السر سيد أحمد

من جمهورية الاعتصام.. إلى بناء البديل (5+7)
العالم يلتفت

شارك الخبر

لا يُعتبر قسم “الموضة” في صحيفة “النيويورك تايمز” من المَنَصّات الإعلامية التي يتم اللجوء إليها عادةً بحثاً عن أخبار السودان. فهذا عالمٌ مختلفٌ تماماً شكلاً وموضوعاً. لكن فانيسيا فريدمان مُحرِّرة قسم الأزياء في الصحيفة وجدت في صورة الشابة آلاء صلاح، التي اعتبرت أيقونة للثورة بصُورتها التي انتشرت وهي تهتف، إنها من نوع الصور التي تختزل التاريخ في لحظة مفعمة بالمَعاني. وكان أن تناولت قرط الأذن والثوب الذي كانت تَلبسه مُستخدمةً كلمة “ثوب” باللغة الإنجليزية مع وضع لخلفية استخدام الثوب في السودان خَاصّةً بين العاملات والطالبات والأُسر، وإن في عودته بعد اختفائه في عهد الإنقاذ مُؤشِّراً لبداية جديدة.

ذلك المقال لم يكن الوحيد الذي فُرض على بَعض وسائل الإعلام الغربية المُؤثِّرة التّعاطِي مع الشأن السوداني. فالقائمة تتمدّد شَامِلَة مواقع ومطبوعات عامة ومُتَخَصِّصة، من إصدارات محلية إلى أخرى دولية مُرتبطة بمراكز أبحاث واهتمامات بالشؤون الخارجية والاستراتيجية، بل وحتى مُقدِّمي البرامج الكوميدية أمثال تريفور نوح وحسن منهاج كانت لهما مُشاركتهما. هذه الوسائل الإعلامية لم تبخل بفتح مُختلف أقسامها من صفحات الرأي إلى الأخبار والمُقَابَلات والتّحقيقات الصّحفيّة المُعَمّقة، بل إن الأمر وصل إلى تخصيص افتتاحية باسم بعض الصحف لتناوُل قضايا الثورة السُّودانية مثل صحيفة “الواشنطن بوست” التي نشرت افتتاحية باسم هيئة التحرير، وهو مَا يعطيها ثقلاً إضافياً عقب إزاحة الرئيس السابق عمر البشير عن السلطة. ويلفت النظر في تلك الافتتاحية أنها اختتمت بنصيحة للرئيس دونالد ترمب قائلة:
“يجب أن يتعلّم الرئيس ترمب درساً أيضاً. إنّ ما حَدَثَ في الجزائر والسودان يَدل على أنّ دعم إدارته الأعمى للمُستبدين العَرب الآخرين، بِمَن فيهم عبد الفتاح السيسي في مصر ومُحمّد بن سلمان في السعودية، هو رهان سيئ”.
كما يلفت النظر أنها نشرت ترجمة عربية لتلك الافتتاحية مِمّا يُشير إلى اهتمامها بإيصال صَوتها إلى قطاعٍ أكبر من النّاطقين باللُّغة العَربيّة. وعَادَت بعد فَضّ الاعتصام لتتحدّث في افتتاحية أُخرى عن اختطاف فُرصة بدء المَسار الديمقراطي في السودان وتلقي باللائمة على الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي آثرت الاكتفاء بإصدار البيانات فقط.

وهناك أيضاً جانب التّحقيقات والتّغطيات الإخبارية التي غَطّت وبعُمقٍ مُختلفٍ جوانب الثورة السودانية، ويمكن الإشارة تحديداً إلى ثلاثة جوانب لقيت اهتماماً مُتزايداً: تناول الدور المُتعاظم الذي تَلعبه السُّعودية والإمارات ومصر، وغض إدارة ترمب النظر عن تحرُّكاتها تلك رغم استهدافها لأيِّ تحوُّل ديمقراطي في المنطقة. ويرد هنا ما نشره موقع “دايلي بيست” في الخامس من يونيو وتَحَدّث فيه عن اجتماع في واشنطن لبحث الوضع في السودان حضره القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم ديفيد كوتسيس، الذي أعطى إشارات مُتناقضة عما يحدث، وأن المجلس العسكري لا يُمكنه تسليم السلطة ببساطة إلى المدنيين، كما لم يَخفِ حقيقة مشاعره بالقول إن على واشنطن أن تتحالف مع ثلاثي الرياض وأبوظبي والقاهرة في الشأن السوداني، وتساءل أمام المُجتمعين إذا كانت لواشنطن مصالح مُختلفة عما لدى الثلاثي. وقالت الصحيفة إن الصمت ران على المُجتمعين في القاعة قليلاً، ثُمّ رد جوني كارسون الذي عمل من قبل مُساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأفريقية أن مصالح الولايات المُتّحدة تتمثل في الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وسيادة القانون.
