لوحات قلمية 
(البلد)

الخضر هارون


قال: اصطفوا على الشاطئ الأخضر المُطرّز برمالٍ حمراء زاحفةٍ من صحارى العتمور، أبت إلا أن تُعانق النيل عِناقاً يهب موات الصحراء أملاً في امتداد العُمر وبحبوحة العيش ورغده.
وتحذيراً للماء مصدر الحياة جميعاً بأنّ دوام الحال من المحال، وأنّ الأجل وإن طال صائر إلى فناءٍ وزوالٍ.
نعم اصطفوا حاج بشير، وجبارة النجار، والعمة بقيعة، وخالتي الشاتي وبت الجدي وابنها (العذير) خلف الله. هؤلاء ذكرتهم بالاسم وتعرّفت عليهم لأنّهم بقية من أعرف من الأحياء حين غادرت هذا المكان قبل نيف وأربعين عاماً. أما بقية المُصطفين فشباب وشابات من أهلي خلقوا بعد أن أوغلت التسفار في أرض الله الواسعة.
غشيتهم حداثة في الملبس والمنطق فخالط إمالتهم بعض نفَس ونطق الحواضر وحصائد الأقنية المسموعة والمَرئية، وكَانَ ذلك على أيّامنا مِمّا يُعاب على من أصبح من (ناس السِّكِّي) أي من ارتحل إلى الحواضر والبنادر وهو بالغ عاقل قد استقام عوده:
(فلان قالب حسو!) أي تنكّر للغة القوم واستبدلها بلغات البندر دُونما حاجةٍ إلى ذلك، فيصبح بذلك مادة للتندُّر والاستهزاء. وتلك آلية دفاعية تُحافظ بها المُجتمعات على لغاتها ولهجاتها!
اختلجت في حُلُوق بعضهم العبرات وهم يُعانقونني بمَعزّةٍ ودفءٍ أحسست بالدموع الصامتة تَسِيلُ على عاتقي. شد جبارة النجار، على يدي بقوةٍ وهو يُغالب البكاء. فعاجلته مُمازحاً حتى يجتاز تلك اللحظة:
”تبارك الله ما زلت قوياً يا عم جبارة”!
كان في صباه قد صارع التمساح الذي قَضَم إبهامه لكنّه ظلّ يُعاركه حتى جاء الرجال بالفؤوس والعصي فولى الوحش هارباً. مسح دموعه بطرف (الشال) المُطرّز الذي كان على رأسه وكتفيه وضحك ببقايا أسنان تَنَاثَرت في فِيهِ الواسع وقال وهو يتصنّع الضحك:
”الحمد لله لكن الشوف طَشَاش”.
قلت: لكنك عرفتني.
قال “إيه… قادر الله ضبحت التور لي سمايتك بي إيدي دي”…
كان جدي ميسور الحال له أطيان ونحو عشرين بقرة وثلاثين من الأغنام. ذبح ثوراً يوم عقيقتي فقد كنت الحفيد الذكر الأول بين أحفاده. قالت عمتي البقيع إنّها وإخوانها كانوا مُبطرين لا يتعشّون إلا برقائق القمح بالحليب والسكر. أما (الروب) فكان شراب العجول. وقالت عمّتي زينب تغايظ سيدة سخرت من طول أصابعها أنّ سبب ذلك الطول هو جمع الفرصة (القشطة) من اللبن المخضوض لصناعة السمن! تفاخر بغنى أبيها.
جاء دور النسوة قريباتي لتحيتي فعانقنني وضمّمني إلى صدورهن في لهفةٍ وحنانٍ مثلما كُنّ يفعلن وأنا صبي حدث كأنّني لم أزل ذلك الولد الذي دنياه كانت هاهُنا. وارتفعت أصواتهن بالبكاء كالثاكلات تماماً فبكيت لبكائهن وكانت عبارة خالتي الشاتي التي جعلتها فواصل لبكائها الطويل “وا..  ود بطني”! 
تفعل فعل المهماز في نفسي وتُحرِّك كل بواعث الأحزان الدفينة في دواخلي التي تَكَسّرت عليها النصال من قديم. هذه بقية من أجيالٍ خيِّرةٍ يُوشك أن يَطويها المَوت بكيتها في قلب ذلك البكاء.
