بقلم: عبد الباسط سبدرات

عبد الباسط سبدرات يعيد قراءة كتاب بدر الدين سليمان
كتاب ومضات مشرقة كراسة فكرية في سفر كبير

شارك الخبر

شرفني أستاذي بدر الدين سليمان أن أقرأ كتابه المعنون (في ذكرى ومضات مشرقة)، وهذا شرف أعتز به، وأسعد أن أقرأ معكم صفحات هذا الكتاب.
وقبل أن أبدأ في تقليب صفحات الكتاب أرجو أن أقول إنني سأقرأ الكتاب ((على كيفي)) ليس بالتنسيق الذي أراد المؤلف.
أبدأ بصفحة (77) – الكوة.. درة الوسط، ثم بصفحات (67) وحتى (75) – محمـد أحمد سليمان، ثم أعود للستة العظام.
أما لماذا هذا؟.. فالمؤلف قدّم أصدقاءه على والده ومدينته ونفسه. وفاءً لهم وإيثاراً. وأنا أقدمهم على أصدقائه لأني أعرف لو أنهم كانوا الآن معنا لقدموا الوالد وبدر ومدينته قبلهم.
الكوة.. درة وسط العقد
الكوة مدينة زهراء في أرض نجيبة ترقد على الضفة الشرقية لبحر أبيض، النهر الطاهر الطهور.. وهو بحر عذب وفيه أسماك طرية وفيها كل بهار أهل السودان العتيق.
وبحر أبيض الولاية اتُخِذ التمساح لها رمزاً لأنه دابي في ضهره الخبوب والطين كما وحش الضواري.. كنية عن رجال صناديد أهل بأس وقوة.
الكوة موردة وميناء وثغر.. واسمها قديماً أسر وتغنى فيها شاعرها الممتاع عمر عبدالماجد. وأنجبت عماليق وفرسان رأي وبصارة وإبداع. وهي عشق بدر الدين، بل كل أولاد بحر أبيض. ولهذا احتلت وبسلام خمس صفحات الكتاب.
في ذكرى محمـد أحمد سليمان
* هو والد بدر الدين الذي اشتهر ببدر الدين سليمان، وأسقط الناس اسم محمـد أحمد، ولهذا قال بدر الدين في سيرته الشخصية ((إسمي بدر الدين محمـد أحمد سليمان، وليس بدر الدين سليمان فقط))!!
وهذا القول البواح مقصود يشي إلى التعظيم والتوقير للوالد المعلم.
توفي محمـد أحمد سليمان قبل أن يبلغ سن النبوة وكمال الفتوة.
في سيرة الرجل نعرف:
* أنه نادرة من نوادر رجال التعليم في السودان. مخلص لوطنه، مخلص لمهنته، ضحى من أجلها بجهده ومستقبله، وضحى بروحه من أجل ذلك وذاك.
* وشهد له بالحق أستاذ جيل هو الدرديري محمـد عثمان، وكفى بشهادته أن تضعه في مقام المعلم المثال.
* وأنه أحد بناة التعليم الأهلي وأنعم بها من فكرة بَنَت مجداً.
* وإذا كان الوالد معلماً فإن بيته لا يحتاج لشركة النور يومها ولا الآن، فهو مشكاة.
* وإذا كان الوالد نجيباً فإن نخاع الأبناء فيه شغف القراءة وإدمان الاطلاع. وفي بدرالدين ومامون وغازي غرة وشامة في الجبين.
* ثم أورثهم هذا العناد الجميل، والنجابة، وإخفاء المشاعر، والصبر على مخاشنة أهل الضغينة والحسد.
وفي صفحة (69) جزء من مصادمات تذكرني بأخي غازي النبيل الشجاع.
* أخيراً أنصحك أن تدقق النظر في صورة الأستاذ محمـد أحمد سليمان وهذه الأناقة في بدلة ليس لها الآن من نظير.
* ويبادرني سوال.. هل توَرّث اللغة الإنجليزية؟.. ربما نعم!!.
الكتاب كراسة فكرية ولكنه سفر كبير، فهو في (129) صفحة بحجم متوسط ولكنه كتاب كما غنى الجاحظ متغزلاً:
“فهو الجليس الذي لا يطريك.. والصديق الذي لا يقليك.. والرفيق الذي لا يملك.. والجاد الذي لا يستبطئك..”