وهناك أيضاً جانب التّحوُّلات الاجتماعية الذي أبرزته الثورة وحُظي بتغطياتٍ عديدة مثل الدور الرئيسي للشباب والمرأة وذلك في انعكاس لحالة انسداد الأفق أمام هاتين الفئتين إبان عهد الإنقاذ من خلال ضِيق فُرص العَمل والقُيود التي تَحد من الحركة خارجياً بسبب صُعُوبة الحُصُول على تَأشيراتٍ للهجرة وقانون النظام العَام الذي استهدف النساء بصُورةٍ خَاصّة.
مجلة مثل “الايكونومست” أو تلفزيون “البي. بي. سي” بخدمتيه باللغتين العربية والإنجليزية وجداها فرصة سانحة لتغطية الجانب الفني في الاعتصام من خلال الحديث عن وعرض اللوحات والجداريات التي رسمها بعض الفنانين من المُعتصمين توثيقاً وتخليداً للحدث.
من الاستعراض السابق يتّضح بصورةٍ جليةٍ أنّ ثورة ديسمبر – أبريل لقيت تَغطية إعلامية عالمية لم تتهيأ للسُّودان من قَبل وكانت في مُجملها تغطية إيجابية. وهذا ما يُؤكِّد على بعض النتائج الأساسية لهذه الثورة: إن الفعل داخل السودان هو الذي يلفت الأنظار. وإذا كان أحد أهداف العمل السِّياسي كشف النظام وتحديه فإنّ العمل في الداخل يُمكنه تحقيق نتائج أفضل وأسرع وأشمل كما هو واضحٌ في التغطية الإعلامية المُكثّفة للثورة.
الخلاصة الرئيسية الثانية، إنّه مَعَ التّفهُّم لخيار حَمل السِّلاح الذي لَجأت إليه بَعض المَجموعات المُعَارِضة ودَوره في إجهاد نظام الإنقاذ في فترةٍ ما، إلا أنه من الواضح أنّ الحِرَاك السلمي كان له القدح المُعَلّى في التّغيير الذي حَدَثَ مُؤخّراً، وأنّ التأكيد على هذه الحقيقة جاء عبر توقيع كلٍّ من الحركة الشعبية – شمال – جناح عقار وحركتي دارفور بقيادة جبريل إبراهيم ومني اركو مناوي على إعلان الحرية والتغيير الذي يعلي من خيار العمل السلمي.
وهذا الإعلاء لشأن الخيار السلمي للمعارضة على حساب اللجوء إلى البندقية يُصب في صالح المُستقبل الديمقراطي للتجربة. فالعُنف قد يقضي على أيِّ نَظَامٍ قَمعِي، لَكنّه قَطعاً لَيس الطَريق الأفضل لبناء مُؤسّسات ديمقراطية.
