مواكب 30 يونيو.. ثم ماذا بعد؟

الخرطوم: محمد عبد العزيز

احتفل السودانيون بطريقتهم الخاصة بسقوط نظام الإنقاذ في ذات تاريخ وصوله للسلطة عبر انقلاب عسكري خططت له ودعمته الجبهة الإسلامية في العام 1989م، تاركين الإسلاميين مذهولين من هول كره الشارع لتجربتهم في الحكم فخرجت المسيرات والمواكب حاشدة هادرة في مختلف المدن تحت لافتة “المواكب المليونية” للمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين ومحاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وفض الاعتصام.

معطيات ودلالات
مليونية 30 يونيو مثلت أول فعل سياسي جماهيري كبير لقوى الحرية والتغيير بعد فض الاعتصام “مجزرة القيادة 3 يونيو، في وقت تحرك فيه المجلس العسكري بحثا عن حواضن سياسية عبر لقاءات جماهيرية مع قيادات عشائرية ومجموعات فئوية احتشدت لدعمه ومباركة إدارته للبلاد حتى دون شراكة مع قوى الحرية والتغيير.
ويذهب القيادي في قوى الحرية والتغيير حبيب العبيد في حديثه لـ(السوداني) إلى أن “مليونية 30 يونيو” مثلث استفتاءً شعبياً لثقة الجماهير في تحالف إعلان قوى الحرية والتغيير والتفافاً حول مطالبها في تكوين لجان تحقيق مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن فض الاعتصام ولمطالبة المجلس العسكري بتسريع نقل السلطة للمدنيين دون تسويف أو شروط.
بينما يرى أستاذ العلوم السياسية د.عبده مختار أن “مواكب 30 يونيو” أوصلت رسالة قوية للمجلس العسكري والرأي العام المحلي والعالمي مفادها أن الثورة ما تزال مستمرة ومحافظة على زخمها ومتمسكة بمبادئها وأهدافها من أجل إحداث تغيير حقيقي، وأضاف: “تظاهرات 30 يونيو بدا وكأنها تقول للمجلس العسكري إن سعيكم لخلق حواضن اجتماعية ليس موفقا ويجب أن تعيدوا النظر في طريقة تعاملكم مع ممثلي الثورة الحقيقيين”.
في المقابل، يذهب الصحفي والمحلل السياسي محمد عبد السيد في حديثه لـ(السوداني) إلى أنه من الصعب تحديد مآلات الأوضاع، مضيفا: “القوى الحية في الشارع السوداني ما تزال تصر على خط مسار سياسي جديد ربما لا تكون مشغولة بالتسميات، لكنها معنية بالجوهر الذي يفصل بين السلطات والذي يحقق شعارات الثورة حرية.. سلام.. عدالة”.

