من (عبود) إلى (حميدتي).. العسكري والسِّياسي في السِّياسة السُّودانيّة

كتب: عادل إبراهيم حمد

صدمت كغيري بأخبار وصور الفظائع الشنيعة التي وقعت على (الجنينة) خلال استباحة قوات الدعم السريع لديار المساليت. وجسّدت صور مقتل الوالي والتمثيل بجثته مثال المأساة والصَّدمة. ورغم أنّ أحداثاً كهذه تُهدِّد فاعلها بإقصاء نهائي من المشهدين السِّياسي والاجتماعي، لكني مع ذلك لم أرجِّح إزاحة قوات الدعم السريع من المشهد، ذلك لأنّ وجود (العسكري) أصبح لازمة في السِّياسة السُّودانيّة بعد أن صارت لجل القِوى المدنية السِّياسيّة قناعة بضرورة وجود رافعة عسكرية لا يستغنى عنها السِّياسي – مهما فعل العسكري وتجاوز.. وهكذا بقي الجنجويد رغم صدمة أحداث الجنينة!! 

الاستعانة بالقوة العسكرية للوصول إلى السُّلطة أمرٌ مألوفٌ في السِّياسة السُّودانيّة، وبما أنّ السِّياسة هي مُهمّة السِّياسي المدني، يظن السِّياسي أنّ دور العسكري في هذا التّحالف دَورٌ مُؤقّتٌ ينتهي عاجلاً بأن يؤول أمر إدارة العمليّة السِّياسيّة للسِّياسي ويعود العسكري للثكنة حارساً للحدود وحامياً للدستور! لكن الواقع يقول بغير ذلك، فقد أكّـدت (كل) الوقائع فشل رهان السِّياسي.

علاقة السِّياسي بالعسكري بدأت باكرةً – بعد أقل من ثلاث سنوات على الاستقلال، حين طلب رئيس الوزراء عبد الله خليل من قائد الجيش إبراهيم عبود أن يستولى على السُّلطة لقطع الطريق على الأزهري؛ ظَنّاً من خليل أنّه (يضبط) مسار العمليّة السِّياسيّة. وتوهّـم أنّ بإمكانه أن يطلب من عبود العودة للثكنات بعد أن يفرغ من مُهمّة ضبط المسار. وما فطن خليل إلى أنّ تعليماته في المرة الثانية سوف تكون لـ(رئيس) تذوّق السُّلطة – قابل جون كينيدي واستقبل عبد الناصر، وشارك في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية واعترف بالصين الشعبية؛ فلم يكن غريباً أن يتجاوز العسكري إبراهيم عبود السِّياسي عبد الله خليل، بل وأرسله إلى (ناقيشوط) مُعتقلاً مع غيره من السِّياسيين؛ فقد قوى الرئيس العسكري وخلفه مؤسسة لا يُستهان بها – وإن لم تكن السِّياسة مُهمّتها الأصيلة.

قد يكون الحزب الشيوعي قد ظنّ أنّ تحالفه مع المؤسسة العسكرية سوف يختلف عن تحالف خليل – عبود؛ الذي ساندته بياناتٌ طائفيةٌ بلا مُعينات ضرورية أخرى يملكها الحزب صاحب الإمكانات التنظيمية والقُدرات على الحِـراك الجماهيري. ولا بُدّ أن يكون الحزب قد رَاهنَ على (كاريزما) وصيت قيادة الحزب؛ فلن يكون لـ(النميري) وجودٌ يُذكر في حضور (عبد الخالق) الطاغي؛ ولن يتقدّم الجيش على الحزب، خاصّةً وأنّ للحزب عضوية في المؤسسة العسكرية.. لكن… الرهان فشل فشلاً خطيراً، دفع على إثره الحزب ثمناً باهظاً لا احتاج أن أعيد تفاصيله.

فما بال الجبهة الإسلامية تُعيد ذات التجربة، وتحاكي نفس التحالف، غير مُتّعظةٍ بما حَاقَ بالحزب الشيوعي..؟!

يبدو أنّ الجبهة الإسلامية، قد توهّمت أن العسكري الإسلامي يختلف جوهرياً عن عضوية العسكريين الحزبيين الآخرين – يُوجِّهه التزامه الديني إلى طاعة (ولي الأمر) ولو كان شيخاً خارج المؤسسة العسكرية؛ وأنّ مؤثرات وتوجيهات التنظيم الإسلامي أقوى من علاقات رفاق السِّلاح مع بعضهم.

لكن؛ عندما حانت لحظات المُفاضلة الحاسمة بين المؤسسة العسكرية والتنظيم، انحاز عبد الرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح لرفيق السلاح عمر البشير، ومعهم ضباطٌ لا ينتمون للتنظيم ليتساووا جميعاً في تجاوز الشيخ حسن الترابي؛ ولما أصَـرّ الشيخ فيما بعد على المُواجهة، لم يتردّدوا في إرساله إلى السجن، ليصعد نجم العسكري عمر البشير وينزوي تدريجياً المفكر السياسي صاحب ندوة أكتوبر الأستاذ الجامعي حسن الترابي، ويتراجع دور الحركة الإسلامية وتتقدّم كثيراً المؤسسة العسكرية، حتى احتل قائد الجيش موقع رئيس الحزب الحاكم.

