محمود حسن سوار الدهب

الجغرافيا السياسية والدين

شارك الخبر

قبل ميلاد المسيح عليه السلام كتب ابيقراط، يلفظ اسمه البعض أبو قراط، كتاباً سماه (الهواء والماء والأماكن) يتحدّث فيه بارتباط سياسة الدولة بالجُغرافيا، وفي نفس المساق كتب أرسطو كتاب (السياسة) ونظرية العلاقة بين المناخ والحرية، وبعدهم جاء المُفكِّر – مونتسيكو وكتب كتابه (روح القوانين) وبعده جاءت مدرسة كاملة من الجُغرافيين تحمل أفكاره، منهم عالمٌ ألمانيٌّ فريدريك رانزل في عام 1897 نشر كتاباً بعنوان (الجغرافيا السياسية) وأطلق تلاميذه على هذا الفرع من البحث اسم (جيوبليتيك) الجُغرافيا السياسية، وكل المُفكِّرين الغربيين لا يَنكرون ارتباط السياسة بالجُغرافيا، الاشتراكيون والليبراليون، والشيوعيون ويَختلفون في درجات الاِتّفاق والاِرتباط.
ونقرأ في كتاب (روح القوانين) لمونتسيكو الذي يرى أنّ المناخ له تأثير مباشر في سلوك الأفراد، وأنّ الحرارة الشديدة تُثير الأعصاب فتضعف قوة الرجال وشجاعتهم، وأنه لا غرابة أن تكون الشعوب القاطنة في مناطق حارّة قد جعلتها مُستعبدة في جميع الأحيان تقريباً، أمّا المناخ البارد فيقوِّي الجسم والرُّوح ويجعل البشر أقدر على القيام بأعمالٍ طويلةٍ وشاقّةٍ وجريئةٍ وتكون شعوباً شجاعة، ويرى هذا المُفكِّر الغربي أنّ الناس في البلاد الحارّة لا يتحمّلون الأعمال الشاقّة إلا مخافة العقاب، لذلك لا تستغرب العبودية فيها، ونظريات مونتسيكو هي تكرار لنظريات أرسطو الذي لاحظ أنّ المناخ البارد يُؤدي للحُرية، والمناخ الحار يُؤدِّي للاِستعباد. وقد ارتبك فكره عندما سُؤل عن المناخ المُعتدل لا حَار ولا بَارد، فلم يُعلِّل وبهت ولم يسعفه علمه القَاصر.
وحقيقةً علمية المناخ له تَأثيرٌ مُباشرٌ على الموارد النباتية والحَيوانية وهو عُنصرٌ من عناصر الغنى الطبيعي وتلحق به التربة وشكل الأرض والأنهار والبحيرات وأنواع المناخ المُختلفة وتلتحق بالجُغرافيا، بالاقتصاد وقوته إذا وجدت الموارد الطبيعية المُرتبطة بالجُغرافيا، وذكر مونتسيكو عن فكرة (المكان) أنّ شعوب الجُزر أميل للحرية من شعوب القارة، فالبحر يفصل الجزر عن الإمبراطوريات العُظمى وهي مَحمية لا تمتد إليها يد الغُزاة.
ونظرية الجُغرافيا وَجَدَ فيها هَؤلاء المُفكِّرون الغربيون ضالتهم واتّخذوها ذريعةً لنظرياتهم الخيالية ودسُّوا بداخلها سُمُومهم العُنصرية ومَطامعهم، ولا نسترسل في فكرهم وأدلتهم الضَعيفة الفَاسدة التي ليست فيها أجوبة مُحكمَة قاطعة، فنظرياتهم مُستمرة في التّعديل والإضافة والحذف، وبين أيدينا القرآن الكريم دين العلم ومفتاح نهضة الكون وبداية كل علوم الأرض، أساسها عُلماء وعَباقرة الإِسلام الذين ملأوا الدنيا مَعارفَ وعُلُوماً ما زال الغَرب والشرق يُبنى على علومهم ومعترفين بفضلهم ونُبُوغهم إلى يومنا هذا، وللمثال فقط وليس الحصر، أبو زكريا الرازي الذي قدّم للإنسانية أبجديات الطب، وأبو علي بن سينا الذي قدّم للإنسانة لواء الفلسفة، والشريف الإدريسي الذي حَمَلَ للإنسانية أبجديات عمل الجُغرافيا الذي أصبح يُحرِّف فيها مُفكِّرو الغرب، وابن خلدون أبو التاريخ وعلم الاجتماع، والخوارزمي صاحب الرياضيات والفلك، وعلي ابن الهيثم صاحب علم الطبيعة والبصريات، وأبو القاسم الزهراوي الذي وضع أُسس الجراحة، وأبو البناء في علم الحساب، وأبو الريحان البيروني في علم التاريخ القديم والآثار، والإمام الغزالي في النقد والتربية ومُعالجة آفات النُّفُوس، والأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل الذين حملوا ألوية الفقه والقانون، وكلهم منارات العلم والهُدى وتَمّ كل ذلك على هدى القرآن الكريم والنور المُبين فتصدّروا حضارات العالم كله في الطب والهندسة والجَبر والكِيمياء والطبيعيات والرياضيات وسائر العلوم الإنسانية، إنّها حَضارة الإسلام الرائدة الخَالدة.
