الكاتب السَّاخر والباحث د. فتح العليم عبد الله في حوار عن التاريخ الاجتماعي والمُخالفات الاجتماعيّة

حاوره: خالد البلولة

يُعد د. فتح العليم عبد الله، أحد المُختصين في علم الآثار والباحثين في التاريخ الاجتماعي السوداني، ورائدا من رُوّاد الكتابة السَّاخرة. تخرج في جامعة الخرطوم كلية الآداب ويعمل أستاذاً مشاركاً بقسم الآثار جامعة أم درمان الأهلية منذ العام 1988. وأصدر عدداً من الكتب تناولت بعض حكايات وملامح التاريخ الاجتماعي، السوداني، منها كتاب (الرقراق) 2010م و(كتاب أرض الطيبين) عن دار النشر التربوي عام 2007م و(عجائب الخرطوم السبعة) وكتاب (عزيزٌ أنت يا وطني).. فتح العليم مثل سائر السودانيين الذين شرّدتهم الحرب، التقيته بمدينة الدوحة، حيث طاب له المقام مؤقتاً التي جاء إليها زائراً وليس غائراً، فالسوداني عندما يلتقي عزيزاً بعد غياب يقول له (الليلة جيتنا زائر ولا غائر)، حاولت أقلِّب معه بعض الأوراق المطوية في تاريخ حياتنا الاجتماعية التي يسميها هو (المخالفات الاجتماعية).
(١)
*كثير من التاريخ الاجتماعي في السودان مسكوتٌ عنه، وينظر إليه بحذر شديد.. ما رأيك؟
التاريخ الاجتماعي في كل المجتمعات مسكوت عنه وليس في السودان، ويسمى (المتروك عمداً) وإذا لاحظت تجد الأكثر شُهرةً في التاريخ، أخبار الحروبات والانتصارات أو الأشياء القابلة للنشر، الأشياء المسكوت عنها لا تنتشر بسهولة وربما يخجل منها الناس، لكنها تنتشر سريعاً. فالأشياء المعتادة والمشرقة لا تجد حظها من الرواج، فالرقص على صوت النقارة وقت الحصاد حاجة عادية مألوفة، لكن إذا وجدت مجموعة ترقص على جثث موتاه في الخفاء يجد حظه في الذيوع والانتشار، في فترة ما كان المجتمع مجتمعاً ذكورياً وفي وسطه انتشرت مخالفات اجتماعية، وكتب عنها الرّحّالة الأجانب بعد أن غادروا البلاد خشية الانتقام لأنهم يكتبون الحقائق مُجرّدة.
*ومع ذلك كتب عددٌ من المُؤرِّخين مؤلفات تناولت التاريج الاجتماعي؟
صحيحٌ، وهناك كتبٌ في التاريخ الاجتماعي تمس شرف وثوابت المجتمع السوداني كتبها عددٌ من المُؤرِّخين منهم جيمس بروس 1779م في كتابه (رحلات لاكتشاف مصدر النيل) الجُزء الرابع صـ(648)، وذكر فيه أنّه زار شندي في القرن 18 وكانت تحكمها امرأة قوية وهي والدة إدريس الفحل وأخت المك ود عجيب، لم يشهد عهدها مخالفات سوى تجارة الرقيق وليس لها يدٌ في ذلك، وهناك أيضاً كتاب رحلات إلى بلاد السودان لمؤلفه جون لويس بوكهارت وهو رحالة فرنسي.
*يُعد كتاب تاريخ الخرطوم تحت الحكم المصري من كتب التاريخ الاجتماعي التي أثارت ضجّةً كبيرةً، وتناول الكثير من المسكوت عنه في التاريخ الاجتماعي السوداني؟
الكتاب عبارة عن أطروحة علمية حصل بها صاحبها د. أحمد أحمد سيد أحمد، على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة كلية الآداب قسم التاريخ في عام 1963م، وجدته صدفة في سوق الأزبكية بمصر، والكاتب والده كان في جيش الهجانة بعين شمس، وأعتقد أنه أخفى نفسه خوفاً من بعض الأسر التي تعرض لها عبر سرده لبعض الظواهر والممارسات المسكوت عنها يومذاك والتي هزّت الضمير السوداني، لكنها تظل حقائق، وأورد أسماء بعض الأسر، وتعرّض لعوالمها السرية.