أسهمت هذه التّغطية الإعلامية في إعادة تعيين دونالد بوث مبعوثاً للسودان، وهي خطوة مُوفّقة، لأنّ واشنطن فضّلت إيكال الملف إلى شخصٍ يَعرف دَقائقه ولا يحتاج إلى دِراسته من البِدَاية، إذ كَانَ بُوث مِن مسؤولي مَكتب السُّودان إبان انتفاضة 1985م، كَمَا عَمِلَ سَفيرَاً بليبيريا في الفترة الصعبة التي شَهِدَت انتقال البلاد من الحرب الأهلية إلى السلام والتّحَوُّل الديمقراطي، كما عَمِلَ في إثيوبيا المُهتمة بما يجري في السُّودان بحُكم جِيرتها ورئاستها لمُنظّمة الإيقاد التي تَتَوَلّى الوَساطة في القضية السودانية. وبوث لا يتردّد في طَرح رأيه بصراحةٍ كما فَعَلَ في آخر لقاءٍ له بمعهد السلام الأمريكي قبيل مُغادرته منصبه، إذ انتقد الحركة الشعبية على تعطيلها لمشروع إيصال الإغاثة إلى المناطق التي تُسيطر عليها لخلافاتٍ حَول بَعض الشُّروط مع الخُرطوم. وأهم من ذَلك أنّ تَعيين بُوث مُؤشِّرٍ إلى مُتَغيِّراتٍ في نظرة واشنطن إلى السُّودان. فلفترة طويلة ظلّت الإدارات الأمريكية المُتعاقبة تتعامل مع السُّودان وكأنّه قضية داخلية وذلك بسبب طُغيان ثلاث مجموعات من اللوبيات: تلك المُهتمة بحُقُوق الإنسان، والمسيحيين الجدد والأمريكان من ذوي الأصول الأفريقية، إذ ظلّت مشغولة باستمرار الحرب الأهلية وتداعياتها. فَعَقِب دُخُول جورج بوش الابن البيت الأبيض ببضعة أسابيع التقى وفداً من المسيحيين بمستشار بوش السياسي كارل روف وطلب منه العمل على الاهتمام بالمسيحيين في جنوب السودان. روف الذي يعرف أهمية الصوت الانتخابي للمجموعات المسيحية وعدهم خيراً. اهتمت الإدارة بالأمر وقامت بالاتصال بالدبلوماسي المُخضرم شستر كروكر لتولي مهمة المبعوث الخاص للسلام، لكنه اشترط حمايته من ضغوط اللوبيات ولم يوافق بوش، وكان أن ذهب المنصب إلى جون دانفورث الذي دفع باتجاه تحقيق تسوية من خلال اتفاقية السلام الشامل، كما حافظت إدارة أوباما على نفس الزخم حتى تحقق انفصال جنوب السودان، ثم انزلقت الدولة الجديدة إلى مشكلات بلغت قمتها بالحرب الأهلية، الأمر الذي خفف من الاهتمام الأمريكي بما يجري في البلدين، وهو ما بنت عليه إدارة ترمب وقامت بإطلاق يد القوى الإقليمية خَاصّةً الإمارات والسعودية ومصر في تناوُل الملف السُّوداني، وذلك في إطار ميل إدارة ترمب العام إلى التّعامُل مع أنظمة لا تأبه كثيراً لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية.
على أن استمرار الثورة سلمية خلال فترتي الاعتصام والمَجزرة التي تمّت لفضِّه دفعت بالكثيرين للعمل على العودة إلى مَنَصّة القيم الأمريكية من احترامٍ لحقوق الإنسان، والتّحوُّل الديمقراطي وهو المجال الذي يمكن لوزارة الخارجية العمل فيه وأن يصبح صوتها مَسموعاً بصُورةٍ أفضل مِمّا كان الأمر عليه إبان فترة سطوة اللوبيات التي كَانت تُركِّز عَلَى تَحقيق انفصال جنوب السودان، رغم أن الدبلوماسيين المُحترفين كانوا يرون أن الجنوب بتركيبته الاجتماعية والاقتصادية يبدو قابلاً أكثر ليصبح دولة فاشلة إذا انفصل، وأنه من الأفضل للمصالح الأمريكية دفع الحركة الشعبية إلى تبني خيار الوحدة، الذي يُمكنها من الحفاظ على سيطرتها لكل الجنوب والمُشاركة في حكم الشمال وتخفيف غلواء الاتّجاهات الإسلامية المُتشدِّدة لدى المؤتمر الوطني، الى جانب أن واشنطن لن تكون مُطالبة أخلاقياً بدعم الدولة الجديدة كما هو الحال مع الانفصال. لكن صَوت اللوبيات وبكل تبعاته الانتخابية كان أعلى، وبالتالي جَعل دَور الخارجية هو الأضعف.
