عادل إبراهيم حمد

المرأة و الشباب و الجنوبيون .. أخطار التمييز الإيجابي

شارك الخبر

يعتبر القاضي حسن محمود ـ عليه رحمة الله ـ من أعلام القضاء في السودان . لم يُعرف عنه غير الالتزام الصارم بكل ما يلزم القاضي. أبعد من القضائية مرتان ؛ الأولى في مايو, ثم لبى نداء الوطن بعد انتفاضة إبريل عائداً للقضائية من دولة الإمارات. وأبعد للمرة الثانية فور وقوع انقلاب الإنقاذ عندما كان العالم / حسن محمود على وشك تولي مسؤولية رئاسة القضاء, لكن الإسلاميين قطعوا عليه الطريق, فهو بمعاييرهم يساري لا يصلح لإدارة القضاء.
سمعت من هذا الرجل المصنف ضمن التقدميين أن من أقوى أسباب إبعاده من القضائية في مايو اعتراضه على تزايد عدد القاضيات في الهيئة القضائية. كان الرجل ـ بما عرف به من فهم متقدم ـ نصيراً للمرأة , لكن فهمه المتقدم حماه أيضاً من الاندفاع والقفز فوق المراحل بلا مراعاة لخصوصية المجتمع المعني بالتغيير. بنى القاضي اعتراضه على أن التقاليد ما زالت لا تقبل أن تنقل القاضية ـ خاصة لو كانت آنسة ـ بعيداً عن أسرتها لتسكن بمفردها في بيت (القاضي المقيم) في مدينة بعيدة, كما يفعل زميلها الرجل المستعد لتنفيذ قرار النقل مهما بعدت المدينة . هذا الحال جعل عدد القاضيات المتزايد معيقاً لخطة القضائية في توزيع القضاة وفق الحاجة, حيث يقيم عدد كبير من القاضيات مع أسرهن في الخرطوم في حين أن القضائية تحتاج لمن هن في درجاتهن للعمل في كتم أو سنجة أو دنقلا .. هذا منطق لا يهزمه حديث معمم عن (قدرات المرأة التي لا تقل عن الرجل في شيء كما يتوهم أصحاب الأفكار الرجعية) .
من معاني مفهوم ” الجندر ” الذي شاع مؤخراً, تصحيح أو تعديل وضع و دور المرأة المجتمعي. ورغم الحاجة للتصحيح أو التعديل , إلا أن الأمر يتطلب دقة كالتي توفرت للقاضي المذكور لتُحمى المعالجة من الابتذال, ويحتاج إلى مرونة بحيث لا تتعرض قضية المرأة إلى تهاون يضر بها مثلما أضر بها التشدد.
مع بروز الدور اللافت للمرأة السودانية في ثورة ديسمبر المجيدة, أبدى كثير من الرجال مغالاة في تمجيد المرأة. و هو تصرف قد يصدر أحياناً كسلوك اعتذاري عله يخفف وطأة الشعور بذنب ظلم المرأة في مراحل سابقة, أو يكون للتمسح بمظاهر التقدمية أو الفرار من احتمالات الوصم بالرجعية, و قد يكون ضمن سلوك استعراضي كما في القول : إن رئيس وزراء الثورة قد اختار (لأول مرة) امرأة لهذا الموقع الرفيع .
أضرت هذه المعالجة غير المتوازنة بالثورة كثيراً حين أعفيت المرأة من معايير صارمة خضع لها الرجال في اختبار التقدم لمناصب قيادية في الدولة, فكان أن تقلدت بعض المناصب نساء دون قامة المناصب, بل لقد ثبت في زمن قياسي عدم جدارة بعضهن بالمنصب. وما كان هذا الخطأ الجسيم ليحدث لو أن أولي الأمر تعاملوا مع الأمر بلا استعراض درامي, كما في حال ظهور رائدات المرأة في العمل العام, اللائي سطعن كالشموس وفق تدرج محسوب, و بلا ضوضاء و لا ضجيج.
ومثال آخر للمعالجة غير المتوازنة يرتبط بشباب الثورة. و لنبدأ بما انتهى إليه الشباب ـ أعني (مليونية استقلال القضاء) لأنها تجسد ضبابية الرؤية. و لو ابتدأنا ببدايات الشباب بعد انتصار الثورة لدخلنا في مغالطات, فالمرحلة السابقة للاتفاق على الوثيقة الدستورية وتشكيل حكومة الثورة زاخرة بالشكوك مما يفسح المجال لآراء متضاربة. لكن إذا ابتدأنا بخاتمة المسيرة يسهل شرح الفكرة بالتساؤل : على من كان شباب الثورة يمارس ضغوطه في المليونية الأخيرة, وقد تشكلت حكومة الثورة التي يفترض أنها تمثل هؤلاء الشباب ؟
هذا الاستفهام التقريري يمهد لنقد مواقف السياسيين حيال الشباب, فقد أحجموا عن انتقاد مواقف الشباب السياسية بعد انتصار الثورة, ولم يشرحوا لهم أن مرحلة الدولة تستدعي البحث عن المشتركات بين حلفاء (مختلفين) جمع بينهم قطار الثورة, وأن وجود عدة شركاء في الثورة يعني بالضرورة تقديم تنازلات من كل طرف ليلتقي الجميع في منطقة توافق وسطى, لكن الساسة اعتبروا هذه المواجهة مغامرة غير محسوبة العواقب, قد تفقدهم هذا الرصيد الشبابي الكبير, ففضلوا مهادنتهم بل ومداهنتهم في كثير من الأحيان غاضين الطرف عن تعديات على الحدود, حين نصّب الشباب أنفسهم أوصياء على الثورة يصنفون السياسيين, ويوزعون شهادات الوطنية وصكوك الغفران وأحكام الإدانة, فاستحال بعدها كبح جماحهم حتى وصل بهم الحال أن تظاهروا ضاغطين على (حكومتهم) يتعجلونها إصدار قرارات كبيرة قبل أن تكمل شهراً, مستندين في ذلك إلى تحريف وتشويه المعنى الصحيح للحق الديمقراطي في التظاهر, وللحق الثوري في مراقبة الحكومة ..
المثال الثالث الذي تعبر عنه حركة البندول المتأرجح بين طرفين كلاهما غير صحيح هو الجنوبيون . لقد تأرجح موقف الشماليين من الجنوبيين بين تحقير و تدليل , ولم يجد التدليل المتأخر لا لأنه جاء متأخراً, بل لأن المعنيين بالتدليل يعتبرونه مؤشراً لمنقصة ولا يرضون بغير الندية. تأرجحت العلاقة بين هذين الطرفين غير الصحيحين, فكان طبيعياً أن يختار الجنوبيون الانفصال وإعلان دولتهم المستقلة؛ لكن غير الطبيعي هو استمرار بعض الشماليين في تبني التمييز الإيجابي للجنوبيين, حتى بعد أن استقلوا بدولتهم, فأصبح مألوفاً سماع دعوات لمنح الجنوبيين الجنسية السودانية, أو لوم مسؤول في ولاية حدودية على تقصيره في استقبال لاجئين جنوبيين . فهل من المعقول أن يستقل الجنوبي عن السودان ويحتفظ بحقوقه في السودان؟
ثلاثة أمثلة تأرجح عندها البندول كثيراً, فهلا استقر عند حالة الاعتدال الوسطى كمقدمة لتفكير مستقر؟

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.