تقديم وعرض: فادية فضة ود. حامد فضل الله – برلين

حُلم إفريقيا (افروتوبيا) [2]

شارك الخبر

فيلوين سار [2]
المُقدِّمة:
يقع كتاب فيلوين سار، أستاذ الاقتصاد والمؤلف والموسيقي السنغالي الصادر في برلين من القطع المُتوسِّط في اثني عشر فصلاً، استحوذ على 175 صفحة، عناوين الفصول حسب الترتيب:

فكري يا إفريقيا. ضد التيار. شعار الحداثة. المسألة الاقتصادية. علاج الذات. تسمية الذات. ستتحلى الثورة بالذكاء. السكن في المنزل الخاص. الإبحار. الوهم الإفريقي. تشكيل الممكن: مدن إفريقية. هذا هو التقدم الحقيقي: أن يجد المرء وقتاً لنفسه دروس حمرة الفجر، كما تُوجد بجانب عَناوين الفصول العديد من العناوين الفرعية في المتن سنقوم هنا بتقديم عرضٍ مُكثّفٍ للكتاب.

ويعالج في فقرة أخرى، رؤية عددٍ من مُنظِّري الحداثة البديلة، التي تنطلق من أنّ مشروع الحَدَاثة، الاجتماعية والتاريخية والثّقافية، كانت بدايتها في الغَرب، لكن وبسبب التِّجارة وتَدفُّقات الهجرة وحقيقة الاستعمار، امتدّت، ولذلك لم يعد الغرب الآن هو الناقل الوحيد لهذا المشروع. ومُقترحهم تركّز على إعادة صياغة الحداثة مع الإصرار على تنوُّع مظاهرها، فَضْلاً عن مواقعها بعيداً عن قلب الغرب. كما يُشير إلى الرأي الذي يفترض نظرياً وجود حداثةٍ مُختلفةٍ، ولا يمنح الغرب وحده حق صياغة مفهوم الحداثة، وينزع عن الغرب حَقّ المُطالبة الحصرية بالعالمية، وبأن الحضارات الإفريقية السوداء والإسلامية والهندوسية واليهودية ستُجسِّد جميعها مشروع العالمية القائمة على العقل.
أمّا في الجُزء المُتعلِّق بإعادة التجديد الذاتي للذات، يرى فيلوين سار أنّ المُجتمعات الإفريقية الحالية تُعاني من أزمة تتعلّق بقُدرة المُمارسات التقليدية على تنظيم الحياة الاجتماعية. مع ثُبُوت أنّ الأشكال القديمة لم تعد عملية، والانتقال إلى الجديد بطئٌ. لهذا فهذه المُجتمعات مدعوة لإعادة تجديد نفسها من أجل مُواجهة التحديات الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي تُواجهها. فالإنسان الأفريقي اليوم مُمزّق بين تقليد لم يعد يعرفه وبين حداثة هَاجمته من الخارج مثل قُوةٍ مُدمِّرة لا إنسانية. بالإضافة إلى ذَلك، فَقَدَ فَتنت الحَدَاثَة الغَربيّة الشُّعوب الإفريقية وصدّتها في نفس الوقت. مَا جَعَلَ الإنسان الإفريقي يتخبّط بين ثقافتين، وشُعُوره بأنّه قد تمّ إلقاؤه بكليته على نظامٍ عالمي يهز مَصيره. وهُنا يرى فيلوين سار بأنّه يَتوجّب على الإنسان الإفريقي إعادة ابتكار هذا المصير ورَفعه إلى المُستوى المُنَاسِب للمُهمّة التي اختارها هو لنفسهِ بنفسهِ. عليه أن يخلق عَالماً حَقيقيّاً له، لأنّ عليه أن يَتَوافق مع إعادة اِكتشافه وإعادة تَجديده لذاته.
