بروف: موسى الباشا

في مقومات التفاوض الناجح .. حتى لا نعود القهقري

شارك الخبر
   انطلاقاً من واقع  عدم ممارسة المشورة بين القابضين على أزمَّة السلطة في سودان ما بعد الإنقاذ، ومكونات  الرأي العام السوداني  بشقيه - المنظم في  ٳطار مؤسسات المجتمع المدني  الذين تمثلهم  مجموعة الأكاديميين وغيرهم من أهل الاختصاص الوظيفي  والعوام  السابلة- لا سيما في التقرير في شأن  الأمور العامة الخطيرة  التي تؤثر  وجوداً وعدماً في  استمرارية كينونة أو تمزق ما تبقى من البلاد، أود أنْ أنبه لخطورة تبني نهج  الإقصاء، وتهميش أهل الرأي، والانفراد باتخاذ قرار الحسم في قضايا مصيرية تطال نتائجها كل السودانيين من أهل العالمية والجاهلية على حدِّ  سواء.
  عليه، لكي نتجنب أيَّة انتكاسات أو خروج عن  ٳجماع أهل السودان سيما القوى السياسية في طليعتها الحركات المسلحة، والأحزاب السياسية المدنية، ومنظمات المجتمع المدني حول ضرورة التفاوض من أجل ٳحلال سلام عادل وتخفيف معاناة أهلنا النازحين والمُشرَّدين قسرًا الهائمين على وجوههم في المنافي؛ أود أنْ أعرب عن قلقي حيال ما يجري من تسارع غير مُبرَّر في الدخول في عملية تفاوض حول قضايا مصيرية لم  يُعد لها بالكيفية التي ينبغي أنْ تكون. حتى لا نبدد هذه الفرصة ينبغي الأخذ في الاعتبار التدابير التالية التي تمثل شروطاً لازمة وفروضاً أساسية تؤمن نجاح المفاوضات المستقبلة من أجل الوصول إلى مُخرجات تمثل مبادئ  مُجمع عليها تكون مرتكزات يُوطد  على صروحها سلام دام، تؤسس في رحابه دولة المواطنة الجامعة الديموقراطية الفيدرالية ذات المؤسسات القانونية التي يتساوى أمامها جميع بناتها وأبنائها في حقوق والتزامات المواطنة؛ من هذه الشروط اللازمة ما سيأتي بيانه:

