بقلم: د.عثمان البشير الكباشي

الشيخ يوسف الخليفة أبوبكر.. السفر إلى الله (بالنجيضة)

شارك الخبر



ودعت الأمة الإسلامية  علما من  علمائها الراسخين العاملين  بروفيسور الشيخ يوسف الخليفة أبوبكر. بعد عمر مبارك  أفناه في الأعمال الصالحات النادرات.
حفظ الشيخ الراحل القرآن الكريم في خلوات  المقرن وأم درمان.
واصل تعليمه في  المعهد العلمي  والإرسالية الأمريكية بامدرمان.
ثم سافر إلى مصر وحصل على الليسانس من كلية دار العلوم، وحصل على  الماجستير والدكتوراه في فلسفة التربية واللسانيات  من لندن والولايات المتحدة الأمريكية.
جمع بين العلوم الشرعية ومناهج التربية والتعليم الحديثة. فصارت شخصيته مزيجا بين أصالة العلوم العتيقة ومناهج وطرائق التعليم الحديثه، وهذا ما ميزه عن التربويين المنبتين عن علوم الشرع من جانب  وعلماء الشرع المجافين لعلوم ونظريات التربية الحديثة من الجانب الآخر.
جمع الشيخ يوسف بين مساري المعرفة، فكان مدرسة جديدة، أصيلة في مرجعياتها المعرفية، حديثة في مناهجها ووسائلها، فشكل جسرا بين المدرستين.
تراه دائما  رجلا علميا عمليا، لا تحبسه الأوراق والأفكار التجريدية النظرية الباردة، خبيرا بفنون المناهج الحديثة وطرائق ونظريات التعليم، مع انحياز واعٍ وراسخ وعميق وواثق  للعلوم الشرعية.

هو من جيل العباقرة من الذين زاملهم في مصر والسودان أمثال  الأساتذة الأعلام  عبد الله الشيخ البشير وصادق عبد الله عبد الماجد وإبراهيم عبد القيوم وعبد الوهاب الفكي محمد الأمين الكباشي والهادي آدم ومحمد محمد علي وعلي شمو ومحمد نور  الفادني وعلي عبد الله يعقوب وأحمد محمد خير وغيرهم من نجوم أساتذة الدراسات الإسلامية واللغة العربية بالمدارس الثانوية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

مع عمق علم  الشيخ يوسف في المعارف والعلوم، كان الرجل عاملا، ولو أردت تلخيص حياته كلها في كلمات لقلت إنه (عاشق المبادرات الكبيرة).
تقلد منصب وزير الشؤون الدينية والأوقاف في منتصف سبعينيات القرن الماضي في عهد المرحوم الرئيس جعفر نميري، ومن قبلها وكالة الوزارة. ولم تكن الوظيفة السياسية والديوانية
إلا سطرا واحدا من كتاب عامر بالعطاء النافع.
ولأن أمثاله أكبر من الوظائف والتأطير لم تترك فيه الوظائف أياً من أمراضها المعلومة.
ويكفيه فيها أنه كان صاحب فكرة إعداد وطباعة المصحف الشريف برواية الدوري، حتى تغطي حاجة خلاوي القرآن الكريم في السودان التي تشتهر بالتزامها بهذه الرواية، التي كان الشيخ يرى أن أهل السودان مستحفظين عليها دون سائر الأمة الإسلامية.
كان معتزا بالدوري، رواية أهل المدينة، ولأن همة الرجل وأفق تفكيره كان دائما متعلقا بالمهام الكبيرة، وإن بدت شبه مستحيلة في وقتها.
فقد سخر منه أقوام، وحاول نصحه مشفقون من فشله، واجتهد آخرون في العمل على إحباطه، ولكنه مضى كعادته بجسارة وتوكل وثقة في الله، رغم ضعف الإمكانيات الفنية والمادية والبشرية، وبعد أعوام عدّة، كان له ما أراد، إعداد مصحف سوداني برواية الإمام الدوري، وتجهيزه للطباعة.