*ارتبط التاريخ بالأحداث الماضية واكتشاف الأنشطة البشرية وتفسير المعلومات حول هذه الأحداث، ومع ذلك قد تتداخل الاختصاصات بين علوم أخرى؟
قد يتساءل شخصٌ ما (هو التاريخ ده حق منو؟) أو كفرع من فروع العلوم لمن يتبع؟ على سبيل المثال إذا طلبت من المُؤرِّخين نبذة تاريخية عن تاريخ الصيدلة في السودان تتم إحالتك إلى الجهات المختصة في الصيدلة أو السُّموم أو وزارة الصحة باعتبارها الجهات المختصة، وإذا ذهبت إلى وزارة الصحة لجمع معلومات عن تاريخ الطب السوداني تتم إحالتك إلى قسم التاريخ بكليات الآداب، لذلك التاريخ حاوية الأحداث، يشمل التاريخ الاجتماعي والثقافي والصحي والسياسي والحربي، فهو عبارة عن أنشطة بشرية لكُلّ السُّلوكيات التي تظهر في التاريخ الإنساني.

(٢)
*كتابة المذكرات والسِّير الذاتية تُعد من التاريخ وتحفل بالكثير من التفاصيل، في السودان لا نحتفي بكتابة السِّير الذاتية وإذا كتبت تكتب بكثير من التجمُّل، ويُعد الشيخ بابكر بدري نموذجاً خارقاً للعادة.. ما رأيك؟
في تقديري، إنّ بابكر بدري رجلٌ شجاعٌ وصادقٌ ويمتلك جرأة لا نظير لها مُقارنةً بالمجتمع الذي يعيش فيه، وفي وقت كانت ثقافة التابو مسيطرة على أذهان الناس اطلعت على النسخ الثلاث قبل تنقيحها أهدتني لها الأستاذة ستنا بدري عمة قاسم بدري قبل ثلاثة عقود وفقدتها بعد أن اجتاح التتار الجُـدد الخرطوم ومن ضمنها منزلي.
وبابكر بدري لا يعتد به من قِبل المُؤرِّخين كمصدر تاريخي لجرأته وتم حذف الكثير مما كتبه بعد تنقيح سيرته الذاتية ومازالت الناس تبحث عن النسخة الأولى من كتبه غير المُنقّحة. التاريخ يكتب الحقائق مُجرّدة ومن ضمنها السِّير الذاتية، لكننا نتعامل بالقول المأثور (اذكروا محاسن موتاكم) أو (عفا الله عما سلف).
*رغم أنّ علم الآثار له ارتباطٌ وثيقٌ مع التاريخ وعلم الإناسة مازلنا ننظر إليه نظرة متخلفة لا نحتفي به مثل التخصصات الأخرى؟
علم الآثار رغم أنّه علمٌ يختص بدراسة البقايا المادية التي خلّفها الإنسان مثل المباني والقطع الفنية والأدوات والفخار والصناعات على اختلاف أنواعها، ويهتم بدراسة المحيط الذي يعيش فيه الإنسان والظواهر الطبيعية المرتبطة به كالزلازل والبراكين والمناخ ودراسة الثروة الحيوانية ودراسة الثروة النباتية والحيوانية، فهو تخصُّصٌ مُكلِّفٌ جداً، والآثار لم تكن في السودان إلّا في جامعتين (جامعة الخرطوم وجامعة شندي – مركز أبحاث الآثار والتراث)، وبعد ذلك تأسست أقسام الآثار في جامعات أخرى.
فالآثار تنقسم إلى نوعين، أثر مادي ويسمى الآثار، وأثر شفاهي مثل الروايات التي تحكى، وطالب الآثار يدرس علوماً مختلفة المناخ والجيولوجيا والكيمياء، وهنالك علمٌ من خلاله يتعرّف الآثاري على عُمر الشجرة، الأشجار والفروع والجذور في مجتمع الغابات واسمه علم (الديندرو كرونولجي) وهي أنّ الشجرة تصنع حلقة حول جذعها سنوياً، ولذلك تجد أنّ عُمرها يساوي عدد حلقاتها وتفيد كثيراً في معرفة التاريخ للمنطقة والموجودات فيها وحولها، فالشجرة التي عمرها 300 سنة تجد لها 300 حلقة. فالجثامين تحت الأرض غير مرتبة ويصعب التّعرُّف على الشخص كم عاش من السنوات، لكن تُوجـد مادة كربونية تُحَدِّد تاريخ موت الشخص، لكن لا تستطيع أن تُحدِّد كم عاش من السنوات وكمية الكربون في الشخص الذي عاش سبع سنوات هي نفسها في الذي مائة عام أو يزيد.
