الحرب في السُّودان.. أخطاءٌ تراكميةٌ يتحمّلها الجميع

حاتم السر علي

دخل السُّودان في حرب طاحنة منذ منتصف أبريل الماضي كنتاج طبيعي لأخطاء تراكمية؛ يجب مراجعتها بصراحة ووضوح لتلافيها، حيث تتحمّل مسؤوليتها العديد من الأطراف السودانية، التي خلقت جهات موازية لمؤسسات الدولة، وتسبّبت في هشاشة النسيج المجتمعي أيضاً.

المرحلة الأولى من الأخطاء ارتكبتها حكومة الإنقاذ التي بدأت منذ العام 1989، حيث لم تتوافر أي ثقة في الدولة، ولا مؤسساتها، ولم تكتف بأن شردت الخبرات العسكرية السودانية، بل قامت بتأسيس قوات موازية متنوعة، من بينها الدفاع الشعبي، وقوات أخرى، جعلت السلاح يصل إلى أكثر من مصدر للقوى السياسية، وحتى عندما أنشأت قوات الدعم السريع، قامت بتسليحها، ورعايتها، وتمكينها عسكرياً على حساب القوات المسلحة النظامية.
أذكر حينما كنا نسعى للتفاوض لانضمام السودان إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)، كان ملف الشركات التابعة للمؤسسات الأمنية والعسكرية، أحد الملفات التي تُعيق العملية التفاوضية.
ولا يُعقل أن تكون لهذه القوات قانونها الخاص، حيث تصَـدّت نائبة من الحزب الاتحادي في البرلمان دون سواها لهذه التجاوزات، وأوضحتها في وقتها، لم يشاركها أحدٌ سوى بعض العسكريين النابهين، والمثقفين المعروفين.

أما المرحلة الثانية من الأخطاء اُرتكبت في مرحلة ما بعد تغيير النظام، حين دخل المكون العسكري منفرداً في شراكة ثنائية مع الحرية والتغيير، مكّنت الدعم السريع من معظم مفاصل الحكومة الانتقالية بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية وإقامة علاقات خارجية خاصة به.
وسبق أن حذر الحزب الاتحادي من مضار الشراكة الثنائية، ومن التشاكس في المعسكرات.

المرحلة الثالثة من الأخطاء المتراكمة، كانت هي مرحلة انفجار الحرب وتمرُّد المليشيا؛ صحبتها حزمةٌ من الخطايا بينها الإقصاء والتباعد والحدة وضيق الأفق، وهي التي أدّت إلى اصطفاف على مبادئ عرقية بغيضة، وإلى تقديرات خاطئة جعلت البعض يُفضِّل الوقوف ضد الدولة ومؤسساتها القومية الدستورية، مكايدةً، وهذا سلوك أدى إلى فقدان الكثير من قيادات الحرية والتغيير، لشعبيتهم الجارفة أثناء الثورة. وكان من الطبيعي أن تتّسع دائرة اكتساب الجيش لدعم المواطنين ومساندة الشعب ووقوف الناس إلى جانبه، باعتباره صمام الأمان لحماية أمن السودان وضمان وحدته الوطنية، دون أن يعني هذا أنّ هناك مؤسسة فوق الإصلاح.

الحرب بطبيعة الحال فعلٌ مرفوضٌ، لأنه يمثل صراعاً سياسياً على السلطة، حتى لو حاول البعض تغليفه بشعارات مُحاربة التهميش ورفع المظالم، أو مُحاربة النظام السابق؛ وإعادة المسار المدني الديمقراطي، فهو صراعٌ حول مَن يجلس على عرش السودان، وهذا السلوك غير مقبول البتّـة، فلا يمكن أن تكون دماء المواطنين وممتلكاتهم ثمناً ورصيداً لسياسي يستخدم تمرد قوات مسلحة على قيادتها.
والمؤكد ألّا شرعية ولا سلطة من دون انتخابات حرة ونزيهة، وتتحمّل الحاضنة السياسية للحكومة السابقة فشل الفترة الانتقالية، فهي طوال فترة حكمها، لم يُعرف عنها ميلٌ لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية ولا رغبة في إجراء الانتخابات، بحيث يكون للشعب رأيه، في تقرير السياسات وتحديد الخيارات الوطنية.
ولا يُخفى أنّ مُعظم فصائل الحاضنة الخاصة بالحكومة الانتقالية افتقروا إلى التجربة الانتخابية والثقافة الديمقراطية والإطارات التشريعية الديمقراطية، ويُمكن التدليل على ذلك بالعديد من الأمثلة والوقائع والمواقف.

