فتبينوا…..

حجاوى الجمعة… هشام الخليفة *

شارك الخبر

 

 

يتناقل الناس احاديث  قد تكون صائبة او قد تكون كاذبة وفي كلا الحالتين يكون لذلك اثار  قد يصعب تلافي نتائجها  اذ ربما تؤدي إلى فتنة او على الاقل بلبلة بين الناس. سأروي هنا بعضاً من القصص التي عشتها عن ” مرويات ” كانت في اغلبها بعيدة عن الحقيقة.

الأولى عن أمريكية كانت تعمل في جامعة الخرطوم اسمها Barbra Ferrin وكان اهلنا في العيلفون يطلقون عليها اسم ” برباره ”  . عاشت ” بربارة ” حياة غريبة على أجنبي فقد ” انغمست ” في المجتمع السوداني بصورة كاملة فتأكل مما يأكل الناس وكما يأكلون بدون ” شوكة ولا سكين ” وكانت تحضر لنا في العيلفون اسبوعياً تقريبا وفي العطل والإجازات حتى اصبحت جزءاً من العائلة تمازح الصغير والكبير بل اختارت اكثر رجال الأسرة صرامة لتخصه بالجزء الأكبر من المزاح ولم يكن يبدو عليه الانزعاج بل كان يستقبل مزاحها بابتسامة ودودة.  اذكر اول ليلة قضتها معنا اذ حدث فيها لغط كثيف . كانت ليلة مقمرة جلسنا كلنا نتسامر ونتمازح وكانت ” بربارة ” هي واسطة العقد. بعد ان انتصف الليل حان وقت النوم وقد هيأنا لها مرقدا في القسم الخاص بالنساء غير اننا تفاجأنا بانهن يرفضن تماما ان تنام وسطهن و قد جاء ذلك الرفض من كبار السن. قلن بصوت واحد انهن سمعن من امهاتهن ان ” الخواجة ” يتحول في الليل إلى ” سحار ” وبالتالي فهن خائفات  ان تلتهمهن  هذه الخواجية وهن نائمات. كان هذا الحديث يدور سرا حيث أن ” الخواجية ” تفهم اللهجة السودانية وتتحدثها بطلاقة. استغرقت المفاوضات زمناً طويلاُ حتى استطعنا ان نصل إلى حل وسط وهو ان ينام قريباً منهن احد الصبية حتى يهب للنجدة عندما تتحول الخواحية إلى سحار !!! وهذا ما حدث وانقضت الليلة على خير وثبت لحبوباتنا عدم  صحة لهذا الاعتقاد الخاطئ وان تلك مجرد إشاعة مغلوطة وهي من الأشياء التي عناها التنبيه الإلهي الكريم  ” فتبينوا”.

وعلى ذكر ” السحاحير” فقد عاش في ” مسيد ” الشيخ ادريس ود الارباب القريب من منزلنا بالعيلفون  الكثير من الناس بعضهم جاء لدراسة القرآن والعلوم الشرعية والبعض جاء للتداوي بالقرآن و البعض جاء لزيارة مرقد ابونا الشيخ ادريس ود الارباب..  من هؤلاء رجل ضعيف البنية اسمر اللون كان يقيم بصورة دائمة في المسيد اسمه ” مختار ” كان ذلك ونحن اطفال صغار

. لم يكن احد يعرف عن مختار اي شيء فلا يعرف احد من أين جاء ولا من هم اهله . كان مختار مصاباً بعاهة في يده اليمنى  لذا أطلقوا عليه لقب ” كنيش ”  وقد كان قليل الكلام خفيض الصوت لا تكاد تسمعه حين يتكلم وبرغم ان المسيد كان يوفر للضيفان الوجبات الثلاث ولكن مختار كان له ولع خاص بــ  “ملاح القرع” فقد كان يحمل صحنا صغيرا يدور به على المنازل كل يوم في المساء يبحث عن ” وجبته المفضلة ” وقد كان يتحصل عليها غالبا فخيارات الاطعمة للأسر كانت محدودة للغاية.كان يدور على المنازل وهو يسأل بصوت منغوم ( عندكم ملاح قرع حلوووو؟ ) يمط الكلمة الأخيرة مطا . سرت إشاعة بين الناس ان مختار هذا ماهو الا ” سحار ” متخفي في شكل احد حيران الشيخ ادريس ابن الارباب ولكن بمرور الزمن وعدم ظهور اي إشارات تؤكد ذلك فقد تلاشت الاشاعة خصوصا وان مختار قد مات موتا طبيعيا ” رحمه الله ” ولم يظهر بعد ذلك كعادة ” السحاحير ” و ظهر صدق التوجيه الإلهي الكريم …” فتبينوا “.

