أمين مجذوب

سوتشي.. قمة الترضيات الأفريقية!!

شارك الخبر

عُقدت في الأسبوع الماضي قمة التعاون الروسي الأفريقي في منتجع سوتشي بروسيا، حيث توافد القادة الأفارقة نحو روسيا بعدد فاق الأربعين رئيساً، ورؤساء حكومات ووزراء خارجية، وكلهم أملٌ في الحصول على بلح روسيا من دعم اقتصادي وعسكري وثقافي، بعد أن عزّ عنب أمريكا وامتنع إلا بعد الدفع المُقدّم، كما أوضح ترمب لقوات سوريا الديمقراطية بأننا لم نقل سنبقى في سوريا أربعين عاماً لنقاتل بديلاً عنكم، وأوضح أن الدول النفطية الغنية لا بُدّ أن تدفع مقابل الحماية الأمريكية، وكان أن تجرّأت جهات وجهات في قصف ناقلات النفط أمام ميناء الفجيرة، وتدمير منشآت أرامكو وقُيِّدت كلتا الحادثتين ضد مجهول.
روسيا الجريحة معنوياً في الشام والخليج، والباحثة عن فردوس النفوذ والقيادة والريادة في أفريقيا، نظّمت هذا الملتقى للدول الأفريقية الباحثة عن الرضاء الروسي مُقابل فقدان الرضاء الأمريكي بالإدراج مرة في قوائم (محور الشر، الدول المارقة، الدول الفاشلة، وأخيراً الدول الراعية للإرهاب)، ومرات بالحرمان من الدعم والاستثمارات من المُنظمات الدولية والإقليمية، ولهجة ترمب الحارقة والمُوجعة تجاه كل ما هو أفريقي وإسلامي.
استهل بوتين القمة بخطابٍ طويلٍ حوى إعفاء الديون الروسية على الدول الأفريقية بقيمة 20 مليار دولار، واعداً باستثمارات وشراكات اقتصادية تَصل إلى 20 ملياراً أخرى، وهذا التزام في تقديري يصعب الإيفاء به إلا من خلال فتح الأراضي الأفريقية الخصبة والأسواق الواعدة أمام الروس بدون أيِّ تحفظات أو تخوُّفات وهواجس أفريقية، لأنّ الاقتصاد الروسي حَالياً يَستطيع دفع آلاف المُستشارين للعمل في مَشاريع داخل القارة الأفريقية ليكسب الدب الروسي عائدات دولارية، ولكنه لا يَستطيع إعفاء تلك المليارات والدعم بأخرى تصل في مجملها إلى 40 ملياراً من الدولارات.
وصل الوفد السوداني الرفيع برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي إلى سوتشي وهو يمني النفس بتنفيذ الاتفاقيات الخمس عشرة التي تم توقيعها في سوتشي نفسها العام 2017م، مُقابل قاعدة عسكرية التزم بها رأس النظام السابق وحماية طُلبت صراحةً من الدب الروسي، ولكن كانت النتيجة أن تململ الرئيس الروسي بوتين وأحسّ بالحرج كما نقلت شاشات القنوات الفضائية مُباشرةً تلك المُقابلة، ولم يُعطِ رداً واضحاً عن الرضاء بالقاعدة الهدية ولا بتقديم الحماية المطلوبة، وكانت النتيجة أن قلبت أمريكا ظهر المَجن للنظام السابق وعبر الهبوط الناعم أودت به إلى (حيث لا أمنيات تخيب ولا كائنات تمر).
إذن، الحكومة الانتقالية في السودان بعد التغيير الناعم من الخارج والخشن من الداخل، تبحث عن تَرضيات تُمكِّنها من إعادة الاِندماج مع المُجتمع الدولي الذي خَاصَم السودان 27 عاماً حسوماً إلا من علاقات عسكرية واقتصادية وسياسية مع إيران رفضها النّظام السَّابق مُتّجهاً صوب تحالف (عاصفة الحزم)، وأيضاً تبحث الحكومة الانتقالية عن تكامُلٍ إقليمي مع قِوى صنعت بينهم السياسة والجفاء ما صنعه النجار في الخشب، وأعني هنا مصر وإريتريا وجنوب السودان ويوغندا.