* بدر الدين مصباح دري يضيء بفولت واحد صحاري بيوضة ووحشة العتامير. ولهذا السطر في كتابه سياحة في فسطاط عريض وسيع، لهذا اختزل الصفحات. فسيرة النطاسي الكبير التجاني الماحي جاءت في (4) صفحات من صفحة 9 – 14.. وقالت الصور في (3) صفحات ما يمكن أن تقوله السطور في مجلد كبير.
غير أنه لم يتحدث عنه وإنما تركه يتحدث. ومن أبلغ في الحديث عن التجاني الماحي..
في الصفحات الأربع الفصيحات عرفنا وحضرنا محاضرة ألقاها عام 1961 في نيجيريا أمام المؤتمر الأول للصحة النفسية لعموم أفريقيا، يتحدث عن التلاقي المحكم بين الثقافة والعلم !!.
وعن الاهتداء بمناهج العلوم الاجتماعية في فهم الصحة النفسية. وعن رؤيته الجديدة لفهم كيف تتفاعل العوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتفضي آخر الأمر إلى فهم جامع للصحة العقلية. وكيف أرسى المنهج السوسيولوجي والأنثروبولجي في فهم الصحة النفسية. وهناك أعلن السر الكبير أمام المؤتمرين أن (السحر هو أصل علم النفس الجديد). فلقد كان السحر هو علم النفس في الأصل القديم!.
الصفحات الأربع تقول إن الدكتور التجاني حذر من الاستهانة بدور الحياة الاجتماعية والثقافية وما تزخر به من معتقدات وغيبيات! ومن الاستهانة بشفاعة الأولياء والصالحين وهواجس العوالم الخفية والأرواح الهائمة وشرور العين.
وبضرورة تفهم الإيمان بالبركة وتأثير كل ذلك على صحة النفس وإيحاءات الشفاء بإذن الله.
وجهَر بقول جهير: إن الصحة النفسية ليست مفهوماً طبياً محضاً. ولا هي نقيض المرض فحسب، بل مفهوم إيجابي متشابك بالظواهر التاريخية الاجتماعية الإنثريولوجية الثقافية وعلوم النفس في حيز خاص للزمان والمكان. ولم يصدر هذا القول إلا بعد دراسة عميقة للتجارب الوجدانية والصوفية كـ (المجد والغرق) وإيحائها الروحي وبركاتها.
ودراسة نماذج الأحجية والتمائم والطلاسم الواقية من العين والمنجّية من الشر!.
كل هذا الذي سبق جاء في صفحتين من الكتاب. فانظر كيف أن اختزال عدد الصفحات لصفحتين يمكن أن يشكّل كتاباً مجلداً!؟.
تقول الصفحة الثالثة من (11) ((كانت ممارسته المهنية تقوم على إدراك أن الإيمان بقدرة الله وبشفاعة الأولياء والعارفين تلهم الوجدان السكينة والصبر والرضا والرجاء والأمل في قدرة الله مما يشكل درعاً واقياً أمام الابتلاءات والمحن)).
يقول بدر الدين:
((وقد أضفى ذلك على طبه وسلوكه المهني قبس الرجاء وإيحاءات البركة ومدد الروح)).
الأخ بدر الدين أبنّت وأفضحت وفضحت تبتلك وعمق إيمانك.
وتكشف نفس الصفحة أن ظاهرة (دَق الزار)، والذي كان سلوكاً سائداً يومذاك أن جوهره باعتباره دراماسيكولوجية Psycho-Drama تعاون في التنفيس عن الرغبات المكبوتة وتهدئة النزعات المحرِّمة وفي التأقلم مع الحياة والمجتمع وفي جوقة متعاطفة مع أجواء الغناء وإيقاعات الدفوف وإيحاءات البخور والعطور والتعبير الدرامي الجماعي.
سأترك لك أن تقرأ صفحة (12) عن معرفة الدكتور باللغة الهيروغلوفية ومايز بين غرفة مكتبه من مآثر فرعونية، ثم أتركك أن تقرأ ما قدّم للسيدة ملكة بريطانيا عند زيارتها للسودان، هدية نادرة جعلها ترسل خطاباً بخط يدها يحمل امتنانها وتقديرها لهديته. ويقول منصور خالد: ((لم يكن طبيباً نفسياً بحسب بل كان أيضاً بئراً رشوحاً للمعرفة كما كان جواداً بالمعارف على من لا يعرف)).
ثم تختم الصفحة (14) الحديث عن مكتبة التجاني الماحي المهداة لجامعة الخرطوم، وعندي عنها قصة!.
