خارج الدوام محمد عثمان إبراهيم

الكاتالوغ
في تحليل قوى المشهد الجديد (١)

شارك الخبر

هذه سلسلة من المقالات تهدف بشكل رئيسي إلى تقديم قراءة موضوعية للقوى السياسية والعناصر الرئيسية التي أفرزتها ثورة الـ١٩ من ديسمبر المجيدة، والتي أدت إلى تحقيق شعار المتظاهرين الأساسي (تسقط بس)، والذي كان عارياً ـ كما هي شعارات الثورات عادة ـ من أي محمولات تضيء الطريق التالي لتحقق الهدف الأولي.
أولاً: المجلس العسكري
كان الرئيس السابق عمر البشير حاكماً عسكرياً ماكراً ومحدود المعارف اضطره التنازع المتصل على السلطة مع المعارضة السياسية والمسلحة إلى إبقاء خطوطه دافئة دائماً مع المؤسسات المسلحة من جيش وأمن ودعم سريع ومليشيات حزبية، إضافة إلى عدد من التشكيلات غير الرسمية من القوى المسلحة التي وقعت اتفاقيات سلام مع نظامه.
اكتسب البشير خبرات كبيرة في ممارسة السلطة وتلقى وهو على سدة الرئاسة الكثير من النصائح العارفة بعدم الاعتماد على مؤسسة واحدة تحتكر العنف لئلا تكون حبلاً يطوق عنقه هو نفسه وكان أقل ثقة بمؤسسة الجيش وهي المؤسسة الأقوى والأكبر والأكثر احترافية وخبرة ولذلك حاول خلال عقود بدعم وتخطيط الحركة الإسلامية إضعاف قياداتها بشكل منهجي ومرتب ووفق حزمة من القوانين والتدابير، اعتمد على التقليل من هيبة ردائها الرسمي بالسماح لتشكيلات مدنية كثيرة بلبسه، والتقليل من حضور كبار الجنرالات في الذهن الشعبي بتجاهلهم أو تعيينهم في وظائف متدنية في الخدمة المدنية بعد التقاعد، وتعيين عناصر مدنية برتب عالية، والاعتماد على وزراء دفاع من بطانته المقربة في أغلب فترات حكمه إضافة إلى احتفاظه لفترات طويلة بوظيفة القائد العام. وبغض النظر عن نجاح تلك التدابير من عدمها وهو أمر يحتاج بحثه والتثبت منه إلى دراسات معمقة قد لا يكون من الصالح العام التعاطي بشأنها في الصحف السيارة، فإن القوى العسكرية التي تتصدر المشهد الآن هي الجيش الجديد لجمهورية السودان وإن كان تشكله في صيغة مرضية لجميع الأطراف يحتاج إلى بعض الوقت والتسويات التي نرى نتائجها الآن ولا نرى كيفية التوصل إليها وراء الكواليس. مثلاً الأخبار التي تناولت إعادة تشكيل المؤسسة المخابراتية، وإعادة تسميتها، وسحب الشوكة القوية منها تعتبر خطوة كبيرة في سبيل إعادة تشكيل الجيش، وبالرغم من مطالب المعارضة المتصلة بمثل هذه المراجعات إلا أنها لم تعلق على الأمر بسبب انشغالها بأمور أخرى متعلقة بالسلطة التنفيذية، إضافة إلى غياب المعلومات، وتغييب إسناد الرأي العام المقصود لمثل هذه الترتيبات بواسطة المجلس العسكري.
تعتبر الصيغة الحالية للمجلس العسكري هي الصيغة قبل الأخيرة للمؤسسة العسكرية وتبقت خطوة واحدة لإعادة تشكيله وهو أمر يعمل عليه كبار الجنرالات حالياً في الغرف المغلقة – فيما أزعم – بينما يصنعون مشهداً سياسياً موازياً تتسرى به الجماهير والقوى السياسية المدنية في مفاوضاتها التي تواجه فيها ذات المجلس المسلح بنصائح تمثل خلاصة فكر جيرارد نيرينبيرغ (قرأوه أم لا)، وهو أمر سنعود إليه في كتابة لاحقة عند تحليل (المفاوضات) بين المجلس وقوى الحرية والتغيير.
هناك معلومات رئيسية ينبغي عدم تجاهلها عند قراءة المجلس العسكري (كقوة سياسية) تتصدر المشهد الآن وهي أن جنرالات هذا المجلس (جاءوا ليحكموا) وليصيغوا إطاراً جديداً للعبة ممارسة السلطة في السودان سيتم نقله جاهزاً ومعلباً من مصر ودول الخليج بناء على عدة دوافع ذاتية (بطبيعة الحال) وموضوعية تتأسس على ازدراء الساسة المدنيين، وأفكارهم، وقدراتهم، وهو تصور صنعه المدنيون – في المشهد الحالي – بأنفسهم عن أنفسهم. ليس من الضروري أن يحتفظ الجنرالات ببزاتهم العسكرية حين يكشفون عن رغبتهم في الحكم بل سيكونون – في أكثر الترجيحات – جنرالات ببزات مدنية ستتراوح ما بين البدلة الإفرنجية كما هو الحال في مصر، أو الجلباب والعباءة والعمامة بعد استبدال الغترة والعقال تأسياً بالحكومات العسكرية / المدنية في دول الخليج حيث يتولى الحكم جنرالات تلقوا علومهم العسكرية في أرقى الأكاديميات العالمية، لكنهم لا يحملون ألقاباً عسكرية، ويحافظون على مظهر مدنية الدولة، وقد نجحوا نجاحاً كبيراً في تحقيق شعبية واسعة في بلدانهم عبر التطوير الاقتصادي وتوزيع الثروات ودمج مؤسسات الحكم العسكري في الحواضن الشعبية.
إن التفاوض الأهم حالياً في المشهد السياسي هو ما يدور بين جنرالات المجلس العسكري لإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية على نسق جديد يستوعب قواها التقليدية الموروثة من الاستعمار وقواها الجديدة الناتجة عن الحرب الأهلية (نماذج إثيوبيا، إرتريا، تشاد، جنوب السودان، يوغندا، رواندا كأمثلة) ومساهمة هذه القوى في حماية العمود الفقري للدولة، وهو أمر لا يتم عادة دون مقابل، وبعدئذ سيطرح الأمر للرأي العام للمباركة فقط وهي مباركة لن يكون سواها خيارات كثيرة في ظل انشغال القوى المدنية بالهتاف عن التفكير.
نواصل..

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.