أسهب فيلوين سار تحت عنوان حداثة إفريقية، في استعراض التّغريب الذي تعرّضت له إفريقيا منذ استعمارها الذي شَمَلَ أخذ اللغات الرسمية، وأنظمة التعليم، والإدارة، والنظام الاقتصادي والمُؤسّسات جميعها أشكالاً غربية، مُشيراً إلى الفجوة بين الأشكال المُؤسّسية المَزروعة وطُرق التفكير والمَعاني التي لا تزال تنتج وفي مجالاتٍ مُختلفةٍ للغاية، أشكالاً أُخرى من التنظيم. مُسَلِّطاً الضوء على الدور الذي لطالما قام به المُثقفون الأفارقة بالتفكير والكتابة عن الديناميات الاجتماعية والسياسية للقارة. وفي هذا السياق يبرز فيلوين سار فهمه للحداثة الإفريقية بأنّها تجربةٌ فرديةٌ وجماعيةٌ مُباشرة للأفارقة. نشأت عن حركةٍ مُزدوجةٍ تاريخية ونفسية واجتماعية. فالحداثة بالنسبة له مَوجودة بالفعل ولا يجب اختراعها، لكنها تحتوي على اتّجاهات مُتناقضة تحتاج إلى التفاوُض على أساسٍ مُستمرٍ.
كَمَا يُعاود هنا الجدل لينتقد الآراء، بدلاً من وضع تصور للديناميات الاجتماعيّة الأساسية كما تُقدِّم نفسها فعلياً من أجل استنتاج معناها منها، يجري الاكتفاء بمُلاحظة وجود أو عدم وُجُود علامات الحَداثة في المُجتمعات الإفريقية الحقيقيّة. وبأنّ المرء يُعذِّب نفسه بالحسابات المُقارنة، ويُحكم عليه أن يفهم نفسه باستمرار باعتباره الشخص المُتأخِّر الذي يتعيّن عليه اللحاق بالركب والصعود في التصنيفات المُختلفة وبهذه الطريقة، يخضع المرء باستمرارٍ إلى عُقدة التلميذ الجيد. وهنا يُوجِّه سهام نقده إلى النخب الإفريقية التي سَاهَمت باستمرار هذا الشرط، عبر استسلامها لحلم الغرب، وفتنت بإنجازاته التقنية، وسعيها إلى إعادة إنتاج نسخةٍ مُماثلةٍ للأشكال الاجتماعية للغرب، والتبني غير الناقد لتسلسل الحقب الأوروبية وما يَرتبط بِذلك مِن تَبنٍ للأفكار الأوروبية لتسمية وفهم الدورات التّاريخية الخَاصّة. ويرى أنّ الحَديث عن حداثة إفريقية، داخلية، بديلة، مُتعدِّدة …إلخ، ضمن هذا السياق ما هي إلا مُجرّد تَعبير عن طُمُوح مُقلّد، والتي تتحوّل فكرياً إلى الصورة الرمزية، لأنّها لا تستطيع تكرار الشكل الأصلي واحداً لواحد.
ويلخص لنا فيلوين سار رأيه في هذا الشأن، مُوضِّحاً بأنّ الحاضر الإفريقي هو الوقت الحَاضر، التجربة النفسية للأفارقة، الناقل للمَاضي مع حَوامل الذهاب إلى المُستقبل، وهو أمرٌ ضروريٌّ للتعبير عنه. بحيث يمكن فهم كل مَعانيه، ما يتطلّبه من تطوير نظريات اجتماعية وسياسية جديدة تتناسب مع الديناميات الحالية للمُجتمعات الإفريقية. كما يُؤيِّد في طرحه فكرة تَزَامُن العوالم المُختلفة، ويرى أنّها تصف المُجتمعات الإفريقية الحالية بشكلٍ صحيحٍ. ويَلحظ تَميُّز هذه المُجتمعات بعملية تغيير سياسي واجتماعي وثقافي، وحال الانتقال من القديم إلى الجديد الذي لا مَثيلَ له، من خلال التّقاطُع بين فتراتٍ زمنيةٍ وحلقاتٍ مُختلفةٍ داخل وفي المجتمع الواحد، بحيث تتعايش النظم المَرجعية المُختلفة، تتفاوض أو تتعارض مع بعضها البعض أو تخصب بعضها البعض. كما يرى استمرارية إعادة تعريف القيم الثقافية للمُجتمع، والمُجتمعات الإفريقية المُتغيِّرة، بحيث تُشكِّل نموذجاً لإعادة التفاوُض الدائم للنقاط المرجعية الثقافية الخَاصّة، ولتزامُن التحوُّلات العابرة للعديد من العوالم، لَكنّه في ذَاتَ الوَقت يَرَى أنّ أحد التّحديات التي تُوَاجِه هذا الحَاضر الإفريقي هو التّأكيد عَلَى نَجاح الاِختلاف المُثمر بينها دُون الوقوع في أقصى درجات العزلة المُجتمعية.
