إبراهيم الخواض

،، ضربونا رصاصتين،،

شارك الخبر

أجبرني توقف الطيران على البقاء في قاهرة المعز في هذه الأيام التي تشهد حزنا طاغيا في الخرطوم وتحولا كبيرا عقب فض اعتصام القيادة.. واكثر ما جعل البقاء مملا توقف الإنترنت وانقطاع أخبار السودان إلا من بعض أخبار أسمعها هنا وهناك.
خرجت من السكن يلفني إحساس بالتعب والرهق والفراغ وعزمت على المشي لأطول مسافة ممكنة علها تزيل عن جسدي تعب الراحة.

شوارع مدينة نصر على اتساعها ضيقة فصف السيارات على جنب الشارع يجعلك تنحشر بين السيارات حتى تسمح بعبور السيارة القادمة.. مما يجعل متعة المشي نفسها مملة..

خرجت من شارع عزت سلامة إلى شارع كابول، لأجد مساحة حرة أسرع فيها الخطى فأحقق مرادي من رياضتي المحبوبة لكن ظني خاب فالازدحام هنا أكثر.
ساقتني خطاي إلى قهوة شعبية على يسار الشارع صفت خارجها طاولات خشبية عتيقة وكراسي من الخيزران القديم.. يعلو صوت أم كلثوم من داخلها عميقا يذكرك بتاريخ القاهرة الزاهر وانفراط عقد امنها عقب ثورة شبابها الأخيرة.. وصوت نادلها بين الفينة والأخرى يطلب طلبا لهذا أو يعاكس ويجامل ذاك.. فانتخبت مقعدا بعيداً زُهداً في المشي وجلست خالعا نعلي ماداً ساقيَ في استرخاء فوضوي.. وأقبل نادلها مسرعاً – كطبيعة أهل مصر – بقنينة ماء وكوب فارغ.. فرجوته أن يعجل بالشاي.

طرق سمعي من خلفي صوت شجي ميزته رغم عُلو صوت أم كلثوم وملاسنات النادل.

لا الزمن يقدر يحول قلبي عنك..
لا المسافه ولا الخيال يشغلني منك..
عارفني منك..

ودخلت في غيمة من الوجد والهيام.. هيام المحب لوطنه.. المشتاق لتقبيل ثراه.. هياماً أبعدني عن مكاني وآواني إلى حَر بلدي فملأ خياشيمي عبق تراب الخرطوم ممزوجا برائحة البارود والدم والغبار.. وامتزج في أُذني صوت أم كلثوم بهتاف الثوار وعويل النائحات أبناءهم الثكالي.. وكلمات مصطفى سيد أحمد.

لا الزمن قادر يشيلني عليك أعدي..
لا رساله تجيني منك..
لا خبر طمني عنك..
رغم إنك إنت عارف إنو منك..
لا الزمن يقدر يحول قلبي عنك..

فرأيتني ما بين غفوة وصحو، مع الشباب أسعى مسرعا علني ابَصّرهُم باتخاذ الساتر، أو وسائل الانسحاب في مثل هذه الأحوال، فهم أغُرار ما خاضوا معركة، وما ألفوا صوت زخات الرصاص فوق رؤوسهم، وأحزنني في هذه الحالة غياب القائد الثابت الخبير، الذي يقودهم إلى بر الأمان، أو يرشدهم إلى طرق النجاة فيَسلموا.

لِم أخرجتهم (الفئة الباغية) من محاضنهم إلى هذا الموقف؟ وأمرتهم ببذل الإساءة تلو الإساءة لرمز عزة البلاد وفخرها.. ألأجل منصب زائل وترف محدود ومُلك ما كتب لهم وليسوا أهلاً له؟

كان فجرا اقرب إلى الليل البهيم.. هذا الذي كنا نموج فيه.. اختلط فيه ضو الصبح بخيوط ظلام آخر الليل فقلب النواميس والموازين.. وجعل القيم متأرجحة بين حق أريد وباطل أشرع جناحيه على الدنيا، فصارت الحقيقة بين ثناياه غائبة.
فتهاوت في نفسي قلاع الزيف، وأخذت تنزاح كثير من الأعراض التي بُلونا بها، وعمتنا شرورها، واقترف (كبيرنا) منفردا على أثرها كثيرا من الموبقات والآثام، وأسرف فيها على نفسه، فتفرقت بنا السبل، كان (شيوخنا) يخشون أنهم لو أغلظوا عليه النصح وعملوا على إعادته إلى طريق الجادة أن يتنمر لقسمه ويفتك بالدولة والحركة ويجعل أهلها شيعا..
وضاع بين صبرنا عليه وتَنازُعنا فيه وحوله، طريقنا المربوط بقيم الحق والفضيلة، فحان وقت النزع بلا تأخير.

