حين نلتقي أميمة عبدالله

في تلك البقاع الكباشية

شارك الخبر

الهواء ساكن والطريق أخضر والبلاد بداية الخريف والطريق ممتد أمامنا والفضاء المفتوح مغريا للذكريات البعيدة والقلب مثقل بالهم والعيون مرهقة والهالات بائنة والجسد متعب والسيارة لا تأبه لكل ذلك.
تسير مسرعة وكأنما المكان الذي نقصده لا يرهبها، أعرف اسم المكان بيد أنني لا أعرفه، اتجه شمالا بحساب الوقت ساعة وحساب المسافة عدة كيلومترات وحساب الأصدقاء والمعارف – الذين تذكرتهم وأنا في طريقي ذاك – كثر منهم من بقى وهم قليل وأكثرهم تسرب من بين الأيام كما تتسرب الرمال من بين الأصابع وسقطت أسماؤهم من ثقوب الذاكرة وصار الهاتف خفيفا منهم ظهر المكان الذي نقصده والمئذنة التي يجب أن نتوقف عندها، يبعد قليلا عن الشارع الرئيسي ويقع في ذيل القرية قريبا من النيل وتوقفنا عند المبنى العتيق و حوله يحوم بعض الحُوار والمريدين، والشجرة المعمرة المنتشر ظلها الجميل في دائرة كبيرة والصالة الواسعة التي ينتظر فيها من يريد لقاء الخليفة وإنني مما يأمن القلب خائف، من يأمن على قلبه وهو في طريقه إلى شيخٍ معتزل أو إلى مكان خلوة؟!
الصالة مزدحمة بطالبي الحاجة والمشورة والسند، الوجوه الكالحة تحكي قصتها قبل أن ينطق اللسان ويبين، النساء في ثيابهن متلفحات ومشتتات النظر ومنكسرات من أحمال الدنيا وهمومها، دنيا مختلفة لا فيها أخبار المجلس العسكري ولا شارع القيادة ولا أحزان البلاد وثورتها، هناك الناس لا تعرف ولا تريد أن تعرف، النساء في صفٍ طويل يستأذن بأدب الدخول على الخليفة لا يطلبن إلا سترة الحال والمحافظة على البيت حتى وإن قام على السكات.
سألتني إحداهن وقد لمست أنني غريبة المكان:
ما مشكلتك؟
قلت لها: لا مشكلة لدي.
هل كنت أكذب وأنا في بحرٍ لُجيٍ منها؟
قالت لي: نحن هنا لأن الخليفة يعالج لنا مشاكلنا.
وسألتني أخرى: إن شاء الله العساكر اتفقوا مع الناس المعاهم؟ تقصد قوى إعلان الحرية والتغيير.
– ما فضل كتير يا خالة قربوا يتفقوا.
وأنا أطمئن نفسي بإجابتي قبل أن أطمئنها: (الجامعات.. أولادنا طولوا في البيت).. ولم أجد تعليقاً مناسبا أقوله لها
والناس تدخل على الخليفة وحداناً وزرافات كلٌ حسب دوره والرجال من الجانب الآخر يضيق بهم المكان.
قدموا لنا جميعا قهوة إلا أن الرغبة في التعرف على باقي المبني نازعتني وأنا كذلك إذ بأحدهم يقول:
– الضيفة اتفضلي على الخليفة.
ودخلت عليه، إنه لقاؤنا الثاني بعد أن التقيته المرة الأولى في المبادرة السودانية القومية بالفندق الكبير قبل أيام ودعاني بعدها لزيارة المسيد في قريتهم، قرية الكباشي.
ودخلت على الخليفة عبد الوهاب، خليفة الكبابيش، حتى الابتسامة باتت عصية والصوت خرج ضعيفا يكاد لا يُسمع فقد كان طاغيا على المكان بهيبته وجاء كل شيء مضطربا السلام والكلام.
قال لأولاده بصوته الهادئ: طوفوا بها لتتعرف على المكان.
أدخلوني مكان خلوته المنعزل عن بقية المبنى والمنخفض عدة عتبات للأسفل والباب الخشبي الغليظ وما أن فتحته حتى تلقفني دخانٌ كثيف وظلام، كدت أقع ليس لأنني تعثرت بل لأنني أدخل مكان خلوته وجلوسه.
انقطعت الأصوات والضوء
وصارت الدنيا وكأنها بلا ناس.
سألت من يرافقني أن نفتح نافذة، وفتحها وظهر البساط الأخضر وفراغ الغرفة إلا من عنقريب على طرفها الآخر يعود تاريخه لعشرات السنين للوراء والنوافذ المنخفضة والحائط السميك ورائحة القِدم المنبعثة من المكان، جلست على البساط علّ الروح تهدأ في نزاعها وتقصر سفرها نحو أشواق السماء أو علّ بركة البساط تغسلها، أو علّها تريحني من قلقها المفرط وأسئلتها التي لا تنقطع أو تُهدئ من رغبتها الضاغطة نحو الأسفار البعيدة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.