خالد موسى دفع الله

الكاريزما وصنم السياسة السودانية

لا يُضاهي الاهتمام العلمي الذي قدمه البروفيسور مدثر عبد الرحيم بجمع وتَوثيق أعمال الأستاذ أحمد خير المُحامي، خَاصّةً سفره الجليل (كفاح جيل) والذي يُعتبر إنجيل الحركة الوطنية، لا يُضاهي ذلك إلا اهتمام الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في جَمع وتَحقيق وإعادة نشر سلسلة مقالات الدكتور جعفر محمد علي بخيت عن، (السلطة وتنازُع الولاء في السودان) والتي نشرها عامي ١٩٦٨ و١٩٦٩ في مجلة الخرطوم.
ويجد الدكتور أبو شوك العذر للدكتور جعفر بخيت الذي عَابَ عليه البعض تلوُّث يديه في نظام مايو، مِمّا جعل كبار المُثقفين ينتبذون فكره ويزوِّرون عن أطروحاته، ويُشير أبو شوك إلى ما عُلِّق بسيرة المُتنبي وابن خلدون في بلاط الملوك، وأن ذلك التقربع جراء طلبهم للإمارة والجاه مع تقادُم العُصُور والأزمان لم ينتقص من إبداعهم مثقال ذرة أو حَبّة خردلة.
خرج كل من الدكتور جعفر محمد علي بخيت والدكتور منصور خالد مُغاضبين من نظام مايو فسلق منصور حكومة مايو بألسنة حدادٍ عبر سلسلة كتبه المشهورة، خَاصّةً (لا خير فينا إن لم نقلها) (نَميري وتَحريف الشريعة) والتي تَشبه إلى حَدٍّ كَبيرٍ سَلسلة كتب محمد حسنين هيكل عن السّادات خَاصّةً هجاءه العرقي الجهير في كتابه (خريف الغضب) مُعيباً على السّادات لونه وأُصُوله السُّودانية. أما الدكتور جعفر محمد علي بخيت فقد لَزِمَ الصّمت ولم يهجُ مايو بأيِّ كتابٍ مطبوعٍ ربما عاجلته المنية باكراً، لكنّه اشتهر بمقولته عن نميري (لقد صنعنا هذا الصنم بأيدينا، ويستحيل علينا هدمه الآن).
توسّمت بهذا الاستهلال مُناقشة مقاربات السُّلطة في السودان، فقد قدم د. جعفر بخيت أطروحة ناضجة عدها أبو شوك أحد أهم الأطروحات الفكرية في تاريخنا الحديث، وجعل بخيت من إصلاح السلطة المركزية وتقوية نفوذها وسلطتها مدخلاً للإصلاح السياسي باعتبارها ناظماً سياسياً وموضوعياً لجملة الولاءات القطاعية والقومية في البلاد. وقد انفتحت بنشر تلك المقالات كوة لمُراجعة كسب المُثقّفين السُّودانيين، وقد عبر د. أبو شوك عن ذلك بقوله: “عندهما يكون التوظيف سالباً في مَطلبه، ينسب الصِّراع بين الحاكم والمحكوم ويضِّحي الولاء مُتنازعاً بين أهل السُّلطة السِّياسيَّة وأصحاب النفوذ الاجتماعي”. ويعزو جعفر محمد علي بخيت الاضطرابات السِّياسيَّة في السودان “لعجز السلطة المركزية من خلق ولاءٍ طاغٍ يجذب نحوه الولاء القطاعي، ويجعله يدور حَول فلكه”.
ويُقدِّم بخيت تعليلاً مُبتكراً لجُملة خيباتنا في مُعالجة أدواء دولة ما بعد الاستقلال، إذ يُشير إلى أنّ دولة ما بعد الاستقلال توزّعت فيها الولاءات وسَارت جميعها في محورٍ دائري مُتوازٍ. وقَويت الولاءات الفرعية والقطاعية على حساب الولاء للدولة المَركزية. وقال د. أبو شوك استناداً للرؤية التحليلية لهذه المقالات إنّ غياب الرؤية الاستراتيجية وعدم تحقق حيادية السلطة المركزية هما أُس الأزمة حتى يوم الناس هذا ما.
لكن في مُقاربتي العابرة هذه أسلِّط ميسم البحث على عامل آخر، وهو أسلوب ونهج القيادة السياسية، وأحمِّلها القسط الأكبر لمجمل نكباتنا السِّياسيَّة. فَقد تَراوح أسلوب ونهج القيادة السياسية طوال تاريخنا الحديث بين القداسة حيث الطاعة المُطلقة كما يمثله بيتا الطائفية في الختمية والأنصار. أو نهج القيادة القاهرة كَمَا كَانَ يمثلها الأزهري الذي تَلقّى نقداً صَارماً من كبار المُثقفين اعترضوا على أسلوبه في القيادة، خَاصّةً وهو شديد التقريع على من يُخالفونه الرأي وكان جوابه حاضراً بالفصل أو الإبعاد حسب عبارته الشهيرة (إلى من يهمه الأمر سلام). كما اُتّهم الأزهري بتوزيع المناصب على أصدقائه مثل صديقه عبد الفتاح المغربي الذي اُختير عُضواً في مجلس السيادة على حساب مثقف مهول وسياسي مُحَنّك وهو أحمد خير المحامي، كما أبان منصور خالد في شذرات سيرته.
