د: الخضر هارون

لوحات قلمية! (5)
مرثية بمذاق السلوان!!

شارك الخبر

قال: كان عمي العباس عالماً موسوعياً لا تكاد تسأله عن شئٍ إلا أجاب فأفاض وأوفى لك الكيل وتَصَدّقَ عليك من صُنُوف المعارف وألوان الفنون بما لا يخطر لك على بَالٍ. كان سمحاً ذا دعابة وأحياناً سخرية محببة وقد أطال الله في عُمره حتى قارب المائة ببصرٍ حديدٍ وذاكرة من الفولاذ! قال لي مرة لا تشبِّه ذاكرتي بالفولاذ لأنّه عنوان القسوة وأنا أمقت القُساة من الناس الذين خلقهم الله بشراً أسوياء فاختاروا مُشاكلة الجماد الأصم من المخلوقات، فهم أشد خطراً من الجمادات والآكام، فالآكام صلدة صلبة لا تُخطئ ذلك عَينٌ مُبصرة، لكن أولئك يبدون في لطف النسيم وبراءة العصافير وقلوبهم أقسى من القسوة! فحاذر رعاك الله من مُخالطتهم. هكذا قال. ثم قال، قل إنّ ذاكرة عمي قوية قوة الروح, فالروح لطيفة لا ترى بالعين، وشفيفة لا تُمس بالحواس ومع ذلك فهي قوية لا تُفنى بعد فناء الجسد، بل تنطلق إلى بلاد الأفراح وقد تحلّلت من ثقل الطين ورهج التُّراب, تسبح في الأثير بلا عناءٍ كما تسبح الحيتان في لجج البحار والمُحيطات, تلتحق بالملأ الروحاني الذي خرجت من مُشكاته ابتداءً إن لم نتنكّب الطريق!
زُرته كعادتي وقد تعافى من غَيبوبة بدأت تعتريه في أخريات أيّامِهِ، وقد تَطاولت في المَرّة الأخيرة أسبوعاً كاملاً حتى ظنّنا أنّها النهاية التي تعتري كل حي. وجدته مُنشرحاً كعادته يحتسي الشاي ويرنو بعينيه الغائرتين في الأُفق البعيد المُمتد بلا نهايةٍ كأنّه يستكشف السُّبل إلى العالم السّرمد, عالم الخلود الذي لا بُدّ أنّه قد أحسّ بدُنُوهِ فبدأ التأهُّب للرحيل إليه. هشّ في وجهي مُرحِّباً وضَحِكَ ببقايا أسنان مُتناثرة في فِيهِ وأجلسني إلى جواره قائلاً: بكيت عليّ في غيبوبتي ظناً بأنّها الأخيرة؟ قلت باقتضابٍ مَن لا يُريد أن يمتن على الشيخ بدموع ذرفتها بالفعل وبفيضٍ من المشاعر أنفقته من رحيق مَشاعري, ذلك لأنّ أضعاف ما بذلت وذرفت لا يُضن به على من مثله، سيما وقد أحاطني بالعطف وأنا يافعٌ يتيمٌ وبالرعاية والتعليم في صباي، ثُمّ زوّجني بمن أحببت، وظل يفتح عليّ مغاليق ما استعصى من العلوم والمعارف حتى غدا لي كالأب والمُعلِّم والصديق الوفي: نعم! قال يغيّب سروره في غمار الأمثال والحكم كما ظل يفعل على الدوام يُداري بها سُرُوره وغضبه معاً: يا عيب الشؤم! أويبكي الرجال؟ ثم خنقته العبرات فبكى حتى أسال الدمع من عينيه وحتى أشفقت عليه. فبادر يستجمع ثباته رابتاً على كتفي: حلاوة الدنيا كلها في صحبة الأوفياء من أمثالكم. تعرف أنّي قاربت المائة ولم أسأم سأم لبيد. ثُمّ قال كالآمر يختبر حفظي قل ماذا قال ذلك الحكيم الضجِر؟
قلت قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد!
