من جمهورية الاعتصام.. إلى بناء البديل (4+7) في سمسم.. نقطة بداية

السر سيداحمد

كَانَت مُفاجأة بكل المقاييس مُشاهدة تجربة تلخص جهد عَشَرات المُؤتمرات والأوراق النظرية عن نقل التقنية والتّرويج للاستثمار في السُّودان.. وأين؟ في منطقة في عُمق الريف وليس بقاعةٍ أنيقةٍ في مُلتقى النيلين مُزيّنة بالحُضُور الخُرطومي المَعهود.
في فبراير الماضي، شاركت وفداً ضَمّ مندوباً من منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، وآخر من بنك التنمية الأفريقي ومُمثلين لشركتين خليجيتين مع مضيفنا وجدي محجوب لزيارة مشروع للشركة الأفريقية في منطقة سمسم، جنوب القضارف يمتد على مساحة 70 ألف فدان.
استمع الوفد إلى مُهندس من زيمبابوي وهو يَشرح كيفية عمل 30 من الزّرّاعات التي تقوم بخلط البذور والسماد ومن ثَمّ تسريع عملية الزراعة عبر ميكنتها وتقليص الحاجة للعَمَالة إلى الحَد الأدنى الذي يَتَطَلّب وُجُود قَدرٍ من الخِبرة التّقنية لإدارة هذه الآليات التي تُكَلِّف الواحدة منها عشرات الآلاف من الدولارات. تُشير ماركات الآليات الموجودة إلى أنّه تمّ توفيرها من مُختلف الشركات الأمريكية والأوروبية والبرازيلية وتَشمل بعض الأنواع المشهورة عَالمياً مثل جون ديير، وهي جُزءٌ من جُهدٍ مُتّصلٍ لاستخدام التقنية سواء في تحضير الأرض والتجهيز للزراعة أو تلك المُتعلِّقة بالحصاد مثل تلك التي تَحصد وتُنظِّف القطن وتضعه في بالاتٍ إلى جانب التي تَعمل في مجالات مُناولة القطن، حيث تعمل المكابس لكبس القطن بسعة 8 – 10 أطنان وعددها خمسة وترحيلها إلى المحلج بواسطة خمس ناقلات ضخمة. الحاصدات مِن مَاركة جون ديير تقوم بتغليف القطن داخل الحَاصدة في شكل ملفوف “رولز” بطاقة 2 – 3 أطنان ليتم ترحيلها بواسطة شاحنات عادية، وأُخرى تُحصد وتُفَرّغ في قوالب هيدروليكية بطاقةٍ أكبر تَصل إلى 8 – 10 أطنان.
وتستخدم هذه الآليات في زراعة مساحات مُقدّرة وبالتالي فهي تسهم في تَجاوُز مُشكلة العَمَالة ومن ثَمّ خفض التّكلفة مع الانضباط في الوقت والانتهاء من مُختلف العمليات الزراعية قبل هُطُول الأمطار. وكذلك أسهمت هذه التقنية في تقصير المَدَى الزّمني للمُوسم بسبب السُّرعة، والاستغناء عن الخيش الذي كَانَ يُستخدم في تعبئة القطن قبل ترحيله إلى المحلج وتوفير المُساعدة في التّرحيل.
وإلى جانب هذه الآليات المُستخدمة في زراعة وحصاد وترحيل القطن، هناك 20 حاصدة من مُختلف الماركات لحصاد الحُبُوب وزهرة الشمس وفول الصويا.
ويُساعد في هذا الجُهد مركز للأبحاث على مساحة فدانين تسندهما مَزرعة للتجارب الحقلية مساحتها 100 فدان يُديرها خبيرٌ من هيئة البحوث الزراعية ومعه مساعد. يتركّز العمل في البَحث عن أفضل التّقانات للمحاصيل المُستهدفة وتجريب محاصيل وتقانات جديدة.
أمّا الورشة التي تشرف على هذه الآليات فيعمل فيها خمسة مهندسين وسبعة ميكانيكيين مع 20 – 25 ميكانيكياً يعملون مُوسميين. وتمّت الاستعانة بخبرات أجنبية من زيمبابوي وأستراليا وجنوب أفريقيا وبلجيكا، إلى جانب الخبرات السودانية مثل محمد عثمان محمد نور المسؤول عن كل القطاع الشرقي في الشركة. وبما أنّ هذه الآليات تحتاج إلى خِبراتٍ ومهاراتٍ وتدريبٍ مُعيّنٍ يتضمّن تَوافر قَدرٍ من اللغة الإنجليزية والتّعامُل مع الإنترنت لتشغيلها، فإنّ الشركة تُخَطِّط لإقَامَة مَعهدٍ في وَدّ الحُوري القَريبة لِتَدريب كَوادر تَستفيد منها مَشروعات الولاية ويفتح الفُرص أمام الولايات الأُخرى. وسيكون بالمعهد مركزٌ للأبحاث ومحطة للاستشعار من على البُعد والإنذار المُبكِّر والرصد الزراعي. وتجرى الترتيبات مع وزارة التعليم العالي لاستكمال مرحلة التصميم ووضع المناهج ومُستلزمات المَعامل ليقوم المَعهد المُقترح على مساحة 30 فداناً بمنح شهادات ودَرجات علميّة.
