ترجمة وعرض: حامد فضل الله – برلين

فيلسوف نزع الخوف (1)
الذكرى التسعين لميلاد يورغن هابرماس

شارك الخبر

هيريبرت برانتل
مُهداة إلى د. هشام عمر النور، أستاذ الفلسفة – جامعة النيلين – السودان
“بلغ يورغن هابرماس في 18/6/2019م، 90 عاماً، إنه الفيلسوف الأكثر شُهرةً – فهو يؤمن بعقل الإنسان وقوة الديمقراطية. تقاطرت كلمات التقدير من جميع أنحاء العالم. نشرت صحيفة “دي تسايت” الأسبوعية في 13 يونيو 2019 لوحدها، 25 مقالاً وبحثاً من العلماء وأساتذة الفلسفة. أعرض هنا المقال الطريف للكاتب والحقوقي وأستاذ شرف في جامعة بيلافلد وكاتب عمود في صحيفة “سوددويتشا تسايتنج” اليومية الشهيرة، ويعتبر هيربيرت برانتل أهم صوت يساري ليبرالي في الصحافة الألمانية. كتب المقال بحميمية ونشر في مجلة “أوراق للسياسة الألمانية والدولية عدد 6/ 2019”.
في نظرية الفعل التّواصِلي، التي تُعد جُزءاً أساسياً من عَمل يورغن هابرماس العلمي، لا يلعب الضحك أيِّ دورٍ – على الرغم من أنّ الضحك لا يجب أن يُترجم إلى أربعين لغة، كَمَا حَـدَث مع أعماله الفَلسفية. فلا يَحدث فعل تفاهُم بأيِّ حَالٍ من الأحـوال بهذه السُّرعة وبهذه الدِّقة وبدون مُقدِّمَات، مثل فعل الضحك. الضحك هو خطاب من نوعية خاصّة، له قُوة تَواصُل وقُوة معدية.
يقول المنطق الحديث والفَلسفة التّحليليّة، بأنّ الضحك هو في الواقع ليس قولاً وإنّما “تعبيرٌ” – مثل آهـ. يُمكن أن تكون الأقوال صحيحة أو خاطئة، وليست التعابير. لذلك، يقال إن الخطابات تتكوّن فقط من التعابير. لكن هذا لا يُنصف مَغزى الضحك تَماماً. لذلك يجب إعطاء مساحة لمعنى خطاب الضحك.
الحديث هنا ليس عن القهقهة الغبية وليس أيضاً عن الابتسامة الازدرائية ولا حتى عن الضحكة المهينة؛ على الرغم من أنّ هذا أيضاً جُزءٌ من شجرة عائلة الضحك، ولكن هذا يُشكِّل جانباً فقط، فهو انحرافٌ أو انحطاطٌ. الحديث هنا عن الضحك الحقيقي، الضحك التّحرُّري الكبير الذي يبدأ أحياناً بابتسامةٍ تتكشّف وتزداد لتدغدغ وتهز الشخص بالكامل وتنتهي في بعض الأحيان بفترة من النعيم مع تنهُّد بارتياحٍ.
يُحوِّل مثل هذا الضحك الرسميات إلى انبساطٍ؛ يجعل الأشخاص الذين بالكاد أو على الإطلاق لا يعرفون بعضهم البعض، أصدقاءً – أحياناً لأمسية واحدة، وأحياناً لسنواتٍ. يُمكن أحياناً لمثل هذا الضحك لبضع ساعات، تغيير العالم. مثل هذا الضحك هو المقياس الذي يجعل المرء ينزل من عليائه.. إنّه يصنع فيلسوفاً، ويجعل الرئيس شخصاً عاديّاً. إنّها أجمل بداية لخطاب عدم الهيمنة، ويجعل الضحك من الناس في هذه اللحظة أحراراً وأقراناً.
