نور ونار مهدي إبراهيم أحمد

ولا ينبئك مثل خبير

شارك الخبر

دائماً أجد في التاريخ ما يعينني على استشراف المُستقبل، اقرأ دائماً في أحوال الأمم والشعوب، أربط الماضي بالحاضر، وأرى من التشابُه والقياس والمُقارنة ما يغنيني عن التفكُّر العَميق، والتأمُّل الطويل، أرى أنّ التاريخ دائماً ما يعيد نفسه بأحوال أهله، تتشابه البدايات والنهايات الوشيكة، يبدو القياس مُمكناً ونحن نقحمه على السمات العامة إن كان للدولة أو أفرادها، لا أرى شيئاً يبدو مُختلفاً البتّة، البدايات دائماً ما تكون محشودة بمفردات من التفاؤل والترحاب، كما الأواسط فذاك من الكمال الذي ليس بعده إلا النقص، ثم تبدو النهايات التي تَختلف باختلاف طبائع النفوس ومكنونات القلوب، إنّي أحدث عن واقع الدول وتوالي الشعوب، تماماً كما شبه شاعر جاهلي الحرب:
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى ما اشتد ضراماً ولّت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيّرت مكروهة للشم والتقبيل
إنّي أقلب في تاريخنا الماثل لدول كانت مَدّ السمع والبصر، يحكي عن أربابها بشئٍ من الأساطير، حكموا بلادهم بالشدة والقوة الغَليظة، استسلمت لهم شُعُوبهم فأذاقوهم الأمرين، استيأس محكوموهم من مُجابهتهم فخلصوا للنجوى والاحتجاج الصامت، تقادمت عليهم الأيام والسنون، شابوا على عُهُودهم وشاب معهم أولئك، فما تبدّلوا ولا زادهم التقادُم إلا تشبثاً بكراسي السلطة، تحوّل التّذمُّر الصامت تجاههم إلى غُبنٍ صَريحٍ، واحتجاجٍ سَافرٍ، أعان أولئك من حولهم عليهم فمالوا عليهم، لكن نهاياتهم كانت مُثيرةً للشفقة، باعثة على التأمُّل، وإن تفاوتت آجالهم ما بين القتل والتشريد والسجن الطويل، الواقع الحديث أضحى نهباً لسياسة الأقطاب، التي لا يجرؤ سلطانٌ أو حاكمٌ على التغريد خارجها، فقد أحاطوا جل السلاطين والرؤساء بما يكبح جماح صولجانهم وشَبِّهم عن طَوق التبعية، ملكوا كل شَئٍ بِمَا يعينهم على قُوتهم الضاربة، ورؤيتهم لما يرسمون ويصيغون به الكون، السعيد من أولئك من تقرب إليهم وكسب رضاءهم ولو كان مجانباً لما ألزم به نفسه في الموقف والمبدأ، والشقي منهم من تمرّد أو حاول أن يناوئهم أو يُندِّد بسياستهم الباطشة وموازينهم المعطوبة، هنالك تتنوّع الحروب في مُواجهته والقضاء عليه، حينها ينقلب الشقيق، ويتباعد الصديق، وتفتقر إلى السند الحقيقي الذي يعصمك من أولئك، وإلا كُنت في مُواجهة شعبك، هم لن يستعجلوا قطف الثمرة، ولن يَرهقهم الانتظار، بل لَهم من الصّبر الطَويل ما يُوقعون به خُصُومهم، ويجندلون به عدوّهم، يقيناً لن يفلت أحدٌ من تلك القبضة ولو نسب لنفسه فلاحاً في السياسة والكياسة، ولا أحدٌ يظن أنه سينجو منهم إلا أن تداركه رحمة من ربه، وأبصر من نفسه ما يعينه مع شعبه على تَجَاوُز الحال وتجنُّب العواقب والمآل.