هناك بعض الكروت المُهمّة التي تملكها واشنطن خاصة تجاه السودان، على رأسها موضوع الرفع من قائمة الدول الراعية للإرهاب، الذي يمكن أن يفتح الباب أمام تطوُّرات اقتصادية إيجابية مثل فتح الطريق أمام إعفاء الديون واحتمال التفاعُل مع جُهُود إثيوبيا الرامية إلى تحقيق قدرٍ من السَّلام في المنطقة. لكن في المُقابل هناك أيضاً الوضع الجيوستراتيجي للسودان الذي أبرزته الأحداث الأخيرة والعمل على تحقيق الاستقرار فيه ويمثل مصلحة إقليمية وأمريكية مباشرة، خَاصّةً في منطقة تشهد بُرُوز بعض التّيارات المُتَطَرِّفة.
من ناحيةٍ أُخرى، فإنّ قُدرات وزارة الخارجية تبدو مَحدودة في التّأثير الفعّال على محور الثلاثي “السعودي، الإماراتي، المصري” لتواصله مُباشرةً مع ترمب علماً بأنّ موقع بوث الجديد أقل وظيفياً من موقعه السابق، إذ يتبع لمساعد الوزير للشؤون الأفريقية تيبور ناجي، بينما كان منصب المبعوث سابقاً يتبع لوزير الخارجية ويتم تعيينه بواسطة الرئيس. ثُمّ إن وزارة الخارجية تعيش واحداً من أسوأ عهودها، إذ تَمّ تخفيض ميزانيتها بمقدار الثلث وتُعاني الكثير في مَواقعها القيادية والوسيطة من الفَراغ لعدم قُدرة أو رغبة إدارة ترمب في ملئها، كما تَشهد هِجرة للكوادر المُحترفة بسبب السِّياسات التي تتبنّاها الإدارة الحالية ولا تلقى قُبُولاً لدى العديدين، هذا إلى جانب الضعف في قُدرة الوزارة على جَذب المُؤهّلين في سُوق التّنَافُس مع مُؤسّسات الدولة الأخرى مثل البنتاجون ووكالة الاستخبارات والقطاع الخاص، الأمر الذي يجعل من الحكمة عدم وَضع كُل البيض في السّلة الأمريكية والعمل على الاستفادة من الوجود السوداني على الساحة الأمريكية الذي يُقدّر عدده بنحو 44 ألفاً، وفق تقديرات مجلس الأطلنطي، من خلال خُطةٍ راشدةٍ للتّعاطِي مع سُودانيي المَهاجر.
وهذا ما ينقل النقاش إلى عُنصر التّأثير الثّاني وهو السُّعودية. فغداة غزوة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الكويت، أرسل الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب وفداً برئاسة وزير الدفاع ديك تشيني إلى الرياض لإقناعهم بضرورة القُبُول بقوات أمريكية لحماية السعودية التي تُشَكِّل الهدف الثاني لحَملة صدام. الوفد التقى الملك فهد وولي عهده الأمير عبد الله، وبعد أن شرح الأمريكان الموقف، اقترح الأمير عبد الله، على الملك فهد أن يأخذوا وقتاً للتشاوُر، فأجابه فهد أن الكويتيين الذين أخذوا وقتاً للتّشاوُر يُقيمون الآن عندنا في الطائف، ثُمّ طلب من المُترجم أن يشكر الوفد الزائر، وأنه سيتم الاتصال بهم لاحقاً.