في ذكرى مامون بحيري
شغلت سيرة الأستاذ مامون بحيري الصفحات من 21 – 24، تماماً أربع صفحات، كأن المؤلف يقسّم تركة بين أشقاء (6).
يقول بدر الدين وكأنه يهمس في أذن حبيبة بشعر فيه وجد وعشق: (( هذه ذكرى لسيرة نابهة عطرة.. سيرة من عاش حياة كاملة مليئة.. اقترنت بسيرة الوطن في أكثر مراحل تطوره خطراً وأثراً.. مرحلة مولد الاستقلال وإرساء الكيان الوطني. والمرحلة التي أعقبتها مرحلة انطلاق السياسات والبرامج الوطنية في كل أوجه الحياة الجديدة)).
هذه الكلمات التي شغلت (3) سطور اختصرت عقوداً من الزمان والأحداث والسياسات والمناصب والمسئوليات. وكأنه يلخص التاريخ في رجل واحد.. وكأنه يستعير تعبير د. منصور خالد ((كأن رجالاً في رجل)).
ثم يقول: ((كان رمزاً لجيل من الخدمة العامة السودانية قامت على كتفيه نهضة السودان الجديد، وتألقوا ورحلوا منارات للوطنية ولشرف المسئولية والواجب)).
ثم قصّ الكاتب شرف أنه عرف العقيد وشرف بالعمل معه في أكتوبر 1972 في مجلس الشعب الأول.
هنا تتم إضاءة باهرة لتلك الحقبة وكيف أن عماليق كانوا في مؤسسة تشريعية وكيف تجمع مجرة سياسية هذه الأفلاك والأقمار!!.
دعني اقرأ صفحة (21)، وأنا اقرأ أذوق كل أنواع التمر من نخيل بلادي.. لنسمع لقائمة من النابهين العلماء، أهل الجهد المائز.
وقد أحسن د. منصور خالد إذ قال: ((الغالبية العظمى من وزراء نميري لم يكونوا من العُطّل الفارغين)) وهكذا يقول بدرالدين مختتماً حديثه: ((تأملوا هذه السيرة النابهة مافتئت زاخرة وثابتة إلى أجل قره علام الغيوب بعد أن أرست في حياتنا جزءاً غير يسير من تاريخ وطننا العزيز، خلّفت وراءها ذكرى حيّة نابضة بالوطنية السامقة وبخصال الاتزان والرشد والزهد عن الشطط والغلو. كان الأمير رمزاً للالتزام وضبط النفس واستقامة السيرة والسيطرة على الهواء)). ثم يردف قائلاً، وكأنه يخاطبه كفاحاً وصفاحاً: (( نذكر لك يا أمير طهر اليدين وحسن الطويّة وشرف المنبت واستقامة السيرة)).
ويلتفت إلينا معزياً: (( كان الأمير دوماً ذا بهاء ورواء بغير تكلف أو زهو وكأنه المعني بقول البحتري:
حسن الفعل والرواء
وكم دلّ على سؤدد الشريف رواؤه))
ولمن يرد مزيداً أحيله للصفحة (23) من الكتاب.
في ذكرى البروفيسور سعيد محمـد أحمد المهدي
صفحة 31 – 35، أربع صفحات.
مازال بدرالدين يقسّم بالقسط أوراق كتاب الوفاء لأصدقائه الذين فقد صحبتهم بمصيبة الموت.. فقد استقرت سيرة البروفيسور سعيد المهدي في الصفحات 31 – 35
قال في حق صديقه سعيد بضعة سطور كشفت جميل صفاته ونبل أخلاقه. وأنا أقل ذاك الحديث الذي كان طازجاً يوم تأبينه في أمسية الأربعاء 20 ديسمبر 2006، والذي نظمته لجنة تكوّنت من (80) شخصاً، أقصد إهراماً، رصدهم الكاتب في صفحة (33) من الكتاب، أدعوك أن تسلّم عليهم كفاً وعناقاً.