نتائج وحسابات
د.عبده مختار يتوقع أن تتجه الأوضاع للانفراج وأن يتفهم المجلس العسكري بصورة أفضل معطيات الواقع وتمسك الشارع بقوى الحرية كممثل رئيسي للثورة والاستجابة للمطالب الداعية لتسريع التوصل لاتفاق مع قوى الحرية والتغيير بشأن الترتيبات الانتقالية للسلطة.
إلا أن القيادي في قوى الحرية والتغيير حبيب العبيد، يشير إلى أن الحشود التي تلاحمت في 30 يونيو ستمثل حدثا تاريخيا لا سيما بعد التزامها بالسلمية لتحقيق مطالبها في محاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وتسريع ترتيبات نقل السلطة للمدنيين، وهو ما يمهد في حال استجابة المجلس العسكري لخلق استقرار سياسي في البلاد وبناء دولة ديمقراطية حديثة متطورة توفر لمواطنيها الحرية والأمن والرفاه.
لكن الصحفي والمحلل السياسي محمد عبد السيد يرى أنه على جميع أطراف الأزمة -قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري أو من يفوضوه- إدراك أن عدم الاستجابة لهذا الحراك أو المسار السياسي الجديد سيؤدي لعدم استقرار مهما كانت الظروف باعتبار أن القوى الحية ترى أنه لا بديل لاستقرار السودان وتقدمه إلا بالمسار الجديد وأنها ليست على استعداد لقبول نفس الأشكال والهياكل والتشريعات التي تؤدي لمركزة السلطة أفقيا ورأسيا، وأضاف: “هناك عدم ثقة بين المكونات الجهوية في تصرفات المركز بغض النظر عن هويته وتنسحب الشكوك لا إراديا على المكونات الجهوية التي تسير المركز مهما كانت هويتها”.
عبد السيد يقول: “في حال إصرار المجلس العسكري ككل أو أعضاء منه على اعتبار الهياكل القديمة هي الأنسب، فإن ذلك لن يؤدي لانفراج سريع، وقوى الحرية والتغيير في المقابل مطالبة بإقناع المجلس العسكري بأن الأشكال والسياسات القديمة التي جربت لـ 52 عاما برهنت على فشلها مما يستدعي التحرك لمربع جديد وليس شرطا أن يكون صادرا منها أو من الوسطاء بل إنه حتى إذا طرح المجلس رؤية جاذبة وكان صادقا في تنفيذها يمكن أن تنفرج الأمور”.
على كل يمكن القول إن “مليونية 30 يونيو” إعادة توازن القوى للشارع السياسي السوداني وساهمت في التعافي النفسي للسودانيين جراء صدمة ما حدث في 3 يونيو، وكرست لقيمة الوفاء وأن التضحيات لا تضيع أو تنسى لدى الأحياء، كما أكدت للمجلس العسكري ثقة الشارع السياسي في قوى الحرية والتغيير من جهة وقدرة قوى الحرية والتغيير على الحشد والتأييد حتى في ظل حجب الإنترنت وفرض حظر على حريتها في عقد الندوات من جهة أخرى، أما النقطة الأهم فهي للعالم ككل أن الثورة التي اندلعت بالسودان في التاسع عشر من ديسمبر ليس ثورة غضب يمكن أن تخبو جذوتها مع مرور الوقت، بل ثورة وعي تزيد مع الأيام ولا تنقص، فضلا عن اتخاذ مسمى جديد لها يسقط من الذاكرة السودانية تاريخ يونيو الأسود الذي ارتبط بالإسلاميين لصالح ثورة 30 يونيو التي بدأت أمس الأول، بالإضافة إلى أن اتخاذ تاريخ ومسار جديد للثورة يقطع الطريق على ادعاءات الانحياز التي يقول بها الكثيرون.

بين الأمس واليوم
30 يونيو التي درج النظام البائد على الاحتفاء بها بعطلة رسمية واستعراضات سياسية عسكرية وسانحة لجرد الحساب لصالح النظام ومدح قياداته والثناء عليهم في أجهزة الإعلام واعتبار ما قاموا به ضمن جلائل الصنائع التاريخية، وفي السنوات الأولى كانت فرصة للاحتفاء بتدشين الأغاني والأشعار الجديدة التي تمجد (الإنقاذ) وتسوق لأطروحتها بمشاركة وحضور قيادات الصف الأول.
جرت مياه عديدة تحت جسور (الإنقاذيين) جعلت ذكرى تحركهم في الثلاثين من يونيو تقليب في دفتر أحزانهم بعد المفاصلة بصفوف الإسلاميين وخروج العديد من الأسرار من الصدور، وكشف الصلة التي جمعت ما بينها والحركة الإسلامية وقيادتها وشيوع العبارة الشهيرة للراحل د.حسن الترابي (قلت للبشير اذهب للقصر رئيساً وسأذهب أنا للسجن حبيساً)، إلا أن اتفاقية السلام الشامل أهالت التراب رسمياً على تلك الذكرى حينما تم إسقاطها من تقويم الإجازات الرسمية للدولة لتصبح شأناً خاصاً بحزب المؤتمر الوطني قبل أن يلفها النسيان.
من بين مفارقات أمس الأول أن الذكرى الثلاثين لانقلاب الإنقاذ وجدت رموزها وعلى رأسهم البشير قد استقبلوها في سجن كوبر الذي أدخلوا إليه قادة العمل السياسي صبيحة ذلك اليوم قبل ثلاثة عقود، أما حزب المؤتمر الوطني فكان الغائب الحاضر الأبرز لا يعلم الناس من أمره شيء (حي يرزق أم ميت فيقبر؟!). أما مناهضو الإنقاذ الذين ظل هذا التاريخ يمثل لهم (ذكرى مؤلمة) فربما سيصبح لديهم بعد نجاح المواكب المليونية التي دعت لها قوى الحرية والتغيير مرتبط بذكرى حدث جب ما سبقه من تاريخ ارتبط لديهم بـ(الانقلاب على الديمقراطية) أما بعد مواكب الأمس فربما تنقلب دلالات التاريخ ليصبح (يوم استعادة الديمقراطية).

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.