أولاً: وجود استراتيجية علمية يُبتدر، ويُدار وفقاً لشروطها وتوجه وفقاً لمساراتها عمليات التفاوض.
من المرتكزات المحورية لهذه الاستراتيجية تحديد الثوابت القومية التي لا يتفاوض عليها مطلقاً، كعدم تجزئة السيادة الوطنية، وحدة التراب السوداني عدم تفتيته، وحدة الأمة السودانية في تنوعها العرقي، اللغوي والديني والثقافي.
ثانياً: تأمين مصادر القدرات الذاتية للأمن القومي (القوة المعنوية- النفسية للرأي العام القومي، والمادية الاقتصادية – العسكرية إلخ،) التي هي بمثابة مُعزِّزات عملية لضمان ديمومة استقرار الثوابت الاستراتيجية.
ثالثاً: تبنى أهداف عامة (مَرنة) تنسجم مع ما يطرحه الطرف المتفاوض معه، لا تتعارض في جوهرها مع مضامين الثوابت الاستراتيجية بل تكون مكملة ومُعزِّزَة لها.
رابعاً: إعداد، و تبني، وتفعيل آليات تفاوضية توظف لإدارة التفاوض، وللاتجاه به نحو تحقيق أهداف مشتركة لا تتعارض مع الثوابت الاستراتيجية القومية السودانية.
خامساً: التأكيد الصارم على مبدأ سيادة الشعب في كليته يُمارسها عند الاقتضاء عبر: (1)- ممثليه في مجلس الشعب القومي(البرلمان الاتحادي) أو
(2)- عبر استفتاء قومي عام (ليس استفتاء جزئياً إقليمياً) سيما في المصادقة على أية اتفاقيات دولية أو محلية (تكون الحكومة طرفاً فيها مبرمة مع شخص اعتباري قانوني دولي، أو كيان اعتباري محلي لا يتمتع بشخصية قانونية دولية معترف بها رسمياً من قبل المجتمع الدولي)، وتأمين احترام تنفيذ تلك الاتفاقية بتضمينها كجزء لا يتجزأ في متن دستور البلاد.
سادساً: اختيار وسيط مُحايد وزمان ومكان عقد المفاوضات، هذا يتطلب توافر ما يأتي:
(أ)- وسيط تتوافر فيه شروط الحياد، كأنْ لا تكون لديه مصالح (أجندة) وطنية حيوية (خفية أو أي من الطرفين المتفاوضين أو أيديولوجية انفصالية؛ رغم التقدير الفائق لجهود دولة جنوب السودان الموقرة، فهي لا تنطبق عليها مواصفات الوسيط المحايد للأسباب التالية:
1. أنها دولة حاضنة للحركات المسلحة سيما الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال.
2. لها مصلحة حيوية في نزاع أبيي الذي لم يتم حسمه نهائياً.
3. ٳنْ دولة جنوب السودان الموقرة تؤمن بمفهوم ممارسة المكونات المجتمعية الفرعية (جماعات عرقية، ثقافية، دينية إلخ) حق تقرير المصير الخارجي ومن ثم الانفصال عن الدولة الأم وقد مارست ذلك عملياً.
4. ٳنْ الدول الوسيطة أعضاء منظمة الإيقاد (إثيوبيا، إرتريا، جيبوتي، كينيا ودولة جنوب السودان) لأسباب موضوعية لا تمثل وسيطاً محايدًا للمعطيات التالية:
(أ) ٳنَّ دولة إثيوبيا الموقرة، أيديولوجيًا تتبنى وتدعم مبدأ حق المجموعات العرقية والقبائلية في تقرير المصير الخارجي، بل والانفصال وقد ضمنت هذا المبدأ في متن المادة (139) من دستورها الوطني المعمول به حالياً.
(ب) مجموعة الإيقاد كمنظمة هي التي أقرَّتْ واقترحت مبدأ حق جنوب السودان في تقرير المصير وضمنته وثيقتها المسومة ” إعلان مبادئي”.
5. وسيط مقتدر يمتلك وسائط التأثير على طرفي التفاوض من خلال توظيف الجزرة والعصا، فرغم فائق الاحترام لدولة جنوب السودان الموقرة أنها لا تمتلك شيئاً من ذلك.
ٳنْ تأمين الجبهتين الداخلية والخارجية (في مجاليها الدوليين الإقليمي والكوني) كمرتكزين يتكئ عليهما الطرف الحكومي المفاوض يتطلب ذلك كسب ثقة و من ثم دعم الرأيين العامين الداخلي أولاً والدولي ثانياً.
ٳنَّ احترام الرأي العام الداخلي يمكن كسبه من خلال ٳشراك مكوناته (سيما المستنير منها) في مناقشة القضايا القومية الحيوية الاستراتيجية التي تؤثر بكيفية إيجابية أو سلبية على حاضره ومستقبله عبر حوار ديموقراطي شفاف من خلال وسائط التواصل العامة المقروء والمسموع والمرئي والأثيري منها. حتى تتمكن مكونات المجتمع القومي من بلورة رأي عام مُجمع عليه حيال القضايا العامة المصيرية. عليه، فإنَّ من بين التدابير المتعارف عليها أنْ يطرح الطرفان المشاركان في عملية المفاوضات (الطرف الحكومي و الحركات المسلحة) وجهات نظريهما بصراحة وتفصيل حول ماهية الموضوعات التي سيجري التفاوض عليها، وماهية الحلول الناجعة التي يتبنونها كترياق شافٍ للعلل المزمنة التي يعاني منها ما تبقى من السودان .
في سياق تمكين الرأيين العامين الداخلي القومي السوداني والخارجي الدولي (الإقليمي والعالمي) أقترح على طرفي المفاوضات أنْ يؤجلا الشروع في المفاوضات أو تعليقها مؤقتاً، ذلك من أجل أنْ يعقدان مؤتمرًا تمهيدياً تداولياً يطرح فيه كل طرف تصوراته ومقترحاته كحلول عمليه لأزمة الدولة السودانية، سيما أنْ النظام الإقصائي الدكتاتوري قد تمت إزالته من مركز السلطة.
من نافلة القول إنه لا يخفى على أحد أنَّه من بين الحلول التي لا يخلو منها برنامج حركة مسلحة باستثناء حركة العدل والمساواة مسألة تقرير المصير. لذا وجب على كل حركة من الحركات المسلحة أنْ تقنع الرأيين العامين الداخلي السوداني والخارجي العالمي بشرعية ممارسة سكان أقاليمها التي هي بعض لا يتجزأ مما تبقى من الإقليم القومي السوداني. لكي تأمَّن مشاركة الرأيين العالميين الإقليمي والعالمي، أقترح على طرفي التفاوض (سيما الحكومة السودانية الانتقالية) تقديم دعوة رسمية من أجل ضمان مشاركة مندوبين عن منظمة الاتحاد الإفريقي لبيان الرأي القانوني للدائرة القانونية للمنظمة سيما قضائها في الدعوة التي رفعت أمامها من قبل ممثل بعض سكان إقليم كاتنقا ضد زائير (جمهورية الكنقو الديموقراطية حالياً)، ودعوة ممثل عن فلندا لبيان الرٲي القانوني فيما يتعلق بمطلب جزر آلاند الانفصال، ودعوة ممثل عن كندا لبيان قضاء المحكمة العليا الكندية في قضية مطلب إقليم كبيك الانفصال، وكذلك دعوة ممثل عن أسبانيا لبيان رأي المحكمة العليا الأسبانية في مطـلب كاتالونيا الانفصال.
ٳنْ عقد مؤتمر تمهيدي تداولي سابق للدخول في المفاوضات قد يُعين على تكوين رأي محلي عام مستنير مدرك لمتعلقات مبدأ تقرير المصير الخارجي، كأسسه القانونية الدولية وتلك الدستورية، التكييف القانوني لهوية من يحق لهم مُمارسته، أنماطه، خيارات ممارساته وما يترتب قانونياً على ممارسته.
ٳنْ أي مؤتمر تأسيسي يعقد عقب انفضاض المؤتمر التمهيدي التداولي قد يكون أجدى نفعاً، ذلك لزوال الغشاوة عن أعين الأطراف المتفاوضة وعامة جماهير الشعب السوداني في مجموعها حول مسألة ممارسة مبدأ تقرير المصير الخارجي، ولأنه سيكون مؤتمرًا جامعًا مستنيرًا قادرًا على وضع الأسس الموضوعية التي قد تبنى عليها دولة المؤسسات القانونية الديموقراطية الفيدرالية التي يتساوى في ربوعها كل السودانيين في الحقوق والالتزامات، التي تعزز فيها حقوق الإنسان وتحترم وتصان الحريات الأساسية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.