القصة التالية محلية  حدثت في” حي القبة ” في العيلفون ايضا  فقد كنا مجموعة من الاطفال نجتمع مساء نلهو ونلعب في الفسحة الصغيرة امام منزلنا والمسماه بـ” الشيمة ” وقد كانت  عبارة عن سوق صغير لبيع اللبن والروب وذلك حتى يغلبنا التعب والنعاس فنتفرق. كانت القيادة للاخ فاروق الملقب بـ” جاغوم ” وأخيه محمد وخالد الكيس وعثمان ” العدس ” وأخيه عبد العزيز ” وردي ” و “احمد خميس” وآخرين. من ضمن مسامراتنا اننا كنا نردد بيقين تام ما كان يردده بعض كبارنا  بان احد المنازل المهجورة القريبة من الحي تسكنه ” الشياطين ” بل ان احد جيران ذلك المنزل ادعى ان هؤلاء ” الشياطين ” يعملون في مهنة النجارة وانه يراهم عندما ” يجن ” الليل وهم يعملون بجد واجتهاد فيصنعون ” الدواليب ” و “الترابيز ” ويطلونها بالألوان الجملية ولكنها تختفي في الصباح وربما يحملونها للسوق في الخرطوم  فيبيعونها هناك. كانت هذه الروايات تشدنا وتثير فينا الرغبة في معرفة المزيد عن هذا المجتمع الغريب الذي  يجاورنا !! وفي ذات ليلة من الليالي قررنا ان نسبر غور هذه الاشاعة حتى نصل لحقيقتها . تطلب منا ذلك ان نخادع اهلنا ونخبرهم بأننا سوف نقوم بتمارين على مسرحية في المدرسة لذلك سنتأخر قليلا ونبقى ساهرين في ” الشيمة ” . في الليلة الموعودة جلسنا في خوف وتوتر شديدين ننتظر ظهور ” الشياطين النجارين ” وبين الفينة والأخرى كنا نسمع حركة غريبة فنبعث احد المندوبين للاستطلاع فيرجع ويخبرنا انها ” معزة ” غيرت مكان الرقاد لا أكثر ولا أقل!!! وهكذا مضى الزمن ونحن لا نشعر حتى افقنا على صوت الأمهات وهن ينتزعننا من هذه ” المسرحية” العبثية والتي انتهت إلى لاشيء وربما اراد الله ان ينبهنا إلى صدق ما جاء في كتابه الكريم… ” فتبينوا “.

اما القصة التالية فنخرج بها قليلا من حي القبة بل ومن العيلفون كلها ولكنها ترتبط بي ايضا. كان ذلك إبان دراستي بـ “جامعة القاهرة فرع الخرطوم ” فقد كنت رئيسا لـ “جمعية التاريخ”  لأكثر من دورة. اذكر اننا قمنا برحلة إلى مناطق الآثار في ” المصورات ” ثم واصلنا إلى منطقة ” البركل ” واذكر اننا وجدنا هناك بعثة يرأسها احد المهتمين بتاريخ السودان هو البروفيسور ” شيني ” ومعه اثنان من طلاب الآثار السودانيين أحدهما يدعى ” خضر”  والآخر ” علي صالح” ان لم تخني الذاكرة. كان معنا من الزميلات والزملاء الذين اذكرهم المرحومة احسان اسماعيل و  سامية الطيب الهادي و حامدة ابوبكر مصطفى وليلى محمد جعفر وسهير علي رخا وعايشة الترابي  والزملاء وائل جعفر  ومحمد عثمان مصطفى وابو ضفيرة وعبدالرحمن حمدين ومصطفى الحاج  وآخرين. لاحظت أثناء الرحلة ان الزملاء على وجه الخصوص كانوا يتجنبون” فلان ” وكان نائبي  وانهم كانوا يتوقفون عن الحديث حين يغشى مجلسهم. كان ذلك غريباُ جدا لأن علاقة هذا الزميل  بالجميع كانت طيبة للغاية بل ادعي بانه كان  محبوبا من الكل فماذا حدث ؟ جاءني” فلان ”   شاكيا وقد لاحظ ذلك فأصابه الاكتئاب  تساءلت بيني وبين نفسي فلم أجد اجابة عندها لجأت لإحدى الزميلات فللنساء ” انوف طويلة “!!! جاءتني الزميلة بالخبر اليقين بان  احد الزملاء قد اطلق  إشاعة غريبة بان ” فلان ”  بحكم منصبه كنائب لرئيس جمعية التاريخ ينقل ما يدور بين الزملاء خصوصا الانتقادات الحادة التي يوجهونها للاساتذة  للاساتذة أنفسهم . على الفور قمت بعقد اجتماع طارئ اوضحت فيه كذب هذه الفرية وان ” فلان ” هذا  بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وبما ان الجميع كان يحب ” فلان ” هذا ويوده فسرعان ما انقشعت الازمة واحتضن الجميع صديقنا ” فلان ” وفي بالهم صدق التنبيه الكريم .. ” فتبينوا “.

نهى نبينا الكريم عن نقل ” المنقولات ” بين الناس لما في ذلك من توغير الصدور وزرع للفتنة بين المسلمين.

جاء في سنن ابي داؤود عن عبد الله ابن مسعود ان رسول الله ” ص” قد قال : (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فأنا أحب أن أخرج إليكم  وأنا سليم الصدر .(

وسلامتكم.

 

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.