تفرّست الوجوه مَلِيّاً فوجدت فيها الذي أبكاه الحنين على أيّامٍ خلت كُنت أنا وعشيرتي طرفاً فيها وصحبة غيّبها الموت، وآمال عراض لمن كانوا أقراناً لي تبدّدت. رأيت مجيئي يشعل الزناد في لواعج الذكرى الحبيبة والحنين في عمّنا حاج بشير الذي كان الصديق الصدوق لأبي رحمه الله نشأوا معاً في ربوع البلد، عاموا في النيل مَعاً غرقوا مع غيرهم وأنقذوهم معاً، وتلقوا القرآن والفقه والحساب في خلوة جدي معاً وشرّكوا للطير معاً وتسلّلوا ليلاً خلسةً على الحمير يغشون حفلات الأعراس ويكشفون ظُهُورهم للبُطان يلتمسون إعجاب الحَسَنَاوات ويَبحَثُون بينهن عن رفيقة الدرب, أم العيال. وارتحلا معاً إلى بورتسودان حيث أقاما تجارةً ناجحةً معاً، لكن عمر أبى كان قصيراً فكره الرجل بموته الباكر بورتسودان وعاد ليُدير دكاناً صغيراً في البلد.
أمثال حاج بشير في البرية من الأوفياء أهل الصدق والمروءة؛ قليل. فكما قال أبو الطيب:
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلَقٌ
ينسَى الذي يولي وعافٍ يندَم
 كان حاج بشير يطيل النظر إلىّ فأنَا نُسخةٌ مُكرّرةٌ من أبي, فيعلو صوته بالبكاء. وكان بين الحضور شامتون أيضاً في الرجل الشيخ الذي هو أنَا، ويعجبون كيف وقد مكث في أوروبا دَهراً ثُمّ عاد يحمل فقط عصًى على عاتقه بلا ثروة ولا ولد! كأنّهم يخشون مصيراً مُشابهاً لمن دفعوا بهم من الأبناء إلى الغُربة طَمعاً في عيشٍ رغيدٍ وما علموا أنّي إنّما جئت زائراً للبلد لا مُقيماً فيها، فقد كبرت على الفطام فَضْلاً عن كونها لم تعد هي البلد التي تركت عامرة بأهلها وأسواقها وبساتينها.
بلدتنا كانت تُسمى (كوع الجنة) لفرط خُضرتها وبهائها وما فيها من الخير العميم. تآمرت عليها صحراء العتمور القاحلة رمز القحط والفناء. وعدوان الصحراء على الأحياء ليس بمُستغربٍ منها، فهو قديمٌ قدم الإنسان على الأرض ولا الغدر والخداع منها ببعيدٍ. ترى كم التقمت وُحُوشها من البشر على مَرّ الأزمان وكم أهلك من الخلق ضنُّها بالماء على المُسافرين عبر آكامها؟! الله وحده العليم. ألم يرد في التنزيل: (..كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..). ذلك لا يكون إلا في الصحراء، وإنّما الغريب أن يكون النيل رمز الحياة والنماء وامتداد العُمران حَيث قامت على ضفتيه حضارة النوبة والمصريين, يدها التي تبطش بها فلطالما زمجر هذا النيل الذي تَسبغون عليه من صفات الرحمة والحَنو ما تَنُوء بحملِه المُجلدات الثقال. في عتمة الليل البهيم يُحاكي النيل صولة الأسد هُجُوماً كَاسحاً على الأطيان والتُّمور وحَدَائق البُرتقال والمَنقّة الوادعة الآمنة في حماه المُخضّرة مِن سُقيا شَرايينه فَيقتلعها في قَسوةٍ حَاقدةٍ كأنّها ما شربت من ريّه ومَا أثمرت مِن عَطاياه بعد أن جرف أرضها وهو ما أحسن الأهالي وصفه بالهدام! والهدم نقيض البناء.
كم كان مُحزناً رؤية (السبيقة) ذات الخمس نخلات تُجتث من جُذُورها وتغيب في لمح البصر بعيداً في عرض النهر الغاضب الذي يبدو لك كالمُنتقم الآخذ بثأرٍ.
كم كان مُؤثِّراً يومها بكاء السعدية بت الفاضل المرأة (الرجلة) قوية الشّكيمة التي تعول خمس بنات يتامى على نخلاتها اللائي غيَّبهن النيل في (رمشة عين!)… كم كانت دُمُوعها غالية فهي حازمة عاقلة ما عرفت بعويل كالنساء. ومُحزن أكثر وأمضُّ ثقلاً على النفس لجوءُ بعضهم إلى قطع هذا الشجر المعطاء بيديه قبل أن يَناله بطش النهر ضنّاً به عليه وأملاً في قليل من الفائدة من جذوعه.