التجربة التالية، هي تجربة التجمُّع الوطني الديمقراطي الذي ضَــمّ قِوى مدنية سياسية مع (الجيش) الشعبي لتحرير السودان – الجناح العسكري للحركة الشعبية.. هذه تجربة تحتاج لتقييم أدق؛ فإذا كنا قد لاحظنا في التجارب المُستعرضة أنّ العسكري يكسب الرهان على الدوام؛ رغم ندية الدور المدني ورغم محدودية الدور العسكري في عملية انقلابية لا تستغرق سوى ساعاتٍ، ندرك مخاطرة المدنيين في طلب العون العسكري من الحركة الشعبية، لاسترداد الديمقراطية من نظام تحرسه المؤسسة العسكرية والتدابير الأمنية والإجراءات القمعية. فهذه مُهمّة شاقّة لن تُؤدِّيها الحركة الشعبية إلّا بمُقابلٍ كبيرٍ، إذ لن تقبل الحركة أن يبذل مُقاتلوها دماءهم من أجل أن يستعيد ساسة في الشمال الحكم في الخرطوم.

الحقيقة الثانية في التحالف العسكري السياسي في تجربة التجمُّع الوطني الديمقراطي، هي أنّ الحركة الشعبية وجيشها الشعبي هما امتدادان للحركة السياسية الجنوبية المعنية بالأوضاع الخاصّة بجنوب السودان – وإن ادّعت أنّها حركة معنية بتحرير كل السودان. وما أن لاحت للحركة فرصة حل الإشكال الجنوبي دون سائر القطر، حتى سارعت إلى قطف الثمرة الدانية لتترك التجمُّع يُواجه (قضيته) التي تهمه في الشمال بدون أن تحس الحركة أنّها قد خسرت شيئاً.

تجربة التجمُّع الوطني خير مثال لخطر (استعارة) قوة غير أصيلة؛ ومع الإقرار بأنّها استعارةٌ اضطراريةٌ لا بُدّ من الاعتراف بأنّ استقواء السياسي بالعسكري، لا يجبر السياسي على تقديم تنازلات فحسب؛ بل يضعه تحت التهديد الدائم بالإقصاء، كما حَدثَ في تجارب مايو والإنقاذ – وكما حَدثَ من الحركة الشعبية حينما تخلّت عن حلفائها في التجمُّع ووقّعت اتفاق السلام مع نظام الإنقاذ الإسلامي.

آخــر تجارب التحالفات العسكرية السياسية، هي التحالف بين بعض القِوى المدنية في (الحرية والتغيير) وقوات الدعم السريع، وهو التجربة الأسوأ، لعدم اعتبارها بمآلات التجارب السابقة التي كان فيها المدنيون ضحية المؤسسة العسكرية، وللتجاهل التام لتاريخ الدعم السريع في التفلُّت، بل وفي الاستباحة. ومثلما تعامى قادة التجمُّع الوطني عن رؤية حقيقة العلاقة مع حركة إقليمية معنية بمظالم شعب بعينه، تعامى قادة الحرية والتغيير عن رؤية حقيقة تركيز الدعم السريع على أهداف قبلية محدودة ومطامع أسرية وشخصية. ومثلما خابت آمال التجمُّع الوطني الديمقراطي في أن يستعيد (له) دكتور جون قرنق الديمقراطية في الخرطوم، تخيّب آمال الحرية والتغيير في (حميدتي)، الذي لا تُؤهِّله معارفه ولا مُؤهِّلاته لحمل تصوُّر عن كيفية تأسيس النظام الديمقراطي. واتّصفت تجربة التحالف الأخير بـ(طور) أخطر، فالحليف العسكري هذه المرة لا تلجمه ضوابط وأعراف المؤسسات العسكرية الحديثة، فانتكس عاجلاً لطبعه الأصيل – يطرد ويرهب ويسحل ويقتل ويصدم بالصدمات التي افتتحنا بها المقال.

تجارب مريرة، علّها تجعل القوى السياسية مُدركةً لخطر الاستقواء بالعسكري – مهما كانت الذرائع. ولا تكتمل العبرة إلا بأن تعد القوى المدنية العدة لاستحقاقات الحكم الصعبة، بأن تمارس الأحزاب عملية إصلاح كاملة تشمل بالضرورة استشعار أهمية الطرح الفكري والبرامج السياسية، وتشمل ممارسة الديمقراطية الداخلية وتأهيل العضوية، حتى تتجاوز حالة الأداء البائس للمؤسسة الحزبية، الذي انعكس سلباً على أداء الحكم المدني، خاصّةً في الديمقراطية الثالثة وفي فترة الانتقال بعد ثورة ديسمبر، وهو ما يمنح الانقلابيين وأشياعهم فرصة الادّعاء بضرورة التدخُّل العسكري لـ(حسم) المدنيين ووضع حدٍّ لحالة (التلكؤ) والبُـطء – حسب دعاوى الانقلابيين.

فهل من ملامح تُبشِّر بالعِظَـة من تجارب الفشل الماضية، التي أفضت إلى درك الفوضى والاستباحة..؟!

شارك الخبر

Comments are closed.