يعرف يورغن هابرماس ذلك وأنّه يعرف بأنّه يستطيع أن يفعل ذلك، وهو في حياته الخاصّة شَخصٌ مَرحٌ للغاية. ربما يكون هذا هو السر، ولكن ربما يكون ذلك أيضاً نتيجة نجاحه. لا تعرف قارئة أطروحته الشهيرة حول “التّحوُّل البنيوي في المجال العام” في أنّ هذا الرجل يُمكن أن يكون صاخباً وبشوشاً؛ وهذا ينطبق أيضاً على قارئ عمله العظيم:
“الحَقيقة والتّبرير” في نظرية خطاب القَانُون: بأنّ هذا الكَاتب العِلمي الرّصين واحدٌ من مُبدعي نظرية الخطاب، الذي يصوغ الأفكار المُعقّدة للغاية، يُسيطر على الضحك باعتباره أحد الأشكال الجميلة للحَد من التّعقيد. تنتمي النكتة والمِزاح والدُّعابة والمَرَح في المُمارسة الحياتية اليومية لهابرماس.
التقى يورغن هابرماس وديتر هيلدبراندت شخصياً، لأول مَرّة في حياتهما قبل عقدٍ من الزمان، في دائرةٍ صغيرةٍ وفي مُحيطٍ خاصٍ وعلى طاولةٍ كبيرةٍ. كل منهما فيلسوف بطريقته الخَاصّة. هابرماس، مُفكِّر سياسي كلاسيكي، عالمي، شَخصٌ يُحاول الوُصُول إلى عُمق الأشياء. والآخر هو فَنّانٌ كوميدي سياسيٌّ رائعٌ، يُفكِّر في هذه الأشياء بطريقته الفريدة اللاذعة.. لقد رافقا النزاعات والمُناقشات السِّياسيَّة للجمهوريّة الفيدراليّة بطريقتهما الخَاصّة، وكلاهما يعتبران من اليسار، وانخرطا في الحركات والمُناقشات العظيمة للجمهوريّة الفيدراليّة القديمة والجَديدة، بدايةً بحركة “مُكافحة القتل بالسلاح الذري” ومَسيرات عيد الفصح ضد تقييد حق اللجوء. ويرى هابرماس أنّ تعديل حق اللجوء القديم بحذف المادة (16) الفقرة (2) من القانون الأساسي تعبيرٌ عن عقلية الرفاهية الشوفينية.
تأمّل الاثنان بعُمقٍ في الثورة والثورة الزائفة في فترة الاضطرابات الطلابية، ونَبَذَا العُنف؛ لقد قَامَ كلاهما بمُراجعة المَاضي النَّازي، وجادلا حول اديناور وانتقدا انجيلا ميركل. ولهبرماس مقالات وكتاباتٌ عديدةٌ طبّق فيها ما قام بتدريسه في أعماله العَظيمة عن الخطاب والتّواصُل، في المُناقشات الحالية.
فعل هيلدبراندت ذلك في “جمعية الضحك والرماية” بميونخ وفي المُداخلات التلفزيونية التي كانت لاذعة للغاية، لدرجة أنّ محطة التلفزيون البافارية أغلقت البرنامج لتجنُّب غضب الحزب الاجتماعي المسيحي الحاكم.
لقد أثر هابرماس وكذلك هيلدبراندت، بطُرقٍ مُختلفةٍ تماماً، على المُناقشات التي رَافَقَت طريق الجمهورية الفيدرالية إلى أوروبا – أوروبا التي تمثل لهابرماس “جماعة سياسيّة عالية المُستوى” وتُعتبر خَطوةً حَاسمةً في طريقها إلى مُجتمع عالمي مُكوّن من الناحية السِّياسيَّة. دافع هيلدبراندت، الذي تُوفي في عام 2013، عن أوروبا بنفس الشدة والصرامة وبطاقةٍ شبابيةٍ، ضد القومية الجديدة والتطرُّف الشعبوي كما فعل هابرماس في السنوات الأخيرة بلا كَلَلٍ. يكتب هابرماس في مُساهمة له بصحيفة “سوددويتشا تسايتنج” عام 2015: “المُواطنون، وليس البنوك، هم الذين يتعيّن عليهم الاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في المسائل الأوروبية المصيرية”. لقد شَجّع منذ ذلك الحين، تَطوير الاتّحاد النقدي إلى اتّحادٍ سياسي.