ثم طباعته لاحقا بتوجيه من الرئيس الراحل جعفر نميري، ليكون أول نواة يبنى عليها لاحقا فكرة مشروع دار مصحف إفريقيا، التي صارت معلما ومفخرة لكل أهل السودان كأول مؤسسة إفريقية  متخصصة في إعداد وطباعة المصحف الشريف وتراجمه وتفاسيره ودراساته وعلومه وتسجيلاته.
وتأسيسا على تجربة الشيخ يوسف أعدت دار مصحف إفريقيا وطبعت عشرات الملايين من المصحف الشريف بالروايات المنتشرة في إفريقيا، الدوري وحفص وورش وقالون.
لما كان الرجل صاحب عقل لا يفتر من إنتاج المبادرات العظيمة، وموالاتها بالتدابير العملية التي تضمن لها أن تتحول إلى مشروعات منتجة، مضى عقله الكبير للعمل مع عباقرة مثله على رأسهم المرحوم الشيخ يوسف حامد العالم في تأسيس أول كلية متخصصة في علوم  القرآن الكريم تحولت لاحقا إلى جامعة القرآن الكريم.
وعمل من قبلها في جامعة أم درمان الإسلامية، وكليات وجامعات في الخليج والغرب.
وهو صاحب ومصمم فكرة معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها. وإليه يرجع الفضل من بعد الله تعالى في تأسيسه وعلى يديه تخرج فيه الآلاف.

كما  كان مستشارا للوزراء جوزيف قرنق وسر الختم الخليفة وأبيل الير، والقاسم المشترك بينه وبينهم  غزير علمه في مجال التعليم عامة واللغويات خاصة، وتجاربه العملية معلما في جنوب السودان وشماله وخارجه.
إضافة إلى شخصيته الودودة  المتسامحة الودودة غير المتعصبة لحزب أو رأي أو أية  عصبية من أي نوع أو درجة.
مع إنه غشي السياسة خاصة أول صباه فألقى القصائد المناهضة للاستعمار الإنجليزي، وخرج مع الزعيم إسماعيل الأزهري في تظاهرات مناهضة الجمعية التشريعية، ولكنه في الآخر كان يتفهم  موقف السيد عبد الرحمن المهدي منها، وتعرض للاعتقال على يد الاستعمار.
ولكن الرجل كان دائما أكبر من السياسة، ولا تراه معنيا بها إلا بمقدار التعاون مع أهلها في مشروعاته التعليمية والعلمية.

ومن مبادراته النافعة إشرافه على  تشييد مسجد النيلين بأم درمان ليكون منارة في فن العمارة الإسلامية.
كما إن الرجل ظل مرجعا لمناهج المؤسسات التعليمية للعلوم الشرعية واللغة العربية، في العديد من الأقطار العربية والإفريقية والآسيوية والأوروبية.

وساهم بعلمه وخبرته في وضع  مناهج عشرات الكليات والمعاهد ذات الصلة بالعلوم الشرعية واللغة العربية.
ونهضت على جهوده المباركة العديد من المؤسسات الدعوية في كل أنحاء العالم.
وظل اسما تتسابق على كسب عضويته مجامع اللغة العربية في العديد من الدول.
وختم حياته العامرة بمشروع عملاق وهو كتابة اللغات العالمية بالحرف العربي، وكان يراه من أهم المداخل العلمية والعملية لإعادة الحرف العربي ليكون حاملا للعلوم والمعارف، كما كان قبل الاستعمار، الذي حارب اللغة العربية في إفريقيا، وأبدل حرفها العربي للغات مهمة كالسواحيلي والهوسا وغيرها بالحرف اللاتيني.
واستطاع الراحل (كعادته في التوفيق حينما يعزم على المهام الكبيرة) أن يحول هذه الفكرة إلى واقع عملي، ويدرب عليها عشرات العلماء، ويحدث اختراقا عمليا بتحويل كتابة ما يزيد عن عشر لغات إفريقية إلى الحرف العربي، والبداية بمعاني القرآن الكريم والعلوم الشرعية بتلك اللغات.
لعل مؤلفات الشيخ الراحل  تجسد البعد التجديدي في العلوم الشرعية، بما في ذلك علوم القراءات، وفي كتابه المفيد (أصوات القرآن الكريم) خروج واضح على نمط تركيز علم التجويد، حينما يبرز تركيزه على الأصوات في هذه الرسالة صغيرة الحجم عظيمة الفائدة.