هذا الجهد يمثل إضافةً نوعيةً إلى القطاع الزراعي التّقليدي الذي يُشَكِّل عصب الوضع الاقتصادي. ولا غرابة فالشركة وراءها نصف قرن من العمل والتّجارب من العمل في القطاع المطري حتى تمكّنت من وضع بعض العلامات مثل الزراعة بدون حَرثٍ ثُمّ الولوج إلى ميدان التّطوير التقني باستخدام الكمبيوتر والسّتلايت لربط مُختلف مواقع العمل، الأمر الذي مَكّنَ الشركة من تحقيق مُعدّلات إنتاجية تُقارب المُعَدّلات العالمية، ومشروع سمسم هذا يُوفِّر نُموذجاً حَيّاً للترويج في حَدِّ ذاته كما عبّر عن ذلك ممثل منظمة (الفاو) في ختام الرحلة.
هذا الارتباط بالزراعة، دفع الشركة إلى التّوسُّع في مناطق مُختلفة من السُّودان والعمل بصيغٍ مُتعدِّدةٍ مثل مشروعها عبر الشراكة التّعاقُديّة في مشروع أبوحبل بشمال كردفان، وهو المشروع الذي كَادَ أهله يُهجرونه، إذ بدأت التّجربة قبل سنواتٍ ثلاث بزراعة ثلاثة آلاف فدان تَضاعفت أربع مرات خلال هذه الفترة إلى 12 ألفاً والخُطة أن يصل التّوسُّع إلى الطَاقة القُصوى للمشروع وهي حوالي 66 ألف فدان.
بين ما يجري في سمسم جنوب القضارف وفي الخرطوم المشغولة بالترتيبات السِّياسيَّة للفترة الانتقالية أكثر من صلة. فكل الحديث عن الدولة المدنية وإيقاف التّدخُّلات الأجنبية واستدامة التّجربة الديمقراطية لن يَستقيم إلا في وجود قاعدة اقتصادية قوية تُمَكِّن البلاد من إطعام أبنائها في المقام الأول واستغلال الموارد الثريّة التي تزخر بها لدعم حُلم إقامة السودان الديمقراطي الواعد واحتلال مكانه تحت الشمس.
وفي هذا الجهد، فإنّ القطاع الخاص يُمكن أن يلعب دوراً أساسياً متى قَامت الدولة بالمطلوب منها، من ناحيتي تهيئة البنية الأساسية ووضع السِّياسات ومُتابعتها حتى تُؤتى أكلها. وكمثالٍ يُمكن مزج جُهد الجانبين في مَشروعٍ سريع العائد لاستغلال 750 كيلو متراً على شاطئ البحر الأحمر لإقامة صناعة لملح الطعام تَستهدف الدول المُغلقة ابتداءً بالأربع المُجاورة وهي إثيوبيا، تشاد، جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وما وراءها وذلك لإيجاد مصدرٍ جديدٍ للعُملة الصعبة وتعزيزاً للوضعية الاستراتيجية للبلاد وفتحاً لأسواقٍ جديدةٍ وتقوية صلات المَصالح الاقتصاديّة مع دُول الجِوار وتَوسيع ميدان نشاط العمل للقطاع الخاص.
وإلى جانب جهد القطاع الخاص، فإنّ العمل التّعاوني بآفاقٍ استثماريةٍ وتجاريةٍ يمثل ميداناً آخر كما في تجربة قرية ود بلال في الجزيرة التي أقامت لها شركة استثمارية يحمل أسهمها أهل القرية وبعض جمعياتهم، وتُوفِّر لهم إيرادات تمكنهم من الإنفاق على الخدمات لصالح سُكّانها ومُكافحة الفقر بصُورةٍ مُركّزةٍ، وهي تَجربة تَستحق تَعميمها في مُختلف بقاع السودان على الأقل بدايةً بأن تقوم كل محلية من محليات السودان التي يزيد عددها عن 180 محلية باستكشاف الميزة النسبية الموجودة لديها واستنساخ تَجربة ود بلال مع قَدرٍ من التّنسيق ودراسة احتياجات الأسواق المُجَاوِرة. ويُمكن لبعض أجهزة الدولة أن تُقدِّم يَد العون في مجالات الدراسات وتخفيف الإجراءات البيروقراطية والتمويل خَاصّةً الأصغر منه. ومشروع كهذا سَيُوسِّع من الدائرة الإنتاجية كَمَا يسهم في توليد قيادات مَحَلِيّة تَسهم في رفد تجربة التّحوُّل الديمقراطي من خلال المُناقشات المَفتوحة في كُلِّ قريةٍ أو مَحليةٍ حَول المَشروعات ومَشاكلها وكَيفيّة حلها والتّخطيط لمُختلف المَرَاحِل، وأهم من ذلك رَبط السِّياسة بِهُمُوم النّاس الحَياتيّة اليَوميّة أو المُوسميّة.