الغَربيون فِيما يَخُص كِتاباتهم، يُمكن أن تقرأ على أساس أفكارٍ إنسانيةٍ قديمةٍ باليةٍ مُعبِّرة عن تاريخ جاهلية الإنسان ونفايات تُرمى في مكب المزابل، وقد كانت فترتهم فترة التّمدُّد الفكري الشاطح ويُسمُّونه ظُلماً وبُهتاناً، أعلام الفكر العالمي، مزامير الشيطان إذا استأنست بهم النفوس واعتمدت عليها، فكيف تستأنس بعد ذلك بالقرآن الكريم، إنّه فكر المزالق والزيغ والظلمة ولا علاقة لهم بغذاء الرُّوح ولا يعرفون ضياء الهوى ولا الحكيم القَدير على كُلِّ شَئ، المُتفرِّد بالوحدانية والبقاء، ولا يَعلمون أنّ الكون له خالق مالك الملك سبحانه تعالى قديرٌ لطيفٌ بعباده لا يعلمه إلا أصحاب العقول المُدركة، والغربيون عامة يعيشون في ضلالٍ بهيمي وتوحُّش مادي رافضٍ للقيم الإنسانية والفطرة السّوِيّة، يبحثون عن الحُريات المُطلقة غير المُقيّدة فَهَدَرُوا دُورهم في الأرض التي استخلف الله الإنسان عليها.
وقَد حَل الإسلام أكبر صراعٍ واجهته الإنسانية وهو الصراع بين المادة والروح، وانتصر الإسلام وبيّن المولى عز وجل حل هذا الصراع ووضع بينهما الميزان وكان القرآن الكريم الفيض الإلهي وأقام تشريعاً فيه كل التناسق والتوازن والانسجام والعدل والحق مع فطرة الإنسان الذي خلقه ويعلم ما به وما عليه، تشريع يُراعي مصلحة الفرد والجماعة، وفيه اليسر والبساطة ويُطهِّر الإنسان ويقوِّمه من أجل تحميله الأمانة، (أمانة السماء)، والإسلام وشرعه جاء مكملاً للشرائع السابقة وخاتمة لها بعُمُومية مُخاطبة القرآن الكريم للناس والعالمين كافة، القاطنين أرض الله، وليس كما جَاءت الرِّسالتان السَّابقتان اليَهودية والنّصرانية محدودتا التوجُّه من الناحية الجُغرافية، لقوم بعينهم بني إسرائيل وهم يعلمون ذلك ولكن لا ينطقون.
فالتوراة والإنجيل كتابان سماويان من عند الله وشرائعهما وأنظمتهما ومبادئهما ليست من وضع بشر، وأمرنا الله تعالى أن نؤمن ونعترف بهذه الأديان وخَاصّةً إخواننا المسيحيين، إذ بيننا احترامٌ وتقديرٌ مُتبادل ونتشارك الوطن والحياة في بلادنا وبلدان أمة الإسلام. وجاء الإسلام خاتمة الأديان وتفرّد (بالشمول) و(العالمية) عقيدة إلهية خاتمة خالدة شاملة قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) صدق الله العظيم (الأنعام 38) وقال تعالى في سورة الأعراف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) سورة الأعراف (الآية: 158). أما اليهود فلهم عداء تاريخي مع الإسلام وأصابوا التوراة بالتحريف في الشرح والتفسير والتأويل والتحوير في نصوص التوراة، يفسرون النصوص على غير مقصدها الحقيقي ليتفق مع أهوائهم ومصالحهم الدنيوية ووصل الأمر بهم أن كتبوا (التلمود) بأيدي حاخاماتهم النجسة، وأبعدوا التوراة والعمل به، ونهمس في أذن اليهود وأمامنا التوراة ففي كل نصوصها لا تشير لعمومية دينهم لكل أهل الأرض أي العالمية، وتأكّد أنّ اليهودية دين سماوي مخصص لبني إسرائيل اليهود بالتحديد، مِمّا سبّب لهم حسداً وحقداً على الإسلام والمسلمين منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، وعلوهم في الأرض مرتين قد حدث كما ذكر القرآن الكريم، وقد وعدنا المولى عز وجل بالنصر عليهم ووعده حق. واليهود عُرفوا بالغدر والقسوة والطغيان والمكر عبر تاريخهم وعاشوا أقليات في المجتمعات الإنسانية الكبيرة، وما زالوا وسيظلون عنصريين، ولن يترك لهم المسلمون المسجد الأقصى ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم ومعراجه ومسجد عمر ومقابر الأنبياء وحرم الخليل، وللمسيحيين بيت لحم وكنيسة القيامة والمهد ومريم العذراء وطريق الآلام.
ولن يترك أهل فلسطين أرضهم التي احتلت عام 1948م في الجليل يافا، حيفا وعكا والناصرة، واللد والرملة، والقدس، ولن ينسوا احتلال 1967م، فأرضهم عربية تم اغتصابها بقوة السلاح ولن يدوم الاحتلال. إنّها قضية كل المُسلمين في أركان الأرض الأربعة.
نسأل الله تعالى صادقين أن يجعلنا جميعاً من المُوحِّدين المُتوكِّلين المُلتجئين إليه، وأن يغمرنا بالإيمان وهديه النور المُبين، وأن يبعدنا من التعلق بغيره، وأن يجعل قلوبنا تهوى إليه ولنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، والحمد لله الذي جعلنا من أمة الإسلام وأنزل علينا القرآن الكريم بحياضه المُترعة بالنعم وأبوابه المشرعة بالرحمة، وهَيّأ لنا سبيل السلامة في الدين والدنيا وكلّفنا بالتبليغ لأهل الأرض جميعاً، وللإسلام رُوحٌ عظيمة مقاومة لكل التحديات، وقيمٌ ساميةٌ لا يُدانيها شئٌ في الأرض وهو جذوة الحقيقة الكونية والكلمة الحَيّة، والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.