قال أحدهم: “متل أتكنو الواحد يضبح ولدو أو بتو..” أي كمن يذبح ابنه أو بنته بيديه. وذلك أقسى على الحي من كل فعلٍ سواه.
البلدة القديمة التي كَانَت قائمةً نابضةً بالحياة تحت ظلال النخيل ومتاجرها ومسجدها الكبير ومسيدها, أخلت مكانها لرمالٍ حمراءٍ تُعانق مُبتسمةً مياه النيل كأنّما تشكره على ما صنع بالناس. وغدت القرية بيوتاً مُتفرِّقة بين كثبان الرمال الحَمراء فهذا “قوز الضبعة”، وذاك “قوز الصبرة”، وقيزان نالت كل جَوارح السِّباع من بينها حظاً ونصيباً ومأوى سميت به. تغير ليلاً منه إن شاءت على ما بقي للناس من أليف الحيوان. قيزان تُحيط بالدور إحاطة السوار بالمعصم. إذا جنَّ الليل في الشتاء ابتردت تلك الكثبان ونفثت من جوفها برودةٌ قاسيةٌ تجعل الأهالي يَسِدُّون شُقُوق الأبواب بالخِرق القَديمة ويتحلّقون حلقاً داخل الدور حول نار يشعلونها يشوون عليها كيزان الذرة الشامية وربّما ازدردوا بليلة من اللوبياء الخضراء دسّ في طنجرها أيضاً حَبّات من الجُرم وهو كراتٌ مُستديرة كـ(التبش) يجعلون من لبها (تسالي).
أما إذا استعر الصيف فغيظها مثل اللظى التي وصفها الخالق بأنّها نزاعة للشوى أو مثل فيح جهنم الذي شبه به الحديث الشريف حر الظهيرة. أين النخل الذي كانوا يتحلّقون تحت ظلاله إذا استعر الحَر واستبدّت الشمس يلعبون الطاب؟! أخذه هذا النيل الذي لا يزالون يتغنّون به ويشتاقون إلى قربه إذا نأت بهم الديار. حسِبتُ أنّ جبارة قد بكى ذلك كله حين جاء يُعانقني ثانية وهو يجأر ببكاءٍ حارٍ هذه المَرّة كأنّما أبكاه بكاء عمنا حاج بشير. خِلت أن مجيئ قد ذكَّر جبارة بما افتقدته البلدة منذ أن خرجتُ منها يافعاً. غلب في ظني أنّ بعض بكائه كان على البساتين والنخل الكثيف والجروف العامرة بالخيرات: القاعون والبطيخ وطُيُور الأوز أو الوزين والعصافير المُهاجرة الجميلة المُلوّنة وهدهد سليمان بتاجه المُميّز يحدث بصوته المديد عن الملكة بلقيس وقصة سبأ. مملكة الطيور كلها كانت هُناك، القمري والدباس أبو سوميت، وكانت جميعها تُطرِب البلدة بالنغم البَاعث على الأمل والمُحَفِّز للبذل من أجل حياةٍ أفضل في الصباح البَاكر وعند العَشِيّات. ويرد الصدى أصوات باعة كانوا يأتون من حيث لا يعلم أحد: الجردقة.. والعطرون.. ويتردّد صدى صيحات الصبية والصبيات: يا عاشة.. يا زكيي.. والقرية كلها تنصت وتنصت لصوت إذاعة لندن إذا هدأ الليل ينبعث من أجهزة راديو تُعد على أصابع اليد في سائر القرية.
ذهب كل ذلك وأصبحت البلدة امتداداً للصحارى العظيمة المُمتدة شرقاً وغرباً والتي يُخشى مع تَعَاظُم التصحُّر وارتفاع حَرارة الأرض أن تُطبق يوماً على النيل نفسه، فتجتاح واديه مثل ما فعلت بوادي هور الذي قيل إنه كان نهراً دائم الجريان ينبع من بحيرة تشاد ويصب في النيل, فيصبح أثراً بعد عينٍ.
بدت القرية لي وكأنّها سقط من القرن السابع الميلادي. بدأت السيدة عائشة رضي الله عنها القول عن حادثة الإفك بحديث عن الكنيف وهو بيت الخلاء وجمعه كُنُف بضم الكاف. قالت: كنا نخرج إلى الخلاء لقضاء الحاجة حيث كُنّا لا نعرف هذه الكُنُف التي تتخذها الأعاجم بل ونعافها.