ومع التّغيير السِّياسي الذي تشهده البلاد والرَّغبة في الإسهام بالبناء الوطني، فإنّ مثل هذه البيئة تُوفِّر مجالاً مُناسباً لنفض الغبار عن الخُطة التي وَضعها بَعض رجال الأعمال بهدف زيادة الإنتاج والعائد من الصّادرات حتى يُمكن سدّ الفجوة بين عائد الصادر وفاتورة الواردات في غُضون فترة ثلاث سنوات. وكان يُفترض أن يبدأ العمل بهذه الخُطة العام الماضي، إذ تتطلّب الخُطة تَوفير تَمويل في العَام الأول بمبلغ 400 مليون دولار. ومِن خِلال برنامجٍ مدروسٍ وعملي لمشروعات مُحَدّدَة يُمكن طرح برنامج التمويل هذا للاكتتاب على الجمهور داخل وخارج السودان من خلال آلياتٍ مُقنعةٍ حول المساهمة والعائد، الأمر الذي يجعل من السهل تغطية الاكتتاب المطروح.
نجاح مثل هذه التجربة سيُوفِّر الفُرصة والثقة المطلوبة للانتقال إلى تجربة أكبر في مشروع قومي. ويُمكن ترشيح مشروع مثل وادى الهواد للتنمية الزراعية والإنتاج الحيواني، الذي يَمتد على مساحة 2.4 مليون فدان كانت مركزاً للإنتاج الزراعي والحيواني في مملكة مروي القديمة. وتتمدّد المساحة التي تَضم الموقعين الأثريين “النقعة والمُصوِّرات” بين ولايات نهر النيل والقضارف وكسلا. ويقع جُزءٌ منه في مناطق يُمكن أن تُروى من ماء النيل وأُخرى للزراعة المطرية وثالثة تعتمد على المياه الجَوفية مِمّا يُتيح الاستثمار في الإنتاجين الزراعي والحيواني، إلى جانب التّصنيع الزراعي.
وتُشِير الدِّراسات الأوليّة للمَشروع إلى أنّ المِسَاحَة التي يَملكها أهالي المنطقة تتراوح في حُدود 600 ألف فدان، وهو مَا يُتيح بقية المِسَاحة وتبلغ 1.8 مليون إلى الاستثمار المحلي والأجنبي في شَكل شراكات سَواءٌ عبر أفرادٍ أو شركاتٍ، وهو ما يَدفع إلى أن يصبح الهَـمّ الاقتصادي بنداً ثابتاً في العَمليّة والمُمارسة السِّياسيَّة من خلال المُقاربة المُستمرة لقائمةٍ طويلةٍ من مشاكله المُتفاقمة إلى رؤيةٍ مُستقبليةٍ، الأمر الذي يَبدو غَائبَاً حتى الآن بدليل أنّه لا أحدٌ يتحدّث عن تجهيزات المُوسم الزراعي من توفير للجازولين والأسمدة وغيرهما التي كان يُفترض أن تكون قد اكتملت في مواقع الإنتاج بنهاية مايو الماضي، وهو ما ينذر باحتمال حُدُوث فجوة غذائية العام المقبل.
ففي مطلع شهر مايو الماضي، أعلنت وزارة الزراعة عن إلغاء العطاء الخاص باستيراد 100 ألف طن متري من سماد اليوريا و50 ألفاً من سماد الداب التي يُفترض تجهيزها مُسبقاً للمُوسم الشتوي، وعلّلت ذلك الإجراء بالاضطراب في المَشهد السِّياسي والفَراغ القِيادي في جهاز الدولة، إلى جانب الشُّح في العُملات الأجنبية، وهكذا يبدو أنّ التّأثير يَطال كل المُوسم الزراعي بموسميه. ولهذا يأتي الإعلان الأخير عن تقديم 50 ألف طن من سماد اليوريا عبر المنحة السُّعودية الإماراتية لإنقاذ المُوسم الزراعي لتحمل أكثر من رسالة.
(غداً: العالم يلتفت)

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.