السفير الأمريكي وقتها في الرياض شاس فريمان الذي يتقن العربية فهم من حديث فهد أنه سيقبل باستدعاء القوات الأمريكية وأبلغ تشيني بذلك، وهُو مَا حَصَلَ فعلاً. فريمان من العروبيين القليلين في الخَارجيّة الأمريكيّة والتقيته في حِواراتٍ صَحفيّةٍ عَديدةٍ خلال فِترته تِلك، ومِمّا ذكره مرة أنه سعى جاهداً للفت نظر السعوديين إلى الاهتمام بما يجري عبر البحر الأحمر خَاصّةً السودان، إذ تبدو جبهتهم الغربية مكشوفة، وأنّه رجع إلى التاريخ ليُشير إلى حَملة أبرهة على الكعبة والطير الأبابيل وكذلك حَملة إبراهيم باشا التي قامت بتحطيم الدولة السعودية الأولى. ومع بدايات عهد الإنقاذ أغرت الخرطوم أسامة بن لادن بالهجرة إليها كما هَرَبَ أحد الطيّارين بطيارته إلى السودان. واشتكي فريمان من أنه ليست هناك جهة مُحَدّدة للتّعامُل مع السودان وغيره، وأنه قام باستقدام أحد كبار مُوظّفي الشؤون الأفريقية في الخارجية الأمريكية للتّباحُث مع السُّعوديين، لكن كل ذلك لَم يَسهم في تَغيير التّركيز بالانشغال بالخليج والمشرق العربي خَاصّةً القضية الفسطينية.
على غير العادة، تحرّكت الرياض بسُرعة للاعتراف بالتغيير السياسي الذي شهده السودان أخيراً. فبعد يومين فقط من إزاحة عمر البشير، أصدرت السعودية بياناً يُؤيِّد التغيير، كما نَسّقت مع الإمارات على تقديم دعمٍ عاجلٍ في حُدُود ثلاثة مليارات دولار تُغَطِّي احتياجات أساسية من الوقود والقَمح والأدوية مُتضمِّناً مبلغ 500 مليون دولار تُوضع وديعة لدى بنك السودان.
أخيراً.. يبدو أنّ السعودية بدأت تلتفت للاهتمام بجبهتها الغربية، ومن إشارات هذا الاهتمام تعيين الدبلوماسي أحمد القطان وزير دولة للشؤون الأفريقية في مطلع العام الماضي، وهو منصبٌ يُستحدث لأوّل مرّة. وفيما يَتَعَلّق بالسودان، فإنّ للسعودية أربعة مشاغل أساسية: مُساندتها في سياستها الحالية القائمة على مُواجهةٍ مفتوحةٍ مع إيران واستمرار السودان في توفير قُوّات برية للقتال في اليمن، ألا يصبح السودان مَلجأً لجماعاتٍ إسلاميّةٍ مُتطرِّفة مُضادة للسعودية خَاصّةً في ضوء التّحوُّلات الاجتماعيّة والتحديثيّة الجارية هناك وتتصادم مع قناعات الكثيرين، الحِفاظ على الاستثمارات السُّعودية خَاصّةً في المجال الزراعي، وفي جانبي الحكومة والقطاع الخاص مثل اتفاقية تَخصيص مليون فدان في شَرق السودان لمدة 99 عاماً فرض البشير على البرلمان إجازتها بدون الكشف عن تفاصيلها. وبالنسبة للإمارات فإنّ السودان يُوفِّر لها أكثر من ثُلث احتياجاتها من العَلف وإزالة حكم الإسلاميين. وأخيراً هُناك الانشغال باحتمال أن ينجح السُّودان في إقامة نظام تَعدُّدي، برلماني يحترم حقوق الإنسان ويسعى الى التّحوُّل الديمقراطي المُؤسّسي، الأمر الذي يُمكن أن يُشَكِّل نُموذجاً خَطراً، وضعاً في الاعتبار حالة الاحتقان السِّياسي التي تعيشها السعودية وبقية الدول الخليجية.
ومن هنا التّخوُّف من أن تلعب الرياض دوراً سلبياً فيما يتعلّق بالتحوُّلات الجارية، وهي تخوُّفات مشروعة، لكن ينبغي النظر إليها في إطارها الطبيعي، وأنّ قدرة السعودية على الحركة تظل محكومة أيضاً بظروفها الخَاصّة، وأنّ الانشغالات المَذكورة عليه يُمكن تحييدها على الأقل إن لم يمكن تحويلها إلى كروتٍ لصالح السودان.