سَقَطَ مَن سَقَطَ تحت سنابك وصايتهم، ومن ينتظر فهو مُسَاقٌ إلى ما ينتظره من مُدلهمات الأمور، أكاد أجزم أنّ عهد ملوك الطوائف قد أعاد دوران أيّامه، وأنّ السيناريوهات في التاريخ أضحت إلى التكرار أقرب، سياسة الأقطاب وهوان الدول الضعيفة، التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بالتضييق على شُعوبها، الجزية مُرهقة، وثمن البقاء على كراسي الحكم باهظٌ، فمن ينشد البقاء كشارب الخمر لا ينتشي منها صاحبه إلا بمقدار ما تغيب عقله، الحاكم في زماننا يغتر بأنّه يحكم ولكنه محكوم وإن كان حاكماً، استحدثت عليه العقوبات، فإن نجا من مقاصل الحكم، فلن ينجو من مقاصل التقادُم في سني عهده، هُنالك من التُّهم من لا تَسقط عن الرئيس والحَاكم، فالمَحكمة له بالمِرصاد تُراقب سِجِل الإنسان وحُقُوقه، تكون عليه وصية بحماية تلك الحُقُوق، أضحت تلك المحاكم سُيُوفاً مُسَلّطة على أولئك الجوقة من الحُكّام، تُحاسبهم عسيراً، وتحكم عليهم صريحاً على ضوء شهادتهم سواء بالإدانة والبراءة.
الشعوب تَطمح إلى الرفاهية الغائبة والعيش الرّغيد، يثورون ضد حُكّامهم طلباً لها، ويرون فيهم كل منقصة أقعدت بالبلاد وإحالتها إلى الهشيم البوار، ينسبون إليهم ضياعها وفُقدانها للموقف والقرار، للانطلاق والتّطوُّر، ولا يدركون أنّ أولئك يُعانون ضَغطاً كَبيراً، ويبذلون جُهداً مُضاعفاً، خَاصّةً إذا كانت تلك الدولة خارج نطاق المنظومة، محكوم عليها بالعزلة والعقوبة – تجاهد من تلقاء نفسها اجتهاداً لأجل سُلطانٍ يدوم، وسطوةٍ تستمر، وحياة تعود إلى طبيعتها، لكنهم لا يَملكون لأنفسهم حلاً إلا انتظاراً لمُعجزة، أو نهوض من تلقائهم، تجدهم أقرب إلى الاستجابة للعوام في تغيير الوزارة وتعاقُبها طمعاً في إزالة احتقانٍ عامٍ أو مُحاولة اكتساب رضاءٍ مفقود، يُديرون تلك الأزمات بما يَبعد عنهم شبح الثورة منهم وخروج الناس عليهم، من يرى ذلك يدرك أنّ تلك الدولة قد أوشكت أو كادت شمسها على الزوال، تقضي في آخر أيّامها، تلفظ في أنفاسها، وإن صوّرت للناس عَلَى سَيطرتها الفائقة وقُدرتها على الخُرُوج من عُنق الزجاجة، تجتاحها حُمى الأسواق وتَعَدُّد الأتاوات، وفرض المُكُوث والجبايات لخلو خزانتها بما يمكنهم من الولوج إلى أسواق المنظومة في التّعامُل والتّبادُل التجاري، تكثر بها الفتن والمُؤامرات، لا يهنأ كبار قادتها، فما بينهم لا يجعل النوم يتسلّل إلى عيونهم، فهم في شغلٍ شاغلٍ لأجل تثبيت موقفٍ ومَركزٍ مُهدّد، أو إبعاد شبهة، أو ترافع على خطأ قاتل، وعثرة لا تُقال، أو تجنباً، أو ربما استعان بَعضهم بِمَا يَعتقد أنه حفظاً لنفسه بمُكاتبة أصحاب المَصلَحة مِن خارج الدّولة، فتتّسع دَائرة المُؤامرة، وتضيع الثقة، ثُمّ لا نلبث غير يسيرٍ إلا ويضيع عرش السلطة، وتتهاوى أعمدته، ويَسقط أهله، ليكون سفراً في تاريخ الأيام يحكم عليه الناس يوماً بما له وما عليه.
كاتب صحفي سوداني

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.