والتفتُ إلى نفسي أعاتبها.. أما كان على أن أغلب واجب النصرة والسند للذين يكابدون الصعاب ويواجهون الموت أملا في مستقبل مشرق? أم أني رغت من الحق ورضيت تظاهرة الباطل تقية أو خشية أو جبنا؟
وأنا في غفوتي تلك بين صحو ومنام رأيت عن يميني، وأنا أرشد الشباب إلى طرق السلامة، فتاً يافعاً فاقع اللون أصفر، كث الشعر أسوده.. يلبس قميصا أصفر مُزِج صدره وظهره بلون الدم الأحمر القاني.. ينزف غزيرا كأنما يريد أن يروي أرضا جدباء تحته.. يكابد وهو يمشي مترنحا نحو التَرس فيتكي عليه منهارا وحوله الشباب يهرعون يطلبون النجاة تعمهم الفوضى ويقودهم الانفعال.

لم يِسعَ فتاي وهو يفغر فاه بِنفسٍ طويل دافئ إلا أن يستقبل الموت هادئا هانئاً فرحاً فقد انزاح القيد وكُسر الاصِر وتقدم مُسلّماً امره لرب رحيم غفور.. ووجدتني ألتفت إليه حزينا هامسا.. كان عليك أن تحيا لترعى الغرس وتتولاه حتى يكبر لا أن يتخطفك المنون هكذا.. رويدك أيها الفتى، لِمَ العجلة إلى ملاقاة الرحيم أما كان عليك أن تصمد هازئاً بالتحديات.. وأن تمضي إلى هدفك حتي تبلغه وإن طال المسير وكثرت على طريقك العوائق.

عفوك يا فتى.. عفوك.. لا تلمني.. ليس في وسعي شيء.. أنا مغلوب على أمري.. سأبلغها أنك تأمل عفوها وترجو رضاها.. وأنك ستضع تاج فخرٍ على رأسها.. أمضي إلى ما ترجو فقد اتسع طريقك وعبئ بالورد والرياحين والعطور.

فافترَّ ثغر الفتى عن ابتسامة حزينة باهته وسمعت صوته يمضي في تُؤدة وهو يتلاشى إلى الفناء..
يا والده كان شفتي..
ضربوا الترس رصاص ..
وأنا في الترس واااقف ..
ضربونا رصاصتين ..
رصاصه لي وطني
رصاصه ليك انتي ..
ورصاصه في صدري ..
كنت أريده أن ينهض من عثرته فلا تقعده عن اقتحام الصعاب قوة، فيمضي إلى هدفه غير عابئ ولا مهتم.. ويبلغه تاما غير منقوص.

من أنت أيها الفتي الأصفر المشرب بحمرة الدم؟ من علمك مواجهة الموت؟ من أنبأك أن غرس الأوطان يروى بالدماء؟ من أرشدك لنفض الأغلال واستنشاق أريج تلك الجنة الموعودة التي فُتّحت أبوابها لامثالك، من لا مصلحة لهم ولا غرض.. من لم يتذوقوا طعم متع الحياة ولم يتخيلوا نعيمها.. ما خضبت أمك الحانية كفك بحنةٍ حمراء، ولا ربطت أختك الحبيبه على ساعدك حريرة عُرس، ولم يعلو صوت (حبوبتك) الرخيم عِزًا (بالبنينة) ولم يلسعك شبال وضباء بكر.. أنت أيها الأصفر النقي وقد انكفأ رأسك على صدرك رَهقا ما استطعت رفعه.. لكنه كان في نظري شامخًا كابي الهول. .رايتك أيها الفتى وأنت تتقافز مع اخوتك تحت المطر والرعد والرصاص والدخان وتشدوا بأحلامك الوردية البسيطة.

ح تسقط …. وح نعررررس ..
ح نعرس كنداكة ..
وترفع صوتك قائدا.. بالجلالة ..
الموت .. الموت ..
الموت بي جاي ..
ومعاه جنه ..
هل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟

وارتفع الصوت الشجي خلفي فارتُج على، فنزعني إلى الحقيقه نزعا..
لا المسافة ولا الخيال يشغلني منك
ابقى بعدك في الأسى
أعيش زمان بالفرقة جارح ..
وفي احتمالي وبالي منك ..
رغم إنك إنت عارف إنو منك ..
لا الزمن يقدر يحول قلبي عنك ..
والتفت لأرى مصدر الصوت فتبسم لي شابان أسمران يدخنان الشيشة بشره وعلى الطاولة أمامهما بُعثرت علب التبغ ومفتاح سيارة وكوبا قهوة نصف فارغين وجوال بجراب أسود يصدح بشدو مصطفى سيد أحمد.

خليك على الوعد القديم ..
وخليني للشجن الأليم ..
وابقى في كل المداين ..
سكتي وسفري الجحيم ..
وتبقي ايه الدنيا من بعدك تكون ..
وابقي ايه بعدك أكون ..

ذهب الفتى الأصفر إلى ربه صادقا غير ملتاعٍ ولا خائف، وبقي وسم دموع الفرقة على وجنتي والدته المكلومة، كجدولين دُلِقت عليهما دماء حزن جار لن ينضب ..
وطفقت (قحت) تمسح بقميص الفتي الاصفر، ودمه المسفوك، ودموع والدته النائحة، أرض غرفة المفاوضات استعدادا لاجتماع قسمة السلطة وتوزيع الغنائم ..

لك الله يا وطني ..

القاهرة 8 يونيو 2019

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.