وزدته, كأنّي أطمئنه على حُسن حفظي, وقال بن أبي سُلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسئم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم
قال دعك مِمّا قال في البيت الثاني فما خبرت الأمور إلا مقدرة تجري بحكم وتدابير نعلم بعضها ونجهل جلها ولشاعر السلام في عصور الفوضى والجهل والقتل, العُذر فَقَد غادر الفانية وفم الزمان لم يفتر بالتبسُّم والكائنات لم يبدّد ظلامها الضياء بعد، وقد أدخل (دانتي) نظراء له في جنته تلك وزهير أهل للتكرمة والإجلال بموازين العدل في كل عصر ومصر.
قلت ربما كانت صحبة الأوفياء من محاسن الخصال في الدنيا، لكنك رجل تقلّدت المَنَاصب لعُقُودٍ، فقد كُنت نائباً برلمانياً مُشاكساً ووزيراً لأكثر من مرة وكانت لك خُصُومات ومعارك مشهودة ألا يخلف ذلك في النفس الكثير من الحَسَرَات والمَرَارات التي تذهب بحلاوة المحاسن وتورث النفس الإملال وكره الحياة ومحبة الفناء؟ ألا ترى أنّ مذاق الحسرات والمرارات ربما هو الذي دفع رجلاً ضخماً مثل صاحب المعرة إلى الحيرة والتعجُّب من تشبثنا بحياة قل فيها الوفاء واستشرى في عرصاتها الغدر وانحسر في سُوحِهَا الخير حين قال:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
قال نعم تفعل ذلك المرارات لمن أعد كشفاً يُعدِّد فيه المكاسب والخسارات جَرّاء ما صنع من أفعالٍ في حياته كالتاجر الحاذق يفعل ذلك نهاية كل عام التماساً لخُطط أمثل للعام التالي تغدق عليه من الأرباح والمَغَانِم أكثر من التي سلفت يتحاشى ما وقع فيه من الأخطاء والخطايا, صُنع الناس في الفعل المادي. أمّا الحَياة الحَقّة التي تُليق بالإنسان فهي لا تحتمل مثل ذاك الجرد السنوي، حيث يتمنّى الحي مثلاً لو أنّه داهن هنا واستكان هناك مُتوخِّياً المنافع بكل وسيلةٍ على حساب مَا يَعتقد أنّه الصواب, أمّا أنا يا بني فما أقتنيت كشفاً في حياتي كلها: لم أكن أحفل باحتشاد حولي لغنى طارئ أصابني ثم تبدّدَ، ولا بجاه تيسّر لي وهو ما ذكرته أنت آنفاً، ولا بصيت حسن حُظيت به جرّاء قصائد من الشعر جادت بها القريحة في سوانح من الصفاء صادفت قُبُولاً عند بعض الناس. كان ذلك الاحتشاد يزول بزوال أسبابه فوطّنت النفس ألا تأسى عليه. كُنت دَوماً خفيفاً لا أحمل أثقالاً تكبِّلني وتلجم لساني ويُراعي تحول بيني وبين الصدع بما أراه صواباً يتحقّق به الخير للناس أجمعين، حيث لا أخسر شيئاً. وكان بعض الخُلّص من الأوفياء يشفقون عليّ ويُحذِّرونني من عواقب ما أفعل بنفسي من إثارة دوائر الشر عليّ فأتمثل بأبيات الجواهري رحمه الله:
بماذا يخوفني الأرذلون؟ ومِمّ تخاف ِصلال الفلا
أيسلب عنها نعيم الهجير ونفح الرياح وبذخ العرا
فليس لي من حطام الدنيا ما أخشى عليه تماماً مثل الزواحف البرية تعيش شظف العيش في هجير الصّحراء عارية تتلقّى حَرّ السّمُوم ونفح الهبوب، ومِع ذلك لا أزعم أنّي لم أحبط من بعض مِمّن ظننت فيهم خيراً لم أجده وأحسنت الظن فيهم فلم يكونوا أهلاً له لكنها كدمات سُرعان ما اندملت ودروس لطالما أعانتني على السعي لفعل الخيرات دُون انتظار المكافآت عليها، فبت كما الناس جميعاً أسعد بالعرفان وأشفق عَلَى مَن ابتلاهم الله بلؤم الجُحُود وسُوء الطوية وخصلة النكران وأرجو لهم العافية من تلك الخِصَال لأنّهم مَحرومون من نعمة السعادة بخِصَال الخير دُون أن يصرفني ذلك عن المُداومة على الفعل الحسن.