المَخرج من هذه الأزمة، يبدأ بوحدة أهل السودان على مختلف انتماءاتهم السياسية وتوجُّهاتهم الفكرية والتئام شملهم في ملتقى جامع ومؤتمر قومي دستوري.

الآن يعد منبر جدة والمبادرات المبذولة من دول الجوار، خاصةً مصر، المخرج من الحرب، لكن منبر جدة يستحق الدعم القوي لأنه لامس قضايا جوهرية تخص المدنيين، منها إخلاء منازل المواطنين والمرافق العامة من المليشيات، وكل الأمل أن تتكلّل جولاته بإبرام اتفاق على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب وتحقيق نتائج عاجلة وإيجابية.
وبما أنّ منبر جدة استوعب دور الإيقاد، فمن المهم أيضاً أن يستوعب دور مبادرة دول جوار السودان وعلى رأسها مصر.

والملاحظ أنّ رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان كان واضحاً حين تحدّث في مكاشفة ما بعد دخول الدعم السريع ولاية الجزيرة، وبرغم الألم، كان واضحاً، في أنّ خيار التفاوض، لن يكون خصماً على الدولة ولا الجيش، بل سيكون لتأمين المكتسبات، وعلينا إلّا نستعجل لتخوين الدولة ورجالها، يمكن الانتقاد ولكن التخوين ليس سلوكاً يبني الأوطان؛ وكنت تابعت باستغرابٍ، سيل الانتقادات التي وُجِّهت لنائب القائد العام، عضو مجلس السيادة، الفريق أول شمس الدين كباشي، لسفره في يوم المعارك نفسها إلى الكويت لتقديم العزاء في وفاة أميرها، لكن المؤكد أن سفر كباشي إلى الكويت كبيرٌ، فالكويت دولة عزيزة وشقيقة، دعمت دوماً الشعب السوداني، والذهاب لأداء واجب العزاء في أميرها الراحل، مهمة وطنية بامتياز، وتُصَـب في خانة القرارات الصائبة التي يجب الثناء عليها والإشادة بها لا انتقادها.

ولا يفوتنا في هذه السانحة، النظر بغبطة إلى العرس الانتخابي الديمقراطي في مصر والذي توِّج بفوز الرئيس السيسي في كسب ثقة الشعب، فنحن نحتاج الإشادة بهذه النماذج، ومصر الديمقراطية تحتاج إلى سودان ديمقراطي في جوارها، ونتمنى أن تعود الانتخابات إلى بلادنا السودان، وتعود المحكمة الدستورية، وتعود الشرعية للقانون، والصناديق، لا البنادق والشعارات.
كلي آمل أن يكون العام الجديد 2024 عاماً لنجاح منبر جدة والوصول إلى أهدافه في وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب في السودان، وفتح الطريق للتقدم بشأن العملية السياسية والدخول في مراحلها النهائية، ويجب على الجبهة القومية الإسلامية وتياراتها جميعاً تقديم مراجعات، وأن تلتف كل القوى السياسية السودانية حول الوطن وتدعم المؤسسات الدستورية القومية للدولة وتعزيز دورها، والترفع عن حظوظ النفس، وإعلاء المصلحة الوطنية ومصلحة البلاد العليا ووضعها فوق مصالح الأحـزاب والأفـراد.

شارك الخبر

Comments are closed.