يقول، أو قل قال يومها أقونيس: (( فقدنا والله لطفه وكرم خلقه ورويته قبل أن فقدنا لعلمه وقلمه وقدراته.. فوالله لم يكن سعيداً بفظ ولا غليظ قلب.. نأى به طبعه اللين ولسانه العف من لجاجة المخاصمة وفتنة الغرور. لم يعرف غلواً أو شططاً. يعفو ويصفح ولا يقول إلا قولاً معروفاً. ذلك إن خلقه من خلق هذه الأمة التي أكرمها الله وجعلها أمة وسطاً)). ويمضي قائلاً: ((ويشهد الله كيف سخّيت كفه ونديت راحته متعلقاً بالميثاق الغليظ. يده لها كرم الغمام لأنه يسقي العمارة والمكان البلقعاً.. وتعلقت روحه تعلق وفاء وعمق انتماء بوطنه الصغير الرؤوم المسيد، ما غاب عنه إلا ليعود إليه وهو أكثر شوقاً لأرضه المباركة ونسماته الشافية، مشاركاً أهله أحزانهم وأفراحهم وأعيادهم وليالي مدائحهم وقيامهم ويشاركهم بروحه ووجدانه وجود يده)).
لو واصلت لحرقت الكتاب، ولكني فقط أحيلكم لصفحة (34) و(35) و(36).. فهي توضح سيرته الذاتية الثرية والغنية والباذخة والفخيمة، وتسرد مؤلفاته الـ (26) مؤلفاً.
في ذكرى الدكتور فريد عتباني
وموقع فريد في الكتاب كان أيضاً رثاء وعرفان بدرالدين بصديقه الحميم د. فريد، إذ انكسر يومها بدرالدين وطفرت دمعة نجيبة وسخينة ولؤلؤة.
كان ذلك في أمسية الأحد 14 أغسطس 2005. دعني اعترف مبتدأ أني لا أعرف السباحة، حتى في شبر ماء، سيما أن تكون سباحة في علم الرياضيات والأرقام والاقتصاد. وأنا كنت أنتظر أن أبلغ سنة ثالثة ثانوي لأدك علم الرياضيات، لأني خائب فيه بامتياز.
والدكتور فريد عتباني بالنسبة لي يتكلم لغة لا يحسنها معظم الذين احترفوا مهنة القانون، إلا بدرالدين، وهذا واحد من أسباب إعجابي به.
قال بدر الدين معرفاً صديقه:
* كان من هؤلاء الرجال الذين عصمتهم عزة النفس واستقلال الرأي من الانجراف مع هبات الريح.
* إنه نأى بنفسه، أي د. فريد وعلمه كثير، من أوحال الحياة في السودان، أوحال الغلو والشطط وجدل العقول المغلقة والمواقف الهوجاء.
* كان لا يسوق ولا ينتحل المعاذير. مواقفه دائماً واضحة وقاطعة.. ولا يميل لبعض عاداتنا في العمل لساعات متأخرة والعمل في الإجازات!. ويعتبر هذه المبالغات بلاهة مضنية تفضي إلى بلاء التسويف.
* كان لا يقبل الفوضى والخلط بين حدود مسئولياته نحو أسرته ومسئولياته نحو صحته ومسئولياته الاجتماعية ومسئوليات العمل والواجبات العامة.
* ثم كان دائماً رمزاً لكبرياء العلم ولسلوك التمدن ولشرف المنبت.
هنا لا ينبغي لي أن أكتب سطراً وإلا احترقت!! أترك لكم صفحة 40، 41، 42، 43، 44، 45، سيما الصفحات المتعلقة بالاقتصاد، وكمان مكتوبة بلغة إنجليزية متقعرة وجسيمة البناء!!.
في ذكرى محمود الشيخ عمر
في أمسية الثلاثاء 16 يونيو 2001 وبدار اتحاد المحامين وقف بدرالدين ثاكلاً، وليس النائحة كالثاكلة.. يجهر في همس جهير.. اليوم أنعي نفسي.. فقد فقد رجلاً من أغلى وأعز الرجال.. فلقد أمضيت معه الشطر الأعظم من حياتي من أكتوبر 1947، وحتى انتقاله إلى ربه في الثلاثين من أبريل 2001.. ثم شرع يحكي أغلى الذكريات.. يتحسس نصف قرن من زمان كان سنوات من ملاحم وبعث ونضال.. كانوا فتية من نخب الشباب أهل فتوة ووجد وإشراق نحو أفق بألوان الازدهاء والتوق إلى أحلام عراض.
ثم يجرد مسبحة الذكريات، سنوات الهزائم والإخفاقات.. وكيف شهدوا السجل الكئيب للقلاقل والزعازع والشقاق والانقسام.
آه كيف جاءت كلمات بدرالدين فوارة موارة وداوية.. أدعوك استريح وأقرأ صفحات 53، 54، 55، 56،فهي تشّف وتكشف أسرار عبقرية الرجل الذي رحل ولا يزال حياً في الصدور.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.