في القطار المتجه من أسوان إلى القاهرة، أخذت مقعداً عند النافذة يمكنني من مشاهدة مدن الصعيد.. كنت حديث عهد بالحياة وملهوفا لتكريمي في احتفال بمؤسسة أخبار اليوم.. كثرة التفاتي دفعت ذلك النوبي الستيني الذي يجلس على يميني بقفطانه الرمادي ليسألني (فين رايح يا ابن النيل).. نزل سؤاله عليّ برداً وسلاماً وغشيتني طمأنينة بأن نهر النيل يرافقني ويوفر لي حصانة وحماية في رحلتي الأولى خارج فضائي الجغرافي.
كنت صامتا والرجل يحدثني عن العلاقة بين مصر والسودان وأن البلدين توأم يتغذيان من شريان واحد ويتقاسمان حضارة متجذرة ويتشاركان الهم والدم والماء والمصير.. حكى لي ذكرياته التي توزعت بين مدينتي دنقلا ووادي حلفا وزادني كيل طمأنينة عندما دندن بمقطع للفنان محمد وردي، حينها سيطر عليّ إحساس أنني لم أغادر بلادي.
في حفل التكريم وأنا في حالة زهو وسط الوجوه اللامعة، نادتني الممثلة الشهيرة سهير البابلي بكل الود من بين كل المشاركين من بلاد مختلفة (تعال.. تعال.. يا ابن النيل) وأفردت ذراعيها وغمرتني بعناق أحسست معه بعمق ودفء العلاقة بين شعبي الوادي.
منذ ذلك الوقت توطنت مصر في ذاكرتي أنها سودان آخر، بلدٌ لا تشعر فيه بغربة الروح والبدن، وإنها ظل الأصيل للسودان الذي هو ظل ضحاها.. ومهما علا غبار السياسة بين البلدين وتبادلا اللوم والشكوى واعتكرت الأجواء بينهما يعود للسماء صفاؤها.
عندما اندلعت الحرب، غادر البعض لدول مختلفة نشكر لها حُسن استقبالها، لكن الكثيرون تدفقوا مع تيار النهر ليقينهم أنهم لن يضاموا في أرض الكنانة وستفتح لهم ذراعيها وستكرم وفادتهم.. كانت مصر عند حُسن الظن بها.. بذلت جهداً لترتيب أوضاعهم رغم بعض العثرات أحياناً في إجراءات الإقامة لكن سعي المعالجة لم يتوقّف والأبواب لم توصد، ولتظل كلمات شاعرنا الكبير تاج السر الحسن حية ونابضة:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة..
يا رياضاً عذبة النبع وريقة
من لا يشكر الناس لا يشكر الله.. لذلك:
شكراَ لكل من وفر لشعبنا ملاذاً ريثما تنفرج كربته..
شكراً لمن قدم لشعبنا عوناً ومساعدة.
وشكراً لمن تضامن معنا في أزمتنا ومحنتنا.
وشكراً خاصّاً لمصر.. أرض الكنانة.
Comments are closed.