رغم تعدُّد أسباب سُقُوط الديمقراطية الثالثة، إلا أن عدداً من الباحثين يعزو ذلك لأسلوب ونهج قيادة الصادق المهدي في رئاسة الحكومة، التي وُصفت بالتّردُّد في اتّخاذ القرارات، والحياد غير المَوضوعي في قضايا مَفصلية. كما تكشف تجربتا نميري والبشير أنّ أسلوب قيادتهما كَانَ سَبباً مُباشراً في نجاحهما النِّسبي في الحفاظ على السُّلطة لفترةٍ طويلةٍ، لإتقانهما تَكتيك المُناورة غير المُجدي، وتوظيف المُتناقضات، وضرب الخُصُوم، واستعمال أدوات الإغراء والاغواء والتهديد والوعيد. وهي ذات الأسباب، في سياق عوامل أخرى أدّت إلى سقوطهما المُدوِّي بعد حينٍ.
جَرّب السودان أيضاً صُعُود قيادات كاريزمية، نهضت إلى سدة القيادة بمزاياها وخَصائصها الذّاتية لعلّ أبرزهم قديماً الإمام المهدي، وفي تاريخنا الحديث جون قرنق، حسن الترابي، الصادق المهدي، محمود محمد طه وعبد الخالق محجوب، وكذلك السيدان عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني لأسباب تاريخية معلومة وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
لذا يَبرز السُّؤال: إلى أيِّ مَدَىً ساهمت هذه القيادات الكاريزمية في التطوُّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للسودان؟
يقول ماكس فيبر إنّ السلطة الكاريزمية ظاهرة عابرة تظهر في وقتها أي أنّها ابنة لحظتها، ومَخاض الضرورة. ويقول فيبر بأنها تنحو لتكون سُلطة تقليدية أو سُلطة عقلانية قانونية. وعندما تدركها سنن التغيير تتخلّص من خَصائصها وصفاتها. وهذا ما أسماه (روتنة الكاريزما) Routinazation أي قدرة السلطة الكاريزمية في التّحوُّل إلى مؤسسات أو سلوك جماعي في إطار حركة اجتماعية جديدة.
أثبتت دراسات لاحقة لأبحاث ماكس فيبر أنّ القيادات الكاريزمية غالباً ما تُصاحبها شخصية أخرى، ولعل أبرزها في تاريخنا الإسلامي النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق، وفي المسيحية سيدنا المسيح وبيتر في عقيدة التثليث. وفي اليهودية موسى وأخوه هارون وتترى الأمثلة منها لينين وستالين، والرئيس الأمريكي كندي وجونسون، جيفارا وكاسترو، وغاندي ونهرو، وفي تاريخنا السُّوداني الإمام المهدي والخليفَة عبد الله التّعايشي. وهذا ما أسماه الباحثون (الكاريزما المُزدوجة). وأثبتت النظرية أن ظُهُور مُساعد للقائد الكاريزمي يؤدي إلى عدم (روتنة القيادة). ويُؤدِّي القائد الكاريزمي ومُساعده أدواراً تَكميليّة لبعضهما، كما قال فيبر إنّ القائد الكاريزمي يفرض نُفُوذه وتَعاليمه على الفضاء العَام الخَارجي Outer call ، ويعني مُساعد القائد الكاريزمي بإحكام النظام والتضامُن والتّمَاسُك الداخلي Inner consolidation .
وصدق وصف الباحثان تيرز وكيلا أن القائد الكاريزمي عبارة عن رمزٍ وخصائص لاتّخاذ القرار.
وتُشير الدراسات أنّ القائد الكاريزمي يترك بناء النظام لخليفته، لأنّه مشغول بشرح أفكاره وجذب الناس إليها وتجسيده الرمزي والموضوعي لما يدعو إليه، من خلال سُلُوكه الشخصي، وتصرُّفاته وقَراراته. ومِثَال لِذلك قيصر واغسطين، روبسيبرو ونابليون، وكذلك لينين واستالين كَمَا تَمّ ذكره.
لقد مَرّ على السُّودان حِيناً من الدّهر، كَانَت فيه القيادات الكاريزمية سَيّدة المَوقف، فهي خارج إطار المُسَاءلَة والمُحاسبة الديمقراطية، لأنّها تستند على القَداسة المَوروثة أو مُستمدة من الأيديولوجيا المُغلقة، كما في الأحزاب العَقائديّة. وهي ذات ما وصفها الدكتور جعفر محمد علي بخيت بمُسمّى الولاءات القطاعية لأنّها ولاء أدنى من الولاء للدولة المركزية. وسبق وأن قال المحجوب في كتابه (الدِّيمقراطية في الميزان) إن لقاء السيدين كان أكبر كارثةٍ ألمت بالسِّياسة السُّودانية.