وفي المُقابل، وصلت مصر وإثيوبيا إلى سوتشي عقب مُواجهات كلامية رئاسية، والحرب أولها كلامٌ، فقد صرّح الرئيس السيسي بأنّ التفاوُض فشل وتوقّف مع إثيوبيا، ولا بُدّ من البحث عن حُلُولٍ أخرى وطرف رابع، وكان الرد الإثيوبي عبر رئيس الوزراء آبي أحمد الفائز بجائزة نوبل للسلام بأنّهم لا يخشون الحرب مع مصر، ويستطيعون إذا وقعت، تجهيز مليون مُقاتل إثيوبي، ومن هُنا يهمنا في السودان أن نتهيأ لأسوأ السيناريوهات في المنطقة، ويجب أن نعترف أن سد النهضة قد أصبح بؤرة أزموية مُلتهبة قد تشتعل في أيِّ وقتٍ، حتى لا نُفاجأ ذات يوم باندلاع (عاصفة دمياط) وبدء حرب (أم معارك بني شنقول)، فسدّ النهضة لا يبعد عن الحدود السودانية أكثر من 23 كلم، والعاقل من تنبّأ وتفادى الأزمة، وأحسن إدارتها بعد وقوعها، وجهّز كل السيناريوهات وخَطّطَ الطوارئ.
قد تدخل روسيا في خط أزمة سد النهضة بوساطة لجمع أطراف الأزمة، ولكنها في تقديري لن تكون الطرف الرابع الذي تبحث عنه مصر ليقيها شر العناد الإثيوبي، فمصر تُريد من الطرف الرابع أن يضمن لها من إثيوبيا تخزين مياه بحيرة السد في 12 عاماً، وأن تُشارك في إدارة السد أُسوةً بخزانات السودان عبر بعثة مُناظرة لبعثة الري المصري، وأن تَستفيد اقتصادياً من مَشاريع التنمية داخل إثيوبيا والسودان المُرتبطة باتفاقية إنشاء سد النهضة.
من جانبها، إثيوبيا تملك أوراق تفاوض قوية أمام الطرف الرابع (إن حضر)، فهي قد أكملت حوالي (60 – 70%) من مُنشآت جسم السد، وتم تركيب التوربينات المُولِّدة للكهرباء، وقامت بالتخزين للسنة الأولى باعتبار أن تخزين المياه سيكون لـ(3) سنوات من وجهة نظرها، وتستند إلى شركاء ومُستثمرين من دول خليجية سيلجمون أيِّ طرفٍ رابعٍ من التأثير على المَوقف الإثيوبي، الطرف الثالث السودان يُؤثِّر ويتأثّر بما يدور في الأزمة، فهو في وقتٍ، مَالَ للكفة الإثيوبية نكايةً في الموقف الرسمي المصري من حلايب وشلاتين، ويملك الأراضي التي تجعل المهاجم يتقرّب للسد، والمُدافع ينشر دفاعاته الأرضية والجوية، ويتأثّر السودان في حالة حُدُوث انهيار كامل أو جزئي للسد أثناء وبعد تخزين المياه في بحيرة السد، وسيُعاني إذا وقعت الحرب الافتراضية بين مصر وإثيوبيا من موجات اللجوء المُتوقِّعة ونقص حُلم الكهرباء المُخفّضة، وفتح الجبهة الشرقية أمام كل الاختلالات الأمنية والعسكرية بعد أن استقرت طويلاً.
بقية دول القارة الأفريقية من جنوب أفريقيا وتشاد والجزائر وانجولا والكاميرون ونيجيريا، وبقية الدول الفرانكفونية بدأت عمليات تنقيب وإنتاج نفطي مع الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وهذا مجال تنافس آخر، ولا يعنيها من روسيا سوى ما يعود إليها من كعكة الإعفاءات والمُساعدات الموعودة، أي أنها تقف مَوقفاً وسطاً بين سيف أمريكا وذهب روسيا، وتجمعها المُساعدات والهِبَات المَجّانية، وتفرِّقها المطالبات بسداد الدُّيون ودفع فاتورة الحماية الأمريكية.
قِمّة سوتشي هي قِمّةٌ للترضيات للجميع، روسيا ودول القارة الأفريقية، وهي تمرينٌ سياسيٌّ للقيادة السودانية الانتقالية، ويجب التحكُّم بمهارة في السير على الحبال والمُناورة السياسية وخَاصّةً النهج البراغماتي الذي أوضحه رئيس الوزراء فور وصوله القصر الرئاسي وأدائه القَسَم، فالبراغماتية منشأها أوراسيا القديمة وفلاسفتها هم جدود بوتين وترمب وميركل، والمُحافظون الجدد في فرنسا وبريطانيا، ولا ترضيات إلا بمصالح والعقد شريعة المُتعاقدين.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.