استقامة التّطوُّر والتغيير الثقافي
يستهل فيلوين سار القسم المعنون “استقامة التطوُّر والتغيير الثقافي” بتعريفه لإفريقيا التي سَتكون وسَتظل، مُتعدِّدة الأوجه. حكمتها أو عقلانيتها لها وُجُوهٌ كَثيرةٌ. إنّها لم تحبط عوالمها، فالحياة الروحية لا تزال حَيّةً وغَنيةً. أديانها، مُوسيقاها، فُنُونها، مُدنها، العلاقة مع نفسها، بجسدها، وجودها في الوقت يشهد على إبداع صُورتها الذاتية اليومية. إفريقيا تدرك توليفاتها الدينية والسِّياسيَّة والثقافيَّة. مع ذلك فهي تحتاج إلى توفير أساس دائمٍ لاستقرارها وازدهارها وتَمكينها. فعندما يتسارع التّغيير الثقافي والمجهول الذي عليه أن يولد، فإنّ مسألة الأشكال التمثيلية لإفريقيا أمرٌ بالغ الأهمية. فلدى إفريقيا مجالٌ هائلٌ من العمل، ولا بُدّ أن تكون على استعدادٍ لفتح نفسها أمام عالمٍ لا حدود له، واسعٍ وغير مُتجانسٍ: عالم التنوُّع والاتّساع.
كما يرى فيلوين سار، ضرورة إزالة الغُبار عن التُّراث، بحيث يتم الحِفاظ على الكَائنات الحَيّة والمُثمرة فقط، ومن هُنا يبدأ العَمل الضروري للاختيار والإضاءة والفرز. وهكذا، يُمكن للحاضر، الذي يتصوّره الآخرون على أنه فصلٌ مؤلمٌ، أن يصبح إعادة صياغة مُثمرة، ويتحوّل إلى نبض تقاليدهم الخَاصّة. في نقلهم الملموس منه إلى الوقت الحاضر، يدعونا التقليد إلى العمل من أجل التجديد المُؤسّسي والاقتصادي والاجتماعي. أي إلى تصميم آليات تَنظيميّة مُجتمعيّة تُلبِّي احتياجات الوقت الراهن، دُون أن تحل محل العَادات والأشكال التقليدية التي أثبتت قيمتها وما زالت فاعلة في مجالات مُتنوِّعة، تتمثل المُهمّة في تصميم سياقٍ حضاري ومنع الهمجية المتمثلة في نفي القديم ونقله إلى الوقت الحاضر.
كما يرى فيلوين سار أنّ أحد أكثر هذه التحديات إلحاحاً يكمن في تطوير ثقافة ديمقراطية حقيقيّة، تطلق روح وقُوة وطاقة قارة شابّة تزخر بالحيوية، وتُساعد على بناء حياةٍ جماعيةٍ وفرديةٍ أفضل. لذا على إفريقيا أن تستعيد مساحاتها السياسية وكذلك مواردها، وأن تُفكِّر مَرّةً أخرى في أساليب عملها، وأشكالها المُؤسّسية، لإعادتها إلى مواقعها الخاصّة لدمجها مَرّةً أخرى في الثقافات الاجتماعية الخاصّة بكل منها. ولهذا شرطان، الحكم الذاتي، والسيادة على مَرّ الزمن. فالأول يجعل من المُمكن تنفيذ القرارات الخَاصّة. والثاني يَعني، القُدرة على رفض الإيقاع المَفروض عليها خارجياً عن طريق فرض الوقت المُحَدّد ذاتياً، والذي يَسمح لها باستكمال مُحاولاتها ومُحاكماتها الخَاصّة. يجب عليها استعادة نفسها كمركزها الخاص وإعطاء الوقت لمُحاولاتها الخَاصّة للوصول إلى الاكتمال.
ويقول في الفصل الختامي بعنوان “دروس حمرة الفجر”:
إنّه بداية كل يومٍ جديدٍ، كما يحدث كل صباح، لحياة الناس وتنمية المُجتمعات. يَكتسب الضوء الضعيف القُوة تدريجياً ويُضئ مَسَارات المُتجولين في الفجر. إنّهم يعرفون صُعوبة طريقهم وضرورته من أجل الاستقرار.. وهذا ما أنجزه مانديلا في جنوب إفريقيا المُستعبدة، استناداً إلى مَخطوطة فلسفية وأخلاقية انبثقت من ثقافة خوسا، رمز أوبونتو.
لا يتعيّن على إفريقيا اللحاق بأيِّ شَخصٍ. فهي لم تعد مُضطرة إلى السير على المَسارات المُخَصّصَة لها، ولكن يجب عليها أن تَسير بسُرعة وبالطريقة التي تختارها.
يتعيّن على إفريقيا أن تدرك نهاية الاستعمار من خلال لقاءٍ مُثمرٍ مع نفسها، وتتطلّع إلى الداخل لتعيش حياتها. وسوف تضم إفريقيا خلال 35 عاماً، رُبع سُكّان العالم، وتمثل أعلى نسبة من السُّكّان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاماً، وبذلك تُجَسِّد حيوية البشرية.. سيؤدي هذا الثقل والحيوية الديموغرافية إلى تَغيير التّوازُن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي لكوكب الأرض. ولكي تصبح إفريقيا قُوةً دافعةً ومُوفّقة، تحتاج إفريقيا إلى ثورةٍ ثقافيةٍ عميقةٍ. وهذا يتطلّب بدوره، أن تظل واقفةً على قدميها. حَيث يَجب أن تُلبِّي احتياجات التّطوُّر الديموغرافي، وإطعام وتَثقيف شَعبها، وتأمين ظُرُوف حياةٍ كريمةٍ، وظُرُوف السَّلام والأمن والحرية الفردية والجماعية على حدٍّ سواء. لكن إفريقيا ليست مُجرّد تلبية للاحتياجات البيولوجية والفسيولوجية لأبنائها فحسب، بل يجب عليها قبل كل شيءٍ، أن تشارك في التنمية الإنسانية من خلال بناء حضارة أكثر مَسؤولية تهتم بالبيئة بشكلٍ أفضل، وتُحافظ على التّوازُن بين الأنظمة المُختلفة، وتتبنّى الأجيال القادمة، والصالح العام، والكرامة الإنسانية.
تحتاج إفريقيا أيضاً إلى إعادة التفكير في دور ثقافتها. الثقافة كبحثٍ عن أهداف وأسبابٍ، للعيش على الإطلاق، وكوسيلة لإعطاء معنى للمُغامرة الإنسانية. ومن أجل تَحقيق الثقافة بهذا المعنى، هُناك حاجةٌ إلى نقدٍ جذري لكل ما يُعرقل الإنسانية أو يَحدّها أو يُقلِّلها في الثقافات الإفريقية الحالية. وفي عين الوقت، يَجب إعادة تأهيل بعض القيم الإفريقية: مثل الكَرَامَة، الحَياة المُشتركَة، الضيافة، التّوَاضُع، المُثابرة والشّرف. ومن الضروري تَسليط الضوء على الثقافات الإفريقية الإنسانية العميقة وتجديدها. الثورة التي تُوشك على الانطلاق، هي ثورة روحية. ويبدو لنا بأنّ مُستقبل البشرية يعتمد عليها.
سوف تكون إفريقيا في يوم الثورة، مرّةً أُخرى المركز الروحي للعالم، مثلما كانت من قَبل مَهد البشرية.
نختتم مُراجعتنا المُكثّفة بإبداء بعض المُلاحظات:
كتاب فيلوين سار، صغيرٌ في حجمه، كبيرٌ في مضمونه، وقد استطاع من خلاله تقديم مادة خصبة للقارئ، وإن كان يغلب عليها رُوح التفاؤل، خَاصّةً عندما نتمعّن في الوضع الحالي للقارة الإفريقية. هل استطعنا صهر الجماعات العرقية المُتنوِّعة في بوتقةٍ واحدةٍ. الكاتب لم ينكر الحداثة، ولكن هل قدّمنا نُموذجاً مُتكاملاً للحداثة؟ أليست هي حداثة مُشوّهة أو بتعبير يورغن هابرماس لم تكتمل بعد، أين نحن الآن من احترام حُقُوق الإنسان والمُواطنة والديمقراطية وسيادة القانون وفساد الحكام. وأين هي التنمية، ونُشاهد آلاف اللاجئين والمُهَاجِرين من إفريقيا يُفضِّلون الموت غرقاً في البحر بدلاً من العودة إلى أوطانهم. إنّ مُناقشته المُتكرِّرة وتذكيرنا بالعبودية والاستعمار والعُنصرية، مُهمّة جداً، عندما ننظر للوضع العالمي الحالي، المَد اليميني العُنصري الشعبوي في أوروبا وكره الأجانب، والرأسمالية العَالمية التي تقودها وتتحكّم فيها أمريكا والبلاد الصناعية الرئيسية. ولم يشر الكاتب إلى تأثير العولمة الهائل. أين نحن من تقرير فيلي براندت الشمال ـ الجنوب، برنامج من أجل البقاء (1980)، المُطالب بإعطاء بلدان الجنوب نصيباً أكثر عدالةً من القوة وصناعة القرار ضِمن المُؤسّسات المالية والنقدية.
لا غبار من قول الكاتب “العودة إلى الثقافة والقيم الإفريقية”. نعم لاستلهام التُّراث ولكن عدم الوقوع في فخ تقديس الماضي وهوس الهُوية، لنصبح بذلك حبيسي أيديولوجية بغيضة، والانغلاق في الذات أو في الجماعة، بَدلاً مِن البَحث في الواقع الحي.
إنّ فلسفة التنوير أو موضوع الحداثة يُشيران إلى مسيرة المُجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم، فبدايتهما تاريخياً في أمريكا الشمالية وأوروبا الغَربية، لا يعني بالضرورة حصرهما بالحضارة أو الثقافة الغربية، إنّ ما جاءت به هذه الفلسفة من قيمٍ مثل العقلنة والعلمنة وتجسيد حُقُوق الإنسان في الحُرية والمُساواة والمُواطنة …إلخ، هي قيم كونية. وهذه القيم قابلةٌ للمُراجعة والتطوير من جانب الفكر الغربي نفسه، المُتمثل الآن في فكر ما بعد الحداثة.
حُظي الكتاب بتعليقاتٍ مُقتضبةٍ في الصحافة الإلمانية نستعرض بعضها بإيجازٍ:
“مازلنا نُفكِّر ونتحدّث عن إفريقيا بصُورةٍ نمطيةٍ ومن مَنظور التنمية الغَربية، حتى لو أثبت أنّه مُدمّر للغاية. التذكير بالثروة الثقافية والروحية وخلق التّوازُن بين البشر وبين الإنسان والطبيعة”.[4] “يقول ديفيد سجِنر، إن الكاتب يُجادل على امتداد سرده، بصُورةٍ فلسفيةٍ عموميةٍ وتكمن قُوة الكتاب باعتباره حافزاً مُتفائلاً للمسؤولية الذاتية للقارة الإفريقية”. [5] “الابتعاد عن أنماط الفكر الغَربي والعَودة إلى الطَبيعة الإفريقيّة وعِلاقَات التبادُل الشعبية والفضائل الإفريقية القديمة. والكاتب يسير على نهج المُفكِّرين الفرنسيين لما بعد الحَدَاثة. ويجنح إلى بعض التعميم”. [6] “إذا تعاملت أوروبا مع جرائمها الاستعمارية في وقتٍ مبكرٍ، وبشكل أكثر شُمُولاً واتّساقاً، فلن يكون لدى الشعبويين أمثال فيلوين سار هذه السهولة في الهجوم العام المُستفز. إنّ حديثه عن “سيادة فكرية مُطلقة” تتحرّر فيه جميع أنحاء القارة مِن كُلِّ مَا جلبته العَولمة والاستعمار منذ عام 1500 يَضع سَار في خَانَةَ الحزب اليميني المُتطرِّف (حزب البديل لألمانيا)” [7].
يقرأ اندرياس إيكرت الكتاب بمشاعر مُختلطة “الحلم بالعودة إلى التقاليد الإفريقية، والبحث عن مفاهيم “أساسية” واستنباط “الوحدة الثقافية على مُستوى القارة”، هنا يبتعد سار عن النظرة النقدية والتّمايُز، ولكن تعليقاته عن الشباب الإفريقي جَديرةٌ بالاِهتمام” [8].
“لم يفقد كتاب فيلوين سار الذي صدر قبل سنتين، أياً من أهميته. وما زالت بلدان جنوب الصحراء الكبرى تميل إلى نسخ الحكام الاستعماريين القدامى. لذلك يدعو المُؤلف الى ضرورة تعبئة إفريقيا إلى العودة لتقاليدها وثقافتها” [9].
“يجب علينا ألا نسخر من الكاتب عندما يدعو الدول الإفريقية إلى تَذكُّر نشاطها الاقتصادي وإيجاد التمكين الذاتي الروحي. والكتاب يُعتبر بمثابة علامة فارقة في النقاش ما بعد الاستعمار، ليس أقله لأنّ المُؤلف يُواجه الفساد المُتفشي، وسُوء الإدارة، مع الحقائق المُتعلِّقة بالجُرُوح العَميقة للاستعمار. إنّه كتابٌ تنويريٌّ مُهمٌ وخاصة بالنسبة للأفارقة” [10].
جاءت مُراجعات الألمان مُختصرة وموضوعية ومُشيدة بالكتاب، ما عدا الفقرة المُتطرِّفة الصادمة، التي وضعت أفكار الكاتب في مَصاف أفكار الحزب الألماني اليميني المُتطرِّف. ونحن نرد على هذا التقييم المُتطرِّف:
هل كان على فيلوين سار أن يتجاهل التاريخ، وهل يستطيع أيِّ باحثٍ تجنُّب الذاتية والانتقائية، مهما حاول التنكُّر لهما؟
الكتاب جديرٌ بالقراءة والتمعُّن في أطروحات الكاتب الذكية، إنّه مثل كتاب المُؤرِّخ والفيلسوف الكاميروني جوزيف آِشلي مبيمبي [11] بعنوان “نقد العقل الأسود”، والذي تُرجم أيضاً عن الفرنسية.
اختار فيلوين سار عنواناً جميلاً لكتابه، لا مانع من الحُلم ولكن إلى حين، فالحُلم شيءٌ والواقع شيءٌ.
[1] الكتاب بالنسخة الألمانية (Felwine Sarr, Afrotopia, Verlag Matthes, Berlin 2019)
صدر الكتاب باللغة الفرنسية في عام 2016 وقام ماكس هيننجر بترجمته إلى الألمانية، وصدر بنفس العنوان الأصلي.
[2] فيلوين سار سنغالي من مواليد عام 1972، أستاذ في علم الاقتصاد، بجامعة غاستون بيرغر في سان لويس بالسنغال، كاتب وموسيقي.
[3] كلمة أوبونتو، من لغات البانتو في جنوب إفريقيا، وتشير إلى مفهوم قريب من المفاهيم الإنسانية و”الإخوة”.. وهو مُصطلحٌ يعني الإنسانية وتُرجم ليعني الإنسانية تجاه الآخرين، ولكن دائماً يُستعمل فلسفياً ليعني الاعتقاد في الرابط المُشترك بين كل البشرية. فسعادة الفرد منهم لا تتحقّق إلا بسعادتهم جميعاً.
[4] من مقدمة الناشر
[5] مقال صادر في 10/05/2019 (David Signer, Neue Zürcher Zeitung, 10.05.2019)
[6] مقال صادر في 15/04/2019 (Thomas Palzer, Rezensionsnotiz zu Deutschlandfunk, 15.04.2019)
[7] مقال صادر في 23/03/2019 (Andreas Fanizadeh Die Tageszeitung, 20.03.2019)
[8] مقال صادر في 26/02/2019 (Andreas Eckert, Frankfurter Allgemeine Zeitung, 26.02.2019)
[9] مقال صادر في 31/01/2019 (Thomas E. Schmidt, Die Zeit, 31.01.2019)
[10] مقال صادر في 25/01/2019 (Jörg Häntzschel, Süddeutsche Zeitung, 25.01.2019)
[11] الكتاب المُشار إليه (Achille Mbembe, Kritik der schwarzen Vernunft, Suhrkamp Verlag, 2. Auflage 2018.)

برلين الموافق 22 أكتوبر 2019م

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.