وفي ذات السياق، قال منصور خالد، إنّ ذات القيادات التي تصدّت لإطلاق شعارات (لا قداسة مع السياسة) عادت إلى حضن الزعيم الديني مُقدمة قصيدة براءة واعتذار بين يدي سيدها.
استمعت إلى قائد ناصري مُخضرمٍ في ندوة بإحدى العواصم الغربية وكان يقول (لَم نَكن نَستطيع أن نحدق في عيني القائد عبد الناصر لعظمته وهيبته)، لذا سلخ المُثقّف المصري الشهير تَوفيق الحكيم ولاءه التاريخي بإصدار كِتَابه (عَودة الوَعي)، وحَاول هَيكل أن يشرح مَوقفه في كِتابه (لمصر لا لعبد الناصر).
أظلنا زمان انقطعت فيه القيادات الكاريزمية عن المشهد السياسي، وهي ظاهرة إيجابية لأنّ القائد الكاريزمي يختزل حراك الجماهير وتطلُّعاتها في قُدراته الفذة المُلهمة، وتتقزّم تحت قامته المَديدة، العَديد من القيادات في طَور التّكوين التي يُمكن أن تزهر وتثمر خلال عراك التجربة السِّياسيَّة والتّفاعلات الاجتماعية. يتّفق الباحثون أنّ القائد الكاريزمي يملك قُدرة استثنائية على حرق أو تَجَاوُز المراحل التاريخية، لكنه إذا فشل في روتنة أو مَأسسة كسوب قيادته الكاريزمية خَاصّةً حِسّه التاريخي والاستراتيجي، عَن طَريق خلق مُؤسّسات راسخة أو خليفة ينهض بتأسيس النظام وفق أفكاره وتَصوُّراته، تنطفئ جذوة تلك القيادة المُلهمة وربما تؤدي إلى كوارث إذا دخلت في صراعٍ مع حاشيته وتلميذه. ولعلّ في سيرة الشيخ حسن الترابي إجابة لمن يهمه الأمر.
أفرز الحراك الثوري الراهن نمطاً جديداً من القيادات الشبابية ، وارتضت الكتل المُكوّنة للحُرية والتّغيير وتجمُّع المهنيين نمط الأفقية أو القيادة الجماعية. ويستحيل أن تتميّز وفق هذا التّرتيب قيادات متفردة وإن امتلكت خصائص استثنائية في القيادة.
في ظِل الثّورات الاجتماعيّة تقف خيارات التاريخ دائماً إلى جانب بُرُوز شخصية كاريزمية تقود الجماهير وتُبشِّر بأفكار التغيير، بدلاً من سيطرة الجماهير على المشهد بفوران العَاطفة الثّورية المُشتعلة وقُدرتها في التّحَكُّم في مَسَارات الثُّورة. يَشبه التّرتيب الذي اختارته قِوى الحُرية والتّغيير ما كانت عليه نشأة حزب الخضر في أوروبا، إذ حَالَ نمط القيادة الجماعية الأفقية دُون بُرُوز زعيم أوحد يُحظى بالقيادة السِّياسيَّة وترنو إليه أعناق الجماهير، وقد مَنع هذا النّمط من القيادة أحزاب الخُضر في أوروبا من التّطوُّر والمُنافسة الحُرّة طيلة ربع قرن من الزمان. ولما أدركت قيادات الحزب هذا الخطأ عَادَت مُرغمة لإعادة تركيب القيادة الحزبية على النمط الرأسي الذي ينبني على التراتبية الهرمية بدلاً من النمط الأفقي للقيادة الجماعية.
لكل نمط من النهجين في القيادة، الرأسي أو الأفقي مزاياه وخصائصه ومثالبه أيضاً، ويُمكن لكل حركة ناهضة أن تختار نمط القيادة التي تُناسب ظروفها وتحدياتها وأهدافها، لكن شريطة ألا يمنع ذلك الفرز الطبيعي لنمو القيادات، وإبراز خَصائصها ومَزاياها الاستثنائية في قيادة الجماهير، دُون المَيل للتّضحية بالمَوهبة الفَردية في سَبيل العَمل الجَماعي كَمَا هو الحَال في كرة القدم.
قناعتي أنّ زمن القيادات الكاريزمية قد ولّى في السياسة السُّودانية، خَاصّةً في عصر العولمة، واتّساع الوعي وتدفُّق المعلومات، لكن هذا لا يمنع بُرُوز قيادات في المشهد السِّياسي تتميّز بكسوبها الذاتية وسِمتها الشخصي في التأثير على الجماهير وسوقها في طريق التحرير والتنوير لا طريق العواطف الغوغائية وتكريس ذهنية القطيع.

شارك الخبر

Comments are closed.