قلت وهكذا كان الحال في قريتنا حتى سبعينيات القرن العشرين فتأمّل! كُنّا نحنٌ أيضاً لا نعرف هذه الكُنُف التي تتّخذها الأعاجم بل ونعافها! وكانت النسوة يصبرن على الحاجة – من فرط الحياء – حتى إذا أظلم الليل خرجن زرافات إلى الخلاء مُجتمعات يتدثّرن من العُيُون بظلمته.
قالت السيدة عائشة: فعثرت فقالت أم مسطح وكانت قد خرجت في خفارتها: تعس مسطح, تسب مسطحاً وتمهِّد للحديث عن إفك تفوّه به في حق السيدة المصون.
وكذلك كَان حال جداتنا وأمّهاتنا وعمّاتنا إذا عثرت إحداهن أو عثرنا نحن الذرية قالت: سجم فلان! يلعنه أو قالت: سجم اليابا أبوي! وربما قالت سجم الياباني (أي مبغضي أنا من الناس). والسجم هو السكن أو الرماد.
نَعم كُنّا ونحن في منتصف القرن العشرين وبعد الحربين العظميين، وبعد أن دار قاقارين دورة كاملة حول الأرض، وبعد أن حط آرمسترونق على سطح القمر نعيش في ضحضاح من القرن السابع الميلادي. حتى ألعابنا على القيزان في ضوء القمر مثل (شليل) كانت رائجة في جاهلية العرب الأولى تُسمى عظم وضاح! سودَنَّا أهاجيزها فقلنا “شليل وين راح خطفوا التمساح”، فجزيرة العرب لم تكن تعرف التماسيح. كم نحن في الذيل والمُؤخِّرة. ترى هل هاجر العرب من هُنا إلى جزيرتهم؟ وفي ذلك طرفة ترويها الكتب: قال أنثربولوجي فرنسي إبان استعمار فرنسا لولاية إنديانا الأمريكية في القرن الثامن عشر لزعيم قبيلة من قبائل الهنود الحُمُر في تلك الولاية: أسلافكم جاءوا إلى أمريكا من منغوليا عبر مضيق بيرنق الذي يفصل ألاسكا عن شرق روسيا (أي أنكم طارئون على هذه البلاد)، فَرَدّ الشيخ الحصيف وهو يتحسّب لطمع أولئك الغرباء في أرضه بشطارة تذكر بشطارة شيخ العرب أبو سن: لماذا لا يكون أهل منغوليا هم الذين هاجروا من هُنا إلى هُناك!
أتوا كما كانوا يفعلون على الدوام بصواني الشاي باللبن. لكني افتقدت طعم اللبن الذي أعرفه هناك، اللبن المُقنّن المُكلّل بالقشطة الطافية على سطحه تحدث عنه، وعرفت طعم اللبن المُجَفّف الذي يأتي مِن أعالي البحار، فتساءلت: وين الزرائب وين اللبن وين النعاج الراقدة في ضُل العصر؟! ضحكوا هازئين ببقايا أسنان: وينو القش وينو الجازولين.. وينو الرجال البزرعوا.. دايرين يبقوا أفنديي. كلو راح في حق الله! والعبارة الأخيرة مُوحية ومُحزنة معاً هي ما يُردِّده الصايح أي الرجل المُكَلّف بإعلام الناس بموت أحدهم: الحي الله والدائم الله, فلان ود فلان راح في حق الله.. ألحقوا الصلاة (أي على الميت). والمُحزن في العبارة أنّ ما افتقدوه غداً في حكم الأموات أولئك الذين لا تُرجى أوبتهم أبداً.
عُدت بعد حينٍ أدراجي من حيث أتيت ودواخلي كلها تبكي بكاءً حَارّاً, بكاءً على أزمانٍ خَلَت قليلة الزخرف والزينة، لكنها تنبض بالحُب والحياة والإلفة.. ظننت أنه كان بالإمكان أن تستمر وتزدهر في ظل اليسر الذي طَرَأ على الحياة والأحياء بوسائل الانتقال السريعة المُريحة والطبابة المُتطوِّرة ووسائل الاتصال التي تعجز العبارات عن وصف ما نالت من الكمال والسُّرعة والإتقان، وكان الله في العون… ويا أبو مروة!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.