حاطب ليل || د.عبداللطيف البوني

عَـودة الـرُّوح

شارك الخبر

(1)
كانت لليالي الخميس مَكانة خَاصّة في ثقافة الأفندية السودانيين، حيث التحلُّل من عناء الأسبوع وأخذ فاصلةٍ قبل أن يدخل الأسبوع الجديد، وقبل الأفندية كانت ومازالت الصوفية تتّخذ من مساء الخميس ليلةً للذكر والمديح النبوي، لذلك كانت المقولة (الخميس صفقة ورقيص, للفُقرا والمطاميس)، الفُقرا هم أهل الذكر، أمّا المطاميس جمع مطموس فهم الجماعة المساهرون وكلّهم يُصفِّق ويرقص ولكن على إيقاعٍ مُختلفٍ..!
أمّا أمسية الخميس الأخيرة, الخامس من سبتمبر الجاري، جاءت مُختلفة، حيث التفّ الفُقرا والمطاميس حول التلفاز لمُشاهدة وسماع رئيس الوزراء وهو يُعلن تشكيل حكومته الجديدة، التي سوف يَخُوض بها الفترة الانتقالية، فإن كانت ليلة الخميس العادية فاصلةً بين أسبوعين، فليلة الخميس الأخيرة فاصلة بين عهدين..!
(2)
لم يسرف حمدوك في ذم العهد الذي مَضَى على أساس أنه أصبح جُزءاً من الماضي، كما لم يسرف في الوعد بغدٍ أفضل على أساس أنّ الطريق ليس مُعبّداً أمامه، فالكل يعلم ثُقل الموروث، والكل يعلم عَظَمة التّحدي، ولكن القراءة بين السطور تقول إنّ الرجل مُستعدٌ لخوض التّجربة كراس حربة وليس سوبر مان..!
المُهم أنّ حمدوك استطاع بكلمته الموزونة التي قدّم بها حكومته، وبإجاباته الذكية على الأسئلة بعد التقديم، أن يملأ البلاد بطولها وعرضها بالتفاؤل، واستطاع أن يشيع الإحساس بأنّ البلاد مقدمة على أيّامٍ أجمل من تلك التي مَضَت.. لقد بدا لي أن أبلغ ما في خطاب حمدوك أنّه مَرّ (بنمرة أربعة) على الفترة من 11 أبريل إلى الخامس من سبتمبر، أي الفترة التي بين سُقُوط البشير وإعلان الحكومة الجديدة، فهذه الفترة الضبابية لا يُمكن اعتبارها امتداداً لنظام البشير، ولا يُمكن أن نحسبها على حمدوك، فالبشير لا صلة بالحكم بعد 11 أبريل، وحمدوك لا صلة بالحكم قبل أدائه القَسَم وتشكيل حكومته، ولكن في قوله ان وجد مجلس السيادة في حالة تناغُم بين شقّيه العَسكري والمَدني يكون قد أصدر حُكماً إيجابياً عَلى ثَمرةٍ من ثمرات هذه الفترة.
(3)
إن صح زعمنا بأنّ رُوح التّفاؤل قَد عمّت كل أرض السودان الفضل، سيكون هذا شيئاً جديداً وإيجابياً يستحق التوقُّف والاحتفاء.. لقد كان هناك تفاؤلٌ محدودٌ بيوم الاستقلال، وساد تفاؤلٌ بعد أكتوبر 1964، وقد حدث تفاؤلٌ بعد أبريل 1985، وسعد بعض الناس بالمارشات العسكرية في نوفمبر 1958 ومايو 1969 ويونيو 1989م، كل هذا علّم الناس الحَذر والاقتصاد في التفاؤل مهما كان شكل القادم، وَلَعَلّ هذا ما حَدَثَ للبعض في ليلة الخميس الأخيرة.. ولكن في تقديري أنّ الأغلبية قَد تَفَاءلت دُون تَحفُّظٍ يُذكر وهذا يشي بأنّ رُوحاً مَعنوية مُرتفعة وجديدة قد سَرَت في أرض السُّودان، فإن كان ذلك كذلك فإنّه فتحٌ كبيرٌ يستحق زغرودة من (البنوت) وتبشير من (الجنوي)، فتغيُّر الروح المعنوية مقدمة ضرورية لتغيير النفوس، وتغيُّر النفوس هو المُتحكِّم في عمل الجوارح، وعمل الجوارح هو المَخرج لأهل البلاد مِمّا هم فيه من وهدةٍ، شريطة وجود الدماغ الذي يتحكّم في تشكيل الأهداف والغايات.
ولحدِّ هنا، يُمكننا أن نُبارك لشعب السودان المرحلة الجديدة قبل ما (نشوف آخرتا).. وغداً إن شاء الله نستشرف آخرتا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.