فالسعودية تعيش في واحدةٍ من أكثر فترات حياتها عُرضةً للتقلُّبات والتّحديات بسبب ثلاثة تَطوُّرات أساسية: أولها يتعلّق بالسُّوق النفطية التي تلعب فيها الرياض دور البنك المركزي وبسبب دورها المحوري المُتمثل في الاحتفاظ بطاقة إنتاجية إضافية تتراوح بين مليون إلى مليوني برميل يومياً تُستخدم في حالة حُدُوث أيِّ انقطاع في الإمدادات، وهو ما أكسب السعودية مكانةً استراتيجيةً. على أن السوق النفطية تمر بمرحلة تَحَوُّلات هيكلية على رأسها انتقال تقنية التكسير الهيدروليكي إلى الميدان التجاري، الأمر الذي مَكّنَ الولايات المتحدة من إنتاج النفط الصخري مِمّا سَاعدها على الوصول بإنتاجها إلى نحو 12.5 مليون برميل يومياً مُتجاوزةً بذلك كلاً من السعودية وروسيا. وكانت الرياض تعتمد استراتيجية المُنافسة مع كل من كندا وفنزويلا على احتلال مرتبة الدولة الأكثر تصديراً للنفط ومُشتقاته إلى السوق الأمريكية، وأن تسعى جاهدةً ألا تقل صادراتها تلك عن المليون برميل يومياً، لكن بِسَبب زِيادة الإنتاج المحلي من النفط وتَقليص الواردات تَراجعت الصّادرات النفطية السعودية إلى أمريكا لـ 346 ألف برميل يومياً وفق آخر الأرقام المُتاحة.
ثُمّ أنّ عائدات النفط تمثل نحو 90 في المائة من إيرادات الحكومة التي تُنفق منها على مُختلف البرامج الاجتماعية في بلد يتجاوز عدد سُكّانه 32 مليوناً، حوالي 70 في المائة، منهم أعمارهم أقل من 30 عاماً ونسبة العطالة الرسمية بينهم في حدود 13 في المائة.
ولكسر هذا الأفق المسدود، تَسعى السعودية من خلال رؤية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى تنويع القاعدة الاقتصادية، لكن هذه المُحَاولات تَصطدم بالمُمارسات الأمنية الخشنة للسُّلطات وعدم السماح بأيِّ هامشٍ للحُريات السِّياسيَّة، وهو ما عَبّرَ عن نفسه بتزايد عَمَليّات هُرُوب رؤوس الأموال إلى الخارج. ومع صعوبة توفُّر أرقام دقيقة، إلا أنّ التقديرات تضعها في خانة عشرات المليارات من الدولارات وقد تَصل إلى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وهذا ما ينقل النقاش إلى النقطة الثالثة المُتعلِّقة بقُدرة وفاعلية مُستقبل ترتيب القيادة الحالي للاستمرار في السيطرة على الأوضاع في ضوء هذه التحديات المرشحة للنمو على ضوء تزايُد حُضُور الجيل الشاب في الساحة سياسياً واجتماعياً وتنامي ثورة الاتّصالات، التي تُوفِّر مَنَصّات مُختلفة ومُستقلة عن الهيمنة الحكومية. هذا بالإضافة إلى التّساؤلات التي طَالَت صيغة حُكم العائلة الملكية قد تمّ تعديلها إلى حَدٍّ بعيدٍ لتقتصر على بيت الملك سلمان فقط.
هذه قضايا داخلية تخص السعوديين وعليهم التّعامُل معها، لكن الهدف من إيرادها الإشارة إلى أن يد الرياض ليست مُطلقة للتّعامُل مع ما يجري في السودان كما تحب بسبب مشاغلها الأخرى، وأن هناك مجالاً للتعاوُن على أُسسٍ مُرضية للطرفين بعد مُراجعة نقدية للوضع الحالي والاستفادة من موارد السُّودان الطبيعية التي يُمكن أن تَسهم لسد فجوة في مجال الأمن الغذائي للسعودية. وعليه فبدلاً من الانشغال بالنوايا السعودية الإماراتية تجاه السودان، ينبغي أن يكون السؤال والانشغال بماذا يريد السودان وكيف له أن يخدم مصالحه.
(غداً: شَيءٌ من التنظيم، شَيءٌ من المُؤسّسية)

شارك الخبر

Comments are closed.