يجب على الدول القومية منح السيادة لأوروبا الديمقراطية، هكذا كانت ولا تزال عقيدته.
جلس هذان الشّيخان – أعظم فيلسوف ألماني وأعظم كوميدي ألماني جَنباً إلى جَنبٍ على طاولةٍ كبيرةٍ بدعوة خَاصّةٍ، عندما اكتشفا حيواناً باللون الأصفر على رف كُتب، مُستلقٍ على راديو، طوله 35 سم. وهو مثل اللعبة التي يتم شراؤها من محطات خدمة الطُرق السَّريعة الإيطالية، لينشغل بها الأطفال لفترةٍ من الوَقت في المقعد الخلفي. كان الحيوان ممدوداً، وهو مزيجٌ جَرئٌ من الدود والبط مع منقار أحمر، وعند تشغيل المفتاح الصغير، ومع دوران حركة الحيوان، يَنطلق لحنٌ جَذّابٌ ورَائعٌ.
وضع السيدان هابرماس وهيلدبراندت حيوان بطة القطيفة على المنضدة وشاهدا لفترةٍ من الوقت بمُتعة كيف تتحرّك البطة مع اللحن، ثمّ وضعا الحيوان، بحماسٍ وضحكةٍ مَكتومةٍ ومُتنامية على كَتفٍ أو سَاق بعضهما البعض، ليس فحسب من أجل الكرة (الحركة) اللولبية للبطة، بل وليُمارساها بنفسهما.
نحن نعلم منذ رواية “اسم الوردة”، لـ أومبرتو إيكو، بأن الأصوليين يخشون الضحك، الذي يضحك ليس خائفاً، فالضحك يمثل نوعاً من النضال. لذلك يخفي خورخي بورغوس، راهب وأمين المكتبة في رواية إيكو، كتاب الشعر الثاني لأرسطو في مَكتبته بكل الوسائل أمام العالم، أنّه كتابٌ يمتدح الضحك. يعتقد خورخي بورغوس بأنّ الخوف وحده هو الذي يُمكن أن يقود الناس إلى حياة إلهية. يخشى الراهب وأمين المَكتبة من أنّ الضحك يُمكن أن يسقط نظام التخويف في القرون الوسطى. هابرماس هو عكس أمين المَكتبة. نظرية الخِطاب ونظرية التّواصُل هما فلسفة نزع الخوف.
يورغن هابرماس فيلسوف ديمقراطي عالمي. ومطبوعٌ بالحقوق الأساسية وحُقُوق الإنسان. ويُمكن للمرء أن يتصوّر هابرماس، الذي له حِسٌ حَميمٌ بالقانون والعدالة، كرجل قانون. ولو أصبح قانونياً، لعرفنا اليوم مَن هو القانوني العالمي.
فهو على أيِّ حالٍ مؤلفٌ بارعٌ، وأحد الذين اعتنوا ويعتنون دائماً بمُستقبل الصحيفة الجادة، لأنّه لا يُمكن لديمقراطية أن تتحمّل فشل السوق في هذا القطاع. ويُحذِّر في عين الوقت من تغيير شكل الصحافة، لصحافة رعاية تهتم جنباً إلى جنبٍ مع الطبقة السِّياسيَّة من أجل “رفاهية العُملاء” – ومن ثَمّ تُشارك في تخدير ما بعد ديمقراطية المَجَال العَام. وسوف يكون ذلك رُعباً له. وهذا سَيكُون ليس من أجل الضحك، بل من أجل البكاء.
الحكيم العالمي الإنسان السِّياسي يورغن هابرماس كل التوفيق في عيد ميلاده التسعيني.
ــــــــ
Heribert Prantl, der Philosoph der Entängstigung, Jürgen Habermas zum 90. Geburtstag, Blätter für deutsche und internationale Politik, 6 /2019
برلين في 20 يونيو 2019

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.