قُلت مُستنكراً كأنّك تعيش في عالم غير عالمنا! قال بحزم كلا. أنت مُحبط يا بني تظن أنّ الشر قد أمسك بخناق الحياة، وأن الجُحُود والنكران سِمّةٌ جديدةٌ طارئة، وأن الخير فيمن سبقونا كان أكثر. أرجع إلى محفوظاتك من أشعار المُتنبي وغيره من حكماء العرب، وقد عاشوا قبلنا بألف عامٍ وأحسن ما تَستشهد به اليوم تصف به وتشكو التنكُّر والخُذلان وتدلّل به على خراب الدنيا وفساد الناس, إنّما هو من أشعارهم وحكمهم فهم يلقون باللائمة على زمانهم كما نفعل نحن اليوم. فالناس هم الناس الخير فيهم مَطبوعٌ للحفاظ على النوع واستدامة الحياة لكنه قليلٌ.. قليل بحاجة دوماً للسقاية والرعاية فهو في قلة الأوكسجين الذي لا تستقيم الحياة بدونه ومع ذلك فهو يُشكِّل خُمس الهواء لا غير. وقد سعدت بوفائك أنت لي وبوفاء أعزاء صادقتهم في شبابي وكُهُولتي لم يُبدِّل ودّهم لي غنى طرأ عليّ ولا فاقة ابتلاني الله بها، بل ظلوا يبذلون الود لي كاملاً غير منقوصٍ على كلِّ حالٍ. شاركتهم السكنى وكنا لفيفاً من كل بقاع السودان. أربعة كُنت واحداً منهم كنا في عدد أقطاب الصوفية نُدير السكن. كنا والله نعود ليلاً فلا نجد أسِرّة ننام عليها من كثرة ما كان يغشانا من الضيفان وطلاب العلم فننام على الحصير ونروح في النهار بعد الغدو فنجد أُناساً لا نعرفهم يتوسّطون ساحة منزلنا يغسلون ثيابهم أو يكوونها فلا نرتاب في قادم، وكان يسعدنا السعادة جميعاً أن نكون واحة يفد إليها الناس يحسنون بنا الظن. قال وقد سدّت حلقه العبرات والله ما تخاصمنا يوماً من الأيام على شئٍ من لعاعات الدنيا، ولا جلسنا نشتجر ونتحاسب على درهمٍ أو دينارٍ. كُنّا نَتَحَسّر على قصر الليل صيفاً وشتاءً ذلك أنّه لا يطول كما نشتهي فتبلغ نفوسنا حدّ الكفاية من لذة الأنس البرئ المُفيد.. فأجسادنا المنهكة من طُول السعي والطلب كانت أضعف من أن تقوى على هجمة الكرى يقتحم عيوننا عُنوةً فننام وفي أفواهنا أشياء عديدة من حَتّى. كان ذلك أكثر ما يزعج “الحاج” الذي كان تاجراً يملك وقته فيأتي بيقظةٍ وحماسةٍ من يحمل الأخبار و”بحوادث” سليم اللوزي من السوق وقد أحاطت بالبلاد والمنطقة يومها الأحداث والخطوب, كما هي اليوم, لا يُواتيه النوم يروم سردها جميعاً على مسامعنا, لكن ينام القوم ولما يكتمل سرده للحكايات والأقاصيص! أووه.. أووه.. يا لها من أيّامٍ! ثُمّ فَرّقت مظان العيش بأجسادنا فَنَأت بنا الديار وباعدت الأيام بين أسفارنا، فوالله ما افترقت أرواحنا قط. لذا, أعلم يا ابن أخي أنّي عندما حدثتك عن أنّ صحبة الأوفياء هي الزاد الذي صحبني إلى هذه المرحلة من العُمر وحَبّبَ إليّ الحياة، فإنِّي فلا أحدثك عَن فَراغٍ. والآن وقد سبقني جل أولئك إلى دَارَ البقاء فإنّي أتربّص في شَوقٍ إلى اللحاق بهم.
وكان أن نعاه الناعي فجر اليوم التالي فقد رحل في هُدُوءٍ وهو غَارِقٌ في النوم.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.