لا أملك إحصائيات دقيقة بعدد وعناوين المساهمات العلمية للعلامة الراحل، ولكن المؤكد عندي أنها عشرات الكتب والرسائل ومئات الأوراق العلمية، الخيط الناظم فيها هو التركيز على الأبعاد العملية، بعيدا عن التنميط والتكرار.
وغالبا ما تحوي افكارا جديدة، ومعالجات علمية وعملية لمشكلات التعليم الديني والتعليم عموما.

ظللت في حالة دهشة ممزوجة بالإعجاب لحال  الشيخ  الراحل وهو قد تجاوز التسعين من عمره، ولكنه يلتزم دون كلل أو ملل برنامج  عمل لا يخلفه يستمر من أول الصباح وحتى آخر الليل.
مع أسفار وجلسات مطولة، لا يعتذر عنها الشيخ وإن اعتذر من هم في عمر أولاده.

فهو صباحا مع طلابه في الجامعة وضحى في أحد اللجان العلمية، وظهرا في أحد مجالس العلم أو الفتوى، ومساء مترأسا اجتماعات أحد المؤسسات العلمية، أو محاضرا هنا أو هناك، أو على موعد لتقديم استشارة لهذه المجموعة او ذلك المعهد التعليمي، كل ذلك بالإضافة إلى حضوره الاجتماعي الفاعل، في بلد كالسودان، لا تنقضي الالتزامات الاجتماعية فيه.

يملأ العجب كل من يشاهد بروفيسور  يوسف  ذلك الشيخ التسعيني، وكأنه في حيوية وهمة شاب عشريني.
ومهما ذهبت بك الاجتهادات لتفسير الظاهرة اليوسفية ، كما حاولت وحاول غيري، ولكن تبقى الحقيقة الوحيدة (إنها بركة القرآن الكريم) وليس غيرها.
أحب كتاب الله تعالى وكرس عمره له، فحمل الله عنه الأمراض وعبء السنوات، وملأ قلبه نورا، وعقله فطنة، وروحه همة، وجسده نشاطا.
كل ما سبق ملفت للنظر، ومبهر للتأمل، ومثير للعجب.
ولكن الأهم من كل ذلك أن الرجل كان كتلة نادرة من الخلق الكريم، تواضعا وانكسارا للنفس غير متصنع، وزهدا في الدنيا كدرويش يستكثر على نفسه جبته المرقعة، ولطفا يخجل كل جليس.
ونفسا مطمئنة مرتاحة البال، كأنها قد كشفت لها الحجب فتيقنت من النجاة.
قال لي الشيخ إبراهيم طه المصباح الكباشي: إن أردت تأويل معاني قوله تعالى (سيهديهم  ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، فلا تشغل نفسك بكتب التفاسير، وركز على التأمل في حياة الشيخ يوسف الخليفة، تجد التأويل.

تلك سطور عجلى في سيرة الشيخ المبارك  الذي أودعناه مقابر الصحافة اليوم، وملخص الأمر عند كل من عرف الراحل بأنه قد سافر إلى الله بالنجيضة.
رحمة الله عليه في الصالحين الأبرار، في جوار سيدنا وشفيعنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
والعزاء لآل بيته وأرحامه وتلاميذه وعارفي فضله ولأهل السودان ولأمة الإسلام أجمعين.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.