه أن يعيد للسفيرة الشجاعة اعتباراً يليق بتقدير بذلها. .

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.