*انتشار الدراما التركية عبر الفضائيات لها تأثيرٌ واضحٌ على المجتمعات العربية، لكن الحياة الاجتماعية السودانية تأثّرت بالاستعمار التركي والثقافة المصاحبة له؟
الأتراك بعدما غزوا السودان بحثاً عن الرجال والأقوياء والذهب، مكثوا 60 عاماً، تركوا ثقافتهم التي إحدثت تأثيراً واضحاً على مجمل الحياة الاجتماعية في السودان ويظهر هذا التأثير فى جوانب كثيرة، منها نظام الغذاء طريقة المائدة (الصفرة) ونظام الملبس – الزي الأفرنجي والطربوش والمأكولات (العدس والفول المصري وسمي بهذا الاسم لأنّه كان يأكله المصريون في السودان)، ولا ننسى تأثير اللغة (شفخانة، إجزخانة، الإشلاق، كرباج، دفتردار ومسحاج آلة النجارة)، وكان القصاص في السودان قبل الأتراك يتم بالسيف وأدخلوا الإعدام بالرصاص والشنق بالنبوت.
*ما الذي استفدته من دراسة الآثار؟
واحدة من فوائد العمل في الآثار، أنها أتاحت لنا فرصة لزيارة مناطق أثرية داخل وخارج السودان، وتقريباً زُرت معظم المواقع الأثرية في السودان ومصر واليونان، تعلّمت من الآثار الصبر والشدة، فأنت تعمل في مواقع خارجية في الحَـرّ الشديد والبرد القارص، المُدَرِّسون الذين يأتون للتنقيب يأتون في فصل الشتاء وتتكلّف الجهة التي تأتي بالمُنقِّبين الأجانب بالتكلفة مُقابل أن يكون لديهم جُزءٌ من المقتنيات 51% للسودان و49% للجهة المُنقِّبة.
*(فيك يا مروي شفت كل جديد)، تُعد مدرسة مروي الثانوية علامة فارقة في مسيرة د. فتح العليم عبد الله حدِّثنا عن تجربتك في تلك المؤسسة التعليمية؟
قال ضاحكاً: (إنت جيت في حِتّة فيها دقداق كتير)، نعم تُعد مدرسة مروي الثانوية حاضنة وحاوية للمواهب، كنت طالباً محظوظاً من ضمن الأربعين المحظوظين، الذين تَمّ قبولهم بمدرسة مروي الثانوية، وكان يومذاك يمتحن عدد كبير من الطلاب من مدارس متعددة، ويختاروا منهم 40 طالباً فقط يسمونهم الفائزين، والتحاقهم بالمدرسة الثانوية في ذلك الوقت، يعني إنت تفارق أسرتك لأول مرة وتلتقي بطلاب من مناطق شتّى لأوّل مرّة، فمدرسة مروي هي البراح الأوسع الذي يجمع شتاتاً مختلفاً من الطلاب، ولأنّنا جئناها من مناطق بعيدة ويصعب علينا الذهاب إلى أهلنا كل خميس أو كل 15 يوماً، كنا نتبادل الزيارات مع طلاب القرى القريبة من مروي، وظلت علاقاتنا مُمتدة ومستمرة مع زملائنا في المدارس الثانوية.
*الطالب عندما يلتحق بالمدرسة في مرحلة مختلفة يتذكر الزملاء والمُدرِّسين أكيد هناك زملاء ومُدرِّسون في الذاكرة؟
أكيد ونذكر منهم على سبيل المثال الأستاذ عبد الله سيد أحمد مستشار في مجلس الوزراء بقطر وكان طالباً موهوباً، حيث كان يحرر صحيفة اسمها نبتة وكان يقدم برامج في الإذاعة أيام دراسته بالجامعة، وهناك د. عمر النجيب وزير الصحة في حكومة الثورة، وصلاح قرينات في لجنة حقوق الإنسان بجنيف، وفي مروي لا أنسى معلمي إبراهيم أحمد طه (إبراهيم التكاسي)، فهذا المعلم الإنسان مكتبة تمشي على قدمين وقد حبب إليّ اللغة الإنجليزية، في وقت كنت لا أحب مادة الرياضيات (لأن الله من خلقني خلقني طالباً أدبياً) وبيتنا ما فيه زول أدبي إلّا عمك ده وزوجتي خريجة اقتصاد. وبعض أبنائي تخرجوا في مدرسة العلوم الرياضية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.