حاطب ليل ||د.عبداللطيف البوني

يوم الدُّمُوع والمطر

شارك الخبر

(1)
سُبحان الله الذي جَمع في السُّودان في اليَومين الفائتين بين زَخّات المطر (الليلي العم الضهاري) وأنهار من الدموع انهمرت بسبب حَدَثٍ سِياسي، فَقَد صَادَفَ الثاني من أغسطس بداية عينة الطرفة البكّاية على حسب تقسيمنا في السُّودان لمنازل الخريف، وتزامن هذا مع الانتهاء من الوثيقة الدستورية وهي آخر وثائق الفترة الانتقالية، وفي يوم التوقيع على الوثيقة بالأَحرف الأولى في نَهار الأَحد الرّابع من أغسطس انهمرت دُمُوع المُوقِّعين والشُّهود والجَماهير وقد نَقَلت لنا الكَاميرات دُمُوع عُمر الدقير وساطع الحاج وأحمد ربيع وخالد عمر وإسماعيل درير، وكثير من الجماهير المُحتشدة وفِي مَساء ذات اليوم تَرَاكَمت السُّحب في مُعظم أرجاء السُّودان وظلّت تَهطل طِوال الليل (سَارية تبقبق للصباح ما انفشت) على قول الحاردلو.
لقد تَزَامَنت دُمُوع الحُب والإخلاص والهِيَام بهذا الوَطن مع أمطار الخير والبَركة النمو، وكأني بفجرٍ جديدٍ قد أَطَلّ على السُّودان، فجر واعد يَلُوح بالأماني والبشائر.
(2)
حُبِّي وإعجابي بأشعار الرّاحِل المُقيم عثمان خالد لا حُدُودَ لهما، فعُثمان أَثرَى المَكتبة الغنائية السُّودانيَّة بأغنياتٍ آسرةٍ، ولَعَلّ أشهرها: إلى مُسافرة التي لَحّنها وغَنّاها الفنان حمد الريح (يا قلبي المكتول كمد – أكتب حروف – هَات غنوة لسيد البلد –يا حليلو – يا حليلو قال سايب البلد).. لَقد ذَرَفَ الشاعر في هذه الأغنية دمعاً ثخيناً وهو دَمعٌ مُستحقٌ لِعزيزٍ مُغادرٍ، بيد أنّه كابر وأفسده بـ(الضكرنة) السُّوداناوية عندما قال ( دموع رجال – بتهد جبال – هدارة زي رعد المطر – يا حليلو.. يا حليلو).. كم تَمنّيت لو لم يُصنّف شاعرنا المجيد الدموع إلى دُمُوع رجال ودُمُوع غير الرجال..!
فالدموع في تقديري تَعبيرٌ جَسديٌّ إنسانيٌّ، بل يمثل قِمّة الإنسانية تَفرضه ظُرُوفٌ مُعيّنةٌ تجعل الوجدان هي التي تُعبّر، ولا فرق بين هذه الدمع تبعاً للجنس والنوع، فالدُّموع هي الدُّموع كَانَت لِفُراقٍ أو لحُبٍ أو لفرحٍ أو لكرهٍ، فالذين بكوا سَاعة التوقيع على الوثيقة الدستورية والذين بَكوا فَرحاً بها، لأنّهَا ابتدرت عَهداً جَديداً لن تُقلِّل هذه الدموع من رجالتهم، لا يَحتاجون لوصفها بدموع رجال وقد زَادتهم في أعيننا إنسانيةً وجلالاً ومَهَابةً واحتراماً، لأنّها كَشَفَت لنا مَكَانَة هذا البلد في وجدانهم.
(3)
تَحَفُّظنا أعلاه على (دموع رجال) لا يمنعنا من الإعجاب بربط الشاعر بين الدموع والمطر في قوله (هدارة زي رعد المطر) رغم أنّ في هدارة والرعد إمعاناً في الرجالة، ولكن مُجرّد ذكره للمطر جعل التشبيه مُوفّقاً، فالمطر هو الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ…) الآية.
والمطر عِندَ المُنتجين والاقتصاديين هو النماء والتّقدُّم والازدهار، وعِندَ الشعراء قِمّة الرُّومانسية (تلقاها أم خديد الليلة مَرَقت بَرّه).. وقَد جَمَعَ الحاردلو في المطر بين الخُصُوبة والنماء (هاج فحل أُم صرير والمنائح بشّت – وبت أم ساق على طرف الفريق اِتعشّت) يا الله يا الله.. يا مُتنبي السودان.. فقد كان الأحد نهار التّوقيع بالأحرف الأولى على الوثيقة الدستورية وانهمار الدموع الإنسانية من قادة تلك اللحظة السِّياسيَّة ثُمّ المساء الذي أعقب ذلك النهار، وليلة الاثنين التي أعقبت ذلك المَساء، حَيث انهمرت أمطار الخير والبركة هذه الأربعة وعشرين كانت نسمة في هجير الحياة السودانية.. كانت أملاً وحُلُماً.. فاللهم اجعله خيراً.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.