“التم تم” حرارة إيقاع قادم من كوستي

الخرطوم : سعيد عباس
أثبت عدد كبير من النقاد الفنيين والموسقيين العالميين بأن السودان يعتبر من أغنى دول العالم من حيث الايقاعات المختلفة والمتعددة على امتداد القطر المترامي ألقاً وإبداعاً، فالسودان هو البلد الوحيد الذي يكاد يكون فيه لأي قبيلة أو منطقة إيقاع معين خاص بها، وكما يقول الموسيقار الراحل برعي محمد دفع الله: إذا تغنى أي سوداني أو ضرب إيقاعاً على أي آلة نستطيع بكل سهولة معرفة هويته ومنطقته، فبمثلما في هذا القطر تختلف البيئات المناخية المتنوعة في عام واحد، نجد أن الإيقاعات كأنما عقدت اتفاقاً وأعدت مهرجانا مع الطقس لذلك التنوع الرباني العجيب، فبثلما ضرب البقارة والكبابيش إيقاع البياتي على أنغام وخطى إبلهم، نجد أن أهل الشمال اتخذوا من نغمة حفيف النخيل إيقاعاً سمَّوه “الدليب”، بينما يفرح جزء كبير من أهلنا في غرب السودان على إيقاع “الفرنقبية”، ليتسيد إيقاع “الكلش” على أنغام “الوازاة” مناطق جنوب النيل الأزرق، لنأتي على جوانب أخرى من غربنا الحبيب ومناطق كردفان المختلفة على عدد من الإيقاعات مثل الكرنق والجراري والمردوم والهدّاي والكرير…الخ.. “السوداني” تبحث الآن في أحد إيقاعات الحقيبة والزمن الجميل ذلك الإيقاع القادم من كوستي الجميلة باسم “التُمْ تُمْ”
(1)
يقول عدد من الموسيقيين الكبار إن إيقاع (التم تم) يعتبر من إيقاعات المرحلة الثانية في المشهد الفني بالسودان، فقد سبقته إيقاعات عدة في أغاني الحقيبة منها الإيقاعات الصوفية، وإيقاعات العشرة بلدي، وإيقاعات الطنابرة التي كانت تعتبر في فترة سابقة لإيقاعات الحقيبة، حتى جاءت فيما بعد إيقاعات سمَّيت اصطلاحاً بإيقاعات الغناء الحديث أو إيقاعات المدرسة الوترية الحديثة التي استخدمت على سبيل المثال إيقاع “الرمبا” القادم من أمريكا اللاتينية، ثم إيقاع “الروك آند رول” القادم من المدارس الموسيقية الإنجليزية في أربعينيات القرن الماضي، ثم إيقاع “السامبا” البرازيلية التي اجتاحت مساحات واسعة من صفحات ونوتات الغناء السوداني، ثم إيقاع “الجيرك” في فترة متقاربة مع تلك الإيقاعات، وقد قيل إن الشاعر صلاح عبد الصبور عندما جاء الخرطوم في أواخر خمسينيات القرن الماضي ورأى فناني الخرطوم ينظمون درر أنغامهم على إيقاع (التم تم) بصورة كبيرة على تلك الإيقاعات الحارة كتب أغنيته الشهيرة التي غناها الفنان الكبير سيد خليفة
لا السامبا ولا الرمبا تساويها
لا التانغو ولاسوينغو يدانيها
ولا طبل لدى العربان يوم الثار
ولا رقص الهنود الحمر حول النار
ولا هذي ولا تلك
ولا الدنيا بما فيها
تساوي رقصة الخرطوم
يوم النصر يا سمرا
(2)
اختلف عدد من النقاد الفنيين عن أصل منشأ وميلاد إيقاع (التم تم)، إلا أن أغلبهم نسبه إلى مدينة كوستي، حيث قال الناقد الراحل المقيم ميرغني البكري في إحدى كتاباته في زاويته المقروءة تحت عنوان “ذاكرة الفن” أن إيقاع (التم تم) جاء من كوستي في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وقال إن هنالك أغاني جديدة ظهرت في ذلك التوقيت للفنان زنقار، تم أداؤها على إيقاع (التم تم) منها أغنية “حبيبي غاب في موضع الجمال بلاقي”، وقال إن بعض الموسقيين من النيل الابيض كانوا يتعنصرون لذلك الإيقاع الخفيف الراقص، ويقولون عنه إيقاع كوستي، فيما قال الباحث الفني والثقافي الدكتور عمر بادي إن ذلك الإيقاع نبع من أرض كوستي المترعة بالفن والجمال وقال إن الإيقاع جاء مستخلصاً من عدة إيقاعات غربية، باعتبار أنه إيقاع هجين في منطقة حي الرديف بكوستي، التي كان بها عدد من جيوش المستعمر الذين كان يتخذون من الرديف مساكن لتلك الجيوش التي كانت تمارس أنماطاً مختلفة من الإيقاعات والموسيقى، وجاء (التم تم) مزيجاً مستخلصاً من تلك الإيقاعات، وقال الباحث والصحفي دكتور عمر بادي إن هذا الإيقاع من مدينة كوستي، حي الرديف تحديداً في ثلاثينيات القرن الماضي، وأشار إلى أن المغنية فاطمة خميس تلقفته بعد ذلك وكانت من أوائل الفنانات اللائي استخدمن ذلك الإيقاع في بيوت الأعراس والمناسبات المختلفة؛ حتى اعتقد الكثير أن ذلك الإيقاع خاص بالبنات فقط، وفيما بعد جاءت فاطمة بذلك الإيقاع إلى الخرطوم، وقدمت به الكثير من الروائع منها “سهر المنام لي وحدي” التي يغنيها الآن الفنان عوض الكريم عبد الله .
(3)
الشاعر يحيى فضل كان يقدم رواية وجدت الكثير من القبول والاستحسان بين فناني مدينة كوستي وعدد من المهتمين بالثقافة الموسيقية بالسودان، حيث قال إن ايقاع (التم تم) إيقاع استخدمته الحكامات اللائي كن يغنين لأصحاب اللواري والمساعدية، في تلك الحقبة بكوستي، ونفى القول المزعوم بأن (التم تم) كان يستخدم في إيقاعات “الزار”، خصوصاً عندما أثبت كثير عدد من المهتمين بأن إيقاع الزار الأصل هو إيقاع “الجاجا”، وقال يحيى إن من أدخل ذلك الإيقاع هما الأختان التوأمتان أم جباير وأم بشاير، من كوستي حي الرديف، وقيل إن اسم (التم تم) اختصار لكلمة (التومتان) في ذلك الوقت، فيما كان نادي الفنانين بكوستي في حقبة سابقة، إبان رئاسة المرحوم إبراهيم الجاك له، كان يضم أسطوانتين فنوغراف للتومات أم جباير وأم بشاير، ولكن ظروف التخزين غير الملائمة وطول فترة مدة صلاحية الأسطوانات أدت إلى تلفها .
(4)
إحدى فنانات أمدرمان في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي اسمها رابحة قدمت أغاني كثيرة بإيقاع (التم تم) حتى سمَّاها الوسط الفني بالفنانة رابحة (التم تم) وكانت لها قهوة شهيرة بسوق أمدرمان، وكانت أغانيها ذائعة الصيت والانتشار، ولكنها قالت إنها سئمت ترديد تلك الأغاني التي بسببها كان يأتيها أحد المخمورين بالمقهى، ويطلب منها أن تغني له، لذلك امتنعت عن ترديد تلك الأغاني، وقامت بإعطائها للفنان الراحل زنقار، وعندما كان زنقار يمتلك إمكانيات صوتية فريدة، بدأ يغني أغنيات رابحة (التم تم) بصوتها حتى إن كثيراً من المستمعين كان يعتقد بأن من يغني هي رابحة، وليس زنقار، ومن لم يعرف زنقار يعتقد بأنه يستمع لصوت أنثوي بحت، وقد استطاع زنقار أن يخرج (التم تم) من كونه إيقاعاً للبنات إلى إيقاع يتسيد الساحة الفنية، بمستوى عالٍ حتى شق طريقه للعالمية واستُخدم في أغانٍ كثيرة لا حصر لها من أغنيات الحقيبة، وأصبح من الإيقاعات الفريدة التي تربط عدة حقب موسيقية مع بعضها البعض، إذ غنى به فنانو الحقيبة، وفنانو المدرسة الوترية الجديدة، وفنانو الغناء الحديث، ولا يزال (التم تم) سيداً للمشهد الفني إلى يومنا هذا.
//

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.