بطلها رجل اسمه عبد الله البلال.. حكاية (أب سوداني يعفو عن قاتل ولده) في قسم شرطة حلة كوكو (صور)

الخرطوم: الزين عثمان

صباح اليوم الاثنين فوجئ عساكر الوردية في قسم (حلة كوكو) برجل على متن بوكسي يقتحم المكان، يحمل معه الطعام، ويعزم الجميع على تناوله، كان ممن تناولوا الطعام ساعتها شاب في مقتبل العمر محبوس بتهمة قتل ابن الرجل صاحب الثماني والعشرين ربيعاً، حينها يخبره الرجل أن (اذهب فأنت طليق، فقد عفوت عنك)، ما كان مفاجئاً بالنسبة للقاتل ولعساكر القسم بدا في منتهى العادية لدى من يعرفون الرجل المتوشح بسودانيته وبساطته، والملتزم فقط بكونه واحداً من الناس، ومؤمناً بقيم الكرم والتسامح والمصالحة.

في هذا التقرير سنحكي القصة الكاملة لجريمة القتل التي حدثت في الحاج يوسف، ولحكاية الحياة الجديدة التي وهبها ولي الدم لقاتل ابنه.

1
بداية القصة كانت في الحاج يوسف المايقوما، حيث حدثت المواجهة بين القاتل والقتيل، وفي نقاش بدأ عادياً بين شاب كان يريد الحصول على بعض حاجياته من صاحب (الطبلية)، لكن الأمر سرعان ما احتدَّ بين الطرفين، وانتهى بان غرس صاحب الطبلية نصل سكينه لتخترق قلب الشاب الآخر عثمان، وترديه قتيلاً، لينتقل المشهد إلى نقطة أخرى، حيث اوقفت السلطات المتهم، وقيدت ضده بلاغاً تحت المادة (130) القتل العمد، وسجل أيضاً اعترافات بارتكابه للجريمة، التي كانت تنتظر إكمال إجراءاتها القانونية بتحويلها إلى المحكمة للفصل فيها، قبل أن يقطع عبد الله البلال الطريق على كل ذلك، ويصنع الحدث على طريقته.

2
هذا الرجل بلا هتافيات وخطب مطولة اختصر الأمر في منشط عرفاني مهيب، ذهب لحراسة الشرطة يحمل إفطاره، وعفا عن قاتل فلذة كبده. أكرم المكان والحضور وصافح المعفي عنه، وأغلب الظن أنه خرج إلى حياته يتزود للأيام بساعات أنس قديمة مع ابنه الفقيد، هذا رجل يستحق أن تُرفع له القبعات، وأن تُطوى أمامه مسافات السعي، حيث أراد، لأنه ببساطة منح الحياة العلامة الكاملة بإسقاطه مرارات التحيز للدم الذي صار عنده سقيا للفداء، فداء الموت بالعفو والتسامح، وإطلاق روح، لا أشك أن ما حدث سيضعها على بدايات جديدة، كيف لا يحدث ذلك وصحن واحد انغمست فيه كل الأيادي كان ملاحه بطعم العفو والتسامح والإيثار، وبالطبع العفو عند المقدرة فعل الشيخ عبد الله البلال، هو بمثابة إشعال نور يضئ به قسمات ملاحم الشيم العظيمة لدى هذا الشعب.

3
وحين السؤال كيف لرجل أن يعفو عن قاتل فلذة كبده؟ يخبرك من يعرفونه أن هذا هو سلوكه وعلى الدوام، يقول أحد مواطني شرق النيل ممن تربطهم صلة بالرجل إن ما فعله كان هو المنتظر منه، فالرجل الذي وهبه الله بسطة في المال، وهبه أيضاً بسطة في اليد التي لم تكن بأي حال من الأحوال مغلولة إلى عنقه، بل مبسوطة بشيء يدفع إلى الدهشة، وأن من استغربوا لرؤية البوكسي في قسم الشرطة، فعلوا ذلك لانهم لم يكونوا على دراية بأن كرم الرجل تعرفه شوارع شرق النيل ودفاراتها التي تجوب الأسواق وأماكن التجمعات يهبط منها عبد الله تسبقه ابتسامته وصوته، يخرج بالقسم على الجميع من أجل أن ينالوا نصيبهم من كرمه، ولا يبدو مبالياً بكونه موضوعاً في أعلى قائمة (الكراهية) من قبل أصحاب المطاعم، فلا أحد يدفع أمواله في مكان يدفع فيه آخر بالطعام مجاناً، وينخرط في نوبة بكاء طويلة مردداً الحمد لله حين يزدحم الناس عند بوابات خيره، يكمل المتحدث أن الشيخ عبدالله البلال هو المتعهد الرسمي لإكرام الناس عند صيوانات العزاء، ففي الوقت الذي ينشغل فيه الجميع بترتيبات الدفن يكون هو مشغولاً بكيفية توفير مسلتزمات الطعام، ومن يقمن بإعداده على وقته.

4
كانت مشاهد ما حدث في قسم الشرطة بحلة كوكو تصنع الحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وجدت قبولاً منقطع النظير، واعتبرها الكثيرون بمثابة استعادة لتفاصيل القيم المركوزة لدى المكونات السودانية التي يمكن البناء عليها؛ بغية تحقيق أهداف وغايات المصالحة الوطنية بين المكونات كافة، وذلك بقراءاتها من خلال الاختلاف الاثني بين القاتل والمقتول، فما كان بعيداً قربه (العفو) والصفح بدت ملامحه جلية على وجه القاتل الذي ظهر في الصورة وكأنه يردد (شكراً) لمن أعاده مرة أخرى للحياة التي حرم منها ابنه في لحظة غضب وطيش.

الدهشة كانت أيضاً حاضرة وبشدة على وجوه رجال البوليس في القسم الذين عاشوا مشهداً يندر أن يتكرر فليس كل الرجال عبد الله البلال.

5
يأتي قرار عفو والد عن قاتل ابنه في مشاجرة تتكرر في شوارع البلاد وتقاطعاتها متزامناً مع واقع سوداني أبرز ما فيه تنامي ظاهرة الكراهية التي انتهى المطاف ببعض من يحملون ألويتها إلى المطالبة بالانفصال، مقروناً ذلك أيضاً بارتفاع المطالب بضرورة تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة التي هي أكثر ما تحتاجه العدالة الانتقالية التي لا يزال الجميع في انتظار تكوين المفوضية الخاصة بها، لكن المؤسسة الغائبة سرعان ما ظهرت في صورة شخص يتوشح جلبابه، وينثر بياض المعافاة في كل الطرقات، يحتضن قاتل ابنه، ويصافح ذات اليد التي غرست الخنجر في قلب عثمان، يضع ابتسامته في منضدة قسم الشرطة ويغادره، لا يلوي على شيء أكثر من إصراره على أن يكون الزول البسيط المتسامح الكريم الشهم السوداني الوحيد الذي يمكنك أن تجد آلافاً مثله لا يرغبون في شيء أكثر من أن يعيش الكل في سلام ومحبة، بصيرتهم المتقدة تخبرهم أن لا شيء أضر بهذه البلاد أكثر مما فعلت الكراهية، وأنه لا طريق للعبور غير ذلك